هل أنا محظوظة؟ بمنطق الحرب نعم! حتى الآن لم تخترق جسدي رصاصة طائشة أو شظية عمياء! ولم أفقد أحداً من أفراد أسرتي ونجحت في النزوح إلى مكان آمن (آمن إلى حين إشعار آخر)! ولكن لماذا أنا بكل هذا الحزن؟ لماذا هذه الغصة التي تسد حلقي وهذه الدموع المتحجرة في عيني بشكل دائم، تأبى أن تسيل فتطفئ مؤقتاً نار حزن وغضب وحسرة تعتصرني! فأظل عالقة في بكاء مكتوم يحتل كل ذرة في كياني! هل لأنني أرى وجه أمي وأبي في وجوه كل كبار السودان المحرومين من الدواء والأمان والكرامة! وأرى وجوه أحبتي في كل الجثث المتناثرة والأوصال المقطعة وأدرك أن كل قتيل وجريح كان يمكن أن يكون أحد أفراد أسرتي الصغيرة أو أحد أصدقائي ورفاقي في رحلة الحلم الوطني الكبير!
نعم هو كذلك، ولكن للحرب خنجر آخر ينغرس في أحشائنا كل يوم! هو ذلك الشعور بالهوان والخواء وفقدان القيمة الجماعي الذي يقهرنا عندما نرى الوطن يتدمر ويتحول إلى مدن أشباح! الدول تجلي رعاياها، وبعض دول الجوار تغلق حدودها، وفي لحظة تنهار جدران المباني والمعاني، ووحش الحرب يسحق تحت أقدامه إرشيف وثائقنا ومستودعات ذاكرتنا وعصارة تجاربنا التي نحتاجها بشدة بكل ما فيها من نجاح وفشل ونقاط قوة وضعف وانتصارات وانكسارات، نحتاجها لتصحيح مسار المستقبل، أمام ناظرينا تحترق أموالنا ونموت ونتشرد تحت قصف آلة عسكرية دفعنا ثمنها من مواردنا وعرق دافعي الضرائب! حياة أطفالنا وشبابنا وشاباتنا موفوري الذكاء والعطاء وأمل المستقبل وحياة آبائنا وأمهاتنا ملاذ الطمأنينة مجرد خسائر جانبية! أرقام لا قيمة لها في حسابات “قمار سياسي” مسرحه وطن وكروت لعبه بشر من لحم ودم!
في هذه الحرب بكيت ذلي وهواني وقلة حيلتي!
بكيت وطني الذي يتسرب من بين يدي وأخشى أن ينتهي أجلي قبل أن أراه سالماً آمناً ناهضاً!
تذبحني الأغاني والأناشيد الوطنية وأخشى أن تتحول إلى بكاء على أطلال وطن!
في هذه الحرب بكيت على الآلاف الذين لا أعرفهم إلا كمواطنين سودانيين هم مني وأنا منهم!
بكيت أهل الجنينة والخرطوم ونيالا والفاشر وزالنجي
بكيت على ابن جيراننا الذي قتل وهو يحارب في صفوف الجيش وقد كان شاباً طيباً خلوقاً خدوماً كنا نحبه بصدق رغم معرفتنا بأنه أحد أفراد كتائب الظل!
نعم بكيته بحرقة وحزنت عليه بصدق رغم رأيي في هذه الحرب التافهة، وبكيت كذلك شباباً قتلوا وهم يحاربون في صفوف الدعم السريع الذي ساقتهم إلى صفوفه ظروف الفقر في بيئة صحراوية مجدبة لا أفق فيها للحياة إلا عبر حرفة القتل! بعضهم شجعان وكرماء وكان يمكن استيعابهم في جيشنا الوطني وحشدهم لحماية حدود الوطن لا حدود قصور أمراء الحرب وشركات الجنرالات!
بكيت جنود الجيش الفقراء الذين دفعوهم لهذه الحرب على حين غرة بلا استعداد
ولا أرى تناقضا في أن لدي متسعاً من الحزن يضم ضحايا الحرب الأبرياء وقتلى الجيش والكيزان الطيبين مثل ابن جيراننا وقتلى الدعم السريع، لأنني لا أعتقد أن هناك فصيلاً سياسياً واجتماعياً يمكن أن يكون كتلة صماء من الشر والظلام، فهناك أخيار في مؤسسات شريرة وهناك شريرين في مؤسسات خيرة! وكل شيء نسبي فلا مطلق إلا الحق سبحانه وتعالى!
وما الديمقراطية إلا صيغة عقلانية للتعايش السلمي بين المختلفين مهما بلغت درجة اختلافهم، وهي صيغة جذرها الفلسفي هو أن أي صراع سياسي اجتماعي هو صراع النسبي مقابل النسبي، إذ لا مطلق في صراعات البشر الدنيوية!
الديمقراطية أضمن الطرق للسلام لأنها لا تعرف الاستئصال ولا الاقصاء النهائي بل هي فن استيعاب الجميع في معادلة سياسية واقعية وعقلانية ومرنة يحكمها قانون “حيازة الشعب للسلطة السياسية”، بمعنى أن الطريق إلى السلطة هو الحصول على التفويض الشعبي عبر انتخابات حرة نزيهة في بيئة سياسية وقانونية مواتية لحرية الاختيار وتكافؤ الفرص!
تمنينا أن تنجح فترتنا الانتقالية في تهيئة الملعب السياسي للديمقراطية التعددية ولكن كان للعسكر رأي آخر!
أحد الأوجاع الكبيرة لهذه الحرب هو الإحساس المر بالهزيمة التاريخية أي السباحة عكس تيار التاريخ! فالحرب بين جيش يسيطر عليه فصيل سياسي غايته اغتصاب السلطة بالقوة، ومليشيا تهدف لذات الهدف وهو اغتصاب السلطة بالقوة!
وهنا تكمن الهزيمة بالمعنى الحضاري، إذ ما زلنا في خانة استبداد القوة العارية واحتقار إرادة الشعوب بل واسترخاص حياتها والعبث بأمنها في الصراع المتوحش على السلطة!
الحد الفاصل بين التقدم والتخلف في مدارج الصعود الحضاري والتمدن هو أن تكون المؤسسة العسكرية تحت سيطرة وتحكم السلطة السياسية المدنية، وأن تكون مرجعية هذه السلطة السياسية المدنية هي التفويض الشعبي المؤقت بفترة زمنية محددة دستورياً، وممارستها تتم تحت رقابة ومساءلة ومحاسبة الشعب إلى أن يحين موعد الانتخابات لتجديد التفويض أو سحبه، وكل ذلك عبر آليات وإجراءات مؤسسية نزيهة وشفافة تعمل وفق دستور ديمقراطي وفي مناخ حريات عامة وقضاء مستقل.
تتقدم الشعوب وتتمدن بقدر ما تتحرر من الوصاية السياسية المفروضة بقوة السلاح، وبقدر ما يكون الجيش ذراعاً تنفيذياً تحت سيطرة السلطة الشرعية، وبالتالي فإن أهم ركن من أركان الديمقراطية وأكبر اختراق تاريخي حققته النظم الديمقراطية هو خضوع المؤسسة العسكرية للقرار المدني.
المصدر: التغيير