وجدت الآثار السالبة للحرب المندلعة بين الجيش السوداني والدعم السريع، طريقها إلى جميع مناطق البلاد دون استثناء، اقتصادياً واجتماعياً، ولم تكن مناطق التعدين الأهلي عن الذهب في الصحراء بعيدة عن تلك التأثيرات.
وكشفت جولة لصحيفة «التغيير» على مناطق التعدين الأهلي في دلقو بالولاية الشمالية- سوق الطواحين بدلقو وجبل البوم «منطقة آبار الذهب»- بمحليتي عبري ودلقو في عمق الصحراء على بعد «165» كلم شمالي عاصمة الولاية دنقلا، عن جزء من تلك الآثار التي ضربت قطاعاً مهماً ومؤثراً في الاقتصاد السوداني.
آثار الحرب بدت واضحة في ذلك المكان حيث ضرب الكساد سوق الصاغة وتوقفت العديد من آبار الذهب نتيجة لعزوف أصحاب الأموال عن الاستثمار ومشاركة أصحاب الآبار والمعدنين في استخراج الذهب من الأعماق على بعد مئات الأمتار.
وتناقصت أعداد العاملين في الطواحين بـ«دلقو» والباحثين عن المعدن الأصفر بصورة واضحة لأي شخص سبق له زيارة المكان.
وبحسب أفادت أصحاب محال تجارية بالمنطقة وجبل البوم فإن معظم الذين ذهبوا قبل الحرب لم يعودوا من ذويهم بعد انتهاء عطلة عيد الفطر كما جرت العادة.
وأكد بعضهم لـ«التغيير» أن الحرب منعت الكثيرين من العودة بجانب توقف الآبار المنتجة للذهب نتيجة لإحجام المستثمرين عن العمل لقلة الكاش وخوفاً من الوضع الأمني المتردي ما دفع الصياغ لمغادرة المكان.
فيما رجح بعض العاملين في القطاع، أن نسبة كبيرة من الذين لم يعودوا ينتمون لحركات مسلحة أو ربما لمليشيا الدعم السريع.
وبات الوضع الأمني يشكل الهاجس الأول للمعدنين بمختلف مسمياتهم حيث انتشرت سرقات آبار الذهب بصورة غير مسبوقة عقب اندلاع الحرب في الخرطوم بجانب التهريب لخارج السودان.
جبل البوم منجم الذهب الكبير
مسيرة التعدين التقليدي للذهب بجبل البوم الممتد في الصحراء بمحليتي دلقو وعبري بالولاية الشمالية بدأت في العام 2010م.
ويعتبر المنجم الأكبر في الولاية حيث يضم «30» منجماً يحتوي كل واحد على عشرات الآبار ويضم- بحسب لجنة فض النزاعات- «25» ألف معدن.
وعقب ظهور الذهب بكميات كبيرة حاولت إحدى الشركات التركية العاملة في المجال الاستثمار بالجبل لكنها توقفت لأسباب فنية متعلقة بنوعية الذهب المنتج (بودرة) وليس كتل حجارة بما يعيق عمل الآليات لذلك انسحبت الشركة من المنجم الذي أصبح أحد أكبر مناجم التعدين الأهلي في الشمالية.
لجنة فض النزاعات
«فض النزاعات».. حقائق مهمة
ووصف مقرر لجنة فض النزاعات بجبل البوم الصادق حسن طه، الوضع الأمني في المنطقة بالمتردي بسبب انتشار السرقات اليومية للآبار في ظل غياب الشرطة عن المنطقة.
وقال إن اللجنة تم انتخابها بعد حل اللجنة القديمة في العام 2019م، وذكر أنه كانت تسيطر عليها مجموعة قبلية محددة، لذلك تم انتخاب لجنة جديدة فيها تمثيل لجميع المكونات القبلية بالمنطقة وهي تجد السند والدعم من الجميع واستطاعت حل العديد من الإشكالية.
أساليب الاحتيال
وذكر الصادق لـ«التغيير» أن السرقة تتم عبر العديد من أساليب الاحتيال وأبرزها حفر بئر مجاور للبئر المنتجة.
وقال: «يقوم هؤلا المحتالون بحفر بئر جديدة بالقرب من البئر المنتجة حتى يختلط الأمر داخل الأعماق بحسب زعمهم أن الإنتاج يتبع لهم وفور حدوث نزاع بين الطرفين تحاول اللجنة حل المشكلة».
وأضاف: «لكن في الغالب تحول القضية للمحكمة بعد رفض قرار لجنة فض النزاعات وغالباً ما يصدر القاضي في المحكمة قراراً بإيقاف العمل في البئر المتنازع عليها. وبالتالي المتضرر الرئيسي هو صاحب البئر المنتجة الذي يضطر لعمل تسوية مع هؤلاء المحتالين ويمنحهم مبالغ مالية حتى لا يتوقف العمل».
ونوه إلى أن هنالك سرقات مباشرة للآبار عن طريق جماعات يمكن أن يطلق عليها عصابات منظمة ازداد نشاطها مؤخراً بعد الحرب. «بعضهم يسرق حجارة الذهب بالحفر داخل الآبار المجاورة المنتجة والاستيلاء عليها».
شركة الموارد المعدنية.. أدوار مفقودة
وانتقد الصادق الشركة السودانية للموارد المعدنية، ووصفها بأنها شركة جبابات فقط تأخذ مبلغ «2500» جنيه من كل جوال حجر يصل لسوق الطواحين في دلقو علماً بأن السوق يستقبل من منطقة البوم وحدها «1000» جوال يومياً.
وقال: «في المقابل نحن كمعدنين ليس لدينا أي خدمات تحديداً الخدمات الصحية والعلاجية غير متوفرة، كذلك صحة البيئة حدث ولا حرج».
غياب الشرطة
الضعف الأمني في المنطقة بسبب غياب مراكز الشرطة يضطرهم أحياناً للذهاب إلى محليتي عبري ودلقو لعمل الإجراءات القانونية عند وجود بلاغات وهي عملية معقدة وبطيئة جداً تتسبب في ضياع الحقوق.
وأوضح أنهم سبق وذهبوا لمحليتي دلقو وعبري لطلب قيام قسم شرطة في منطقة جبل البوم لكن لم تتم الاستجابة.
وأضاف: «عند وجود شكوى أو بلاغ يضطر المتظلم لقطع عشرات الكيلومترات في الصحراء وصولاً للمحلية في دلقو وعبري لفتح بلاغ.. إيجار السيارة إلى هناك بمبلغ يصل لـ(400) ألف جنيه وهذا الوضع أغرى المجرمين بالتمادي في الجرائم لعلمهم بصعوبة فتح البلاغات لذلك كثرت سرقات الآبار».
وقال الصادق: «ظللنا نعاني من الظلم والتهميش منذ كانت منطقة جبل البوم تحت إشراف المحليات التي كانت تملك الحق في العمل داخل الآبار الجديدة التي تصل مرحلة الإنتاج لمدة 6 أيام».
الحفر الخاطئ
وواصل مقرر لجنة فض النزاعات حديثه لـ«التغيير» قائلاً: «وافقنا على ذلك الأمر في تلك الفترة رغم أن عمال المحليات ليست لديهم خبرة كافية في العمل وكانت الآبار تتعرض للهدم نتيجة للحفر الخاطئ وتوقفت العديد من الآبار».
بعد ذلك- والحديث للصادق- تم استبدال النظام بنسبة «10%» من الإنتاج، وتم استبدال هذا النظام بالعودة لفرض الرسوم على كل جوال حجر بواقع «800» جنيه في البداية حتي وصل المبلغ حالياً إلى «2500» جنيه. وتساءل الصادق أين تذهب هذه المبالغ؟.
نزاعات كبيرة
وأكد الصادق أن لجنة فض النزاعات بجبل البوم نجحت في حل الكثير من القضايا، لكن في المقابل هناك نزاعات كبيرة تذهب للمحاكم متعلقة بالآبار حيث تجمد المحاكم العمل في الآبار عند وجود شكاوى الأمر الذي يتضرر منه الجميع.
وقال: «نجحنا في اللجنة في حفظ جزء من حقوق العاملين بحجز الأموال لطرفي النزاع (أصحاب الآبار) عند الصياغ في مقابل منح العاملين حقوقهم بنسبة (50%)».
جبل البوم
جماعات مسلحة
وأقر الصادق بوجود جماعات مسلحة بعضها يتبع للتمرد في مناطق التعدين الأهلي بجبل البوم.
«هذه الجماعات لديها أسلحة طبعاً وسبق أن وقع نزاع بين مجموعات قبلية انتهى بتدخل الجيش».
وأضاف: «نخشى أن يتسبب وجود الجماعات المسلحة في نشر العنف والنزاعات المسلحة في الولاية الشمالية ومناطق التعدين التي تضم كافة قبائل السودان وهم يعيشون في أمن وسلام».
فوضى وسرقات
فؤاد عبد اللطيف نوري صاحب بئر بمنطقة جبل ألبوم وأحد المتضررين من السرقات أكد «التغيير»، ارتفاع وتيرة السرقات والاعتداءت على الآبار من قبل أشخاص معروفين في المنطقة.
وأوضح أن المجموعة التي تمارس السرقات تلجأ للاحتيال بحفر بئر بالقرب من البئر التي تبلغ مرحلة الإنتاج وعند الوصول لأعماق محددة يتحول مسارهم بالدخول للبئر المنتجة. «حدث هذا الأمر معي ومع الكثيرين».
وأضاف فؤاد: «عقب عملية السرقة هذه يسبقك المحتال إلى المحكمة شاكياً ويدون بلاغاً حتى يحدث نزاع. خلال هذه الفترة يتم إيقاف العمل من قبل القاضي ويمكن أن تتحول القضية لمدنية تضطر كصاحب بئر ومتضرر إلى الرضوخ لتسوية مع الطرف الآخر يأخذ من خلالها أموال من صاحب البئر المنتجة. علماً بأنهم لا يمتلكون أي أوراق ثبوتية. يحدث هذا الأمر نتيجة لخلل وتعقيدات في طريقة التعدين الأهل».
وتابع: «خلال فترة النزاع يقوم هؤلا (الكوماجية) والملثمين المسلحين بإرهاب العمال في الآبار ويأخذون الإنتاج ويمارسون كل أنواع الفوضى. والغريب ان هذا الأمر تحت مرأي ومسمع الشركة السودانية الموارد المعدنية».
تهريب الذهب
بدوره، أكد يوسف إسماعيل بشار لـ«التغيير» أن معظم كميات الذهب التي تستخرج من التعدين التقليدي لا تذهب عبر القنوات الرسمية لبنك السودان كما لا توجد بورصة للذهب في المنطقة أو الولاية بل تجد طريقاً ممهداً للتهريب.
وقال: «معظم الكميات المنتجة تذهب عبر الحدود المصرية عن طريق (بني هلال) بسعر البورصة العالمية الذي يزيد عن الأسعار المحلية بـ(30%) تقريباً».
وقدر الكميات المهربة من الذهب لخارج السودان بـ«90%».
ووصف بشار الشركة السودانية للموارد المعدنية بأنها مجرد سمسار في المنطقة يأخذ نصيبه من كل جوال وفي المقابل تصمت الشركة عن تهريب الذهب والسرقات في الآبار.
تهديد مستمر
وكشف بشار عن عدد من الشكاوى التي رفعتها اللجنة من ضمنها بلاغ في «15» جوال عثرت عليها الشرطة ليلاً وحجزتها.
وقال: «لكن للأسف عند الصباح لم نجدها هذا مثال من عشرات الأمثلة لحالة الفوضى وغياب الدولة لك أن تتخيل سابقاً السرقات كانت جوال وجوالين والآن (الكوماج) اللصوص يأتون بالسيارات لسرقة الآبار يومياً وعندما يتم فتح بلاغ يطلق المتهمون بالضمان فقط».
وأضاف: «والأدهى والمحير أن اللصوص يعودون أحياناً للانتقام من الشخص الذي دون البلاغ».
فيما قال بابكر خليفة صالح عضو اللجنة «التغيير»، إنه ظل يعمل في التعدين الأهلي لمدة «8» سنوات لم يواجه ظروفاً أمنية سيئة مثل هذه الأيام.
وأضاف: «المنطقة بها 30 منجم للذهب ولا يوجد قسم شرطة واحد».
وانتقد الشركة السودانية للموارد المعدنية، وقال: «تأخذ في كل جوال يصل لطواحين الذهب مبلغ 2500 جنيه علماً بأن سوف الطواحين بدلقو تستقبل يومياً أكثر من 4 آلاف جوال ولا تقدم أي خدمات للمعدنين».
غياب الاسعاف
وطالب نائب رئيس اللجنة عبد المجيد علي دهب في حديثه لـ«التغيير» بسيارة اسعاف.
وقال: «التعدين يتسبب في إصابات مختلفة وهنالك أمراض تنتشر في الصيف والخريف ولا توجد عربة اسعاف. أحيانا نضطر لنقل المرضى بالسيارات العادية لمستشفيات دلقو وعبري ولا يوجد حتى مستوصف عام بجبل البوم.. هنالك عيادات لكنها غالية جداً».
بينما شكا الشويحي يونس إبراهيم- صاحب آبار من توقف العمل، وقال لـ«التغيير»، إن هنالك عدداً كبيراً من الآبار وصل مرحلة الإنتاج لكن- للأسف- توقفت بسبب عدم وجود مستثمرين لأن المراحل الأخيرة تحتاج مستثمرين بالشراكة لاستخراج الذهب.
المصدر : التغيير
التغيير: الفاضل إبراهيم