لسنوات طويلة، ودولة رواندا الواقعة في شرق أفريقيا تشهد اضطرابات وانقسامات سياسية وصراعات داخلية عنيفة ودامية، حد الحروب الأهلية.
وخلال الأعوام الأربعة، من 1991 وحتى 1994، توجت هذه الصراعات الدامية بأن ظلت رواندا تحت سيطرة مثلث الرعب والموت والإبادة الجماعية في جريمة تُعدّ من أبشع الجرائم الإنسانية في التاريخ المعاصر. فخلال مائة يوم فقط، أسفرت عمليات الانتقام القاسية والوحشية عن قتل أكثر من مليون رجل وامرأة وطفل. ومع عدم وجود مكان للهرب والإحتماء، تعرض حوالي 75٪ من سكان البلاد من إثنية التوتسي للإبادة والقنص والضرب حتى الموت. وقام بهذه الجرائم أغلبيةُ الهوتو حتى الذين كانوا أصدقاء وجيرانا سابقين للتوتسي. وفي الوقت نفسه، قُتِلَ أيضا أكثر من 30.000 من الهوتو المعتدلين الذين رفضوا المشاركة في هذه الإبادة الجماعية، إذ اعتُبروا «خائنين» يجب التخلص منهم! ونتيجة لهذه الفظائع؛ لجأ أكثر من ثلث السكان، مليوني رواندي، إلى البلدان المجاورة، بحلول أغسطس/آب 1994. وطيلة أعوام الإبادة الجماعية هذه، ظل المجتمع الدولي والإقليمي مكتفيا فقط بإصدار المطالبات بوقف الإقتتال، وموزعا الشجب والإدانات على المتسببين، دون إتخاذ أي خطوات عملية لإنقاذ شعب رواندا، وفق ما نصت عليه المواثيق والعهود الدولية والإقليمية.
وبتاريخ 15 يونيو/حزيران الجاري، وجهت 30 منظمة مدنية سودانية فاعلة رسالة مفتوحة إلى الأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي، والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية، والاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه، والجهات الفاعلة الإقليمية والدولية الأخرى المعنية بالوضع في السودان، بما في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا ومصر ودول مجلس التعاون الخليجي، بغية تنبيه هولاء جميعا إلى العنف المتصاعد ضد المدنيين في السودان، وتحديدا في مدينة الجنينة، بولاية غرب دارفور، والذي يعكس نمطاً من التطهير العرقي وجرائم الإبادة الجماعية. وقبل يوم من تاريخ هذه الرسالة، تحدث والي غرب دارفور إلى العالم عبر إحدى القنوات العربية واصفا ما يجري في الجنينة بالإبادة الجماعية ومستنجدا ومستجيرا بالمجتمع الدولي والإقليمي، فكان جزاؤه القتل بوحشية في غضون ساعات. المنظمات الموقعة على الرسالة، طالبت الجهات أعلاه بتدبير حماية المدنيين في دارفور، وخاصة سكان الجنينة، وفي كل أنحاء السودان، كما طالبت بمحاسبة قوات الدعم السريع لفشلها في وقف عمليات قتل المدنيين على نطاق واسع ومنهجي على أيدي جنودها، وكذلك محاسبة القوات المسلحة السودانية عن الجرائم المزعومة، بما في ذلك تقاعسها عن ممارسة واجبها الدستوري في حماية المدنيين من الجرائم البشعة التي تُرتكب حالياً في غرب دارفور.
وجهت 30 منظمة مدنية سودانية فاعلة رسالة مفتوحة إلى الأمم المتحدة، والجهات الفاعلة المعنية بالوضع في السودان، بغية تنبيه هولاء جميعا إلى العنف المتصاعد ضد المدنيين في السودان، وتحديدا في مدينة الجنينة، بولاية غرب دارفور، والذي يعكس نمطاً من التطهير العرقي
مقصد حديثنا في الفقرتين أعلاه، أن السودان يسير بخطى حثيثة نحو مسار رواندا قبل أن تستعيد عافيتها. فالحرب الدائرة الآن في السودان، تتجه لتسودها جرائم القتل على أساس الهوية الإثنية، كما نشهد اليوم في مدينة الجنينة والعديد من المناطق الأخرى في دارفور وكردفان وغيرهما، وكما شهدنا من قبل في جنوب النيل الأزرق وبعض مناطق شرق السودان. والحرب الدائرة الآن في الخرطوم، فاقمت خطاب الكراهية والعنصرية، والذي أصلا كان متقدا قبل اندلاع القتال وتدمير عاصمة البلاد. أما المجتمع الدولي والإقليمي، فيواصل مسلسل الاكتفاء بإعلاء صوت الشجب والإدانة والمطالبة بوقف الإقتتال، ولا نتيجة سوى سماعه لصدى صوته، مثلما كان حاله حيال حرب رواندا ومثلث رعبها الذي امتد لأربعة أعوام شكلت وصمة عار في جبينه. نحن نعتقد أن كل الشواهد تقول إن سيناريو رواندا المرعب يمكن أن يتكرر في السودان، فهل ستتأكد وصمة العار تلك وتزداد إلتصاقا بجبين المجتمع الدولي والإقليمي وهو يتقاعس عن درء الكارثة في السودان كما كان عجزه حيال رواندا في تسعينات القرن الماضي؟ ومباشرة نقول، إن إنقاذ المدنيين ودرء الكارثة عن السودان يتطلب تدخلا مباشرا من المجتمع الدولي والإقليمي لفرض وقف الإقتتال بالقوة وإقامة مناطق منزوعة السلاح تسمح بتدفق المساعدات الإنسانية إلى المواطنين المحاصرين. وقد ناقشنا من قبل تفاصيل هذا التدخل المباشر.
أما الشق السياسي للتصدي للحرب وإيقافها، ومن ثم انطلاق عملية سياسية جديدة، فهي من مهام القوى المدنية والسياسية السودانية، ممثلة في النقابات المنتخبة ولجان التسيير والأجسلم المهنية، لجان المقاومة، الأحزاب والحركات المسلحة، منظمات المجتمع المدني، تنظيمات السودانيين في المهجر، المبادرات والشخصيات الوطنية. وهذه المهمة تستوجب انتظام كل هذه التنظيمات والمجموعات والأفراد الرافضة للحرب في كيان تنسيقي مرنة هدفه الرئيسي هو وقف الحرب واستعادة مسار ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 والحفاظ على بنيان الدولة السودانية ومؤسساتها بما في ذلك الجيش الموحد الواحد. ويأتي الربط بين وقف الحرب وإستعادة مسار الثورة، باعتبار أن الهدف الرئيسي من إشعال الفلول للفتنة التي كان من الممكن إخمادها في مهدها، واستغلالهم للاحتكاكات بين قيادة الجيش وقيادة الدعم السريع لتفجير الأوضاع واندلاع الحرب، هو تصفية الثورة وعودتهم إلى السلطة. وقد أشرنا في مقال سابق إلى أهمية انتظام هذا الكيان التنسيقي في بنيان مرن وفي لجان ومجموعات عمل داخل السودان وخارجه، تنخرط في جبهات النشاط العملي المختلفة، وذلك وفق برنامج عمل مركز، أول بنوده هو خلق آليات للتنسيق مع الجهود الجارية من قبل المجتمع الدولي والإقليمي، وذلك بهدف التوافق حول آليات الضغط الممكنة على طرفي القتال لتحقيق وقف دائم للعدائيات، وبهدف تواجد القوى المدنية والسياسية السودانية، وفق تمثيل موحد وموقف سياسي متوافق عليه حول ملامح العملية السياسية الجديدة، في أي منبر يبحث ترتيبات انطلاق هذه العملية، وبهدف تواصل هذه القوى مع دول الجوار والمنظمات الإقليمية والدولية، والمشاركة في مباحثات ومشاورات هذه الدول والمنظمات حول الوضع المتفجر في السودان، وبهدف التنسيق مع العالم في تقديم العون الإنساني للسكان المدنيين عبر شبكات المبادرات الشجاعة لشباب السودان.
وسنظل نكرر، إن الحرب المشتعلة في السودان، جريمة تستوجب المساءلة والعقاب.
نقلا عن القدس العربي