التقيتُ نفراً من السودانيين ممَّن ذاقوا مَساً من ويلات الحرب فقدموا إلى “مِصر المُؤمَّنة” طالبين السلامة وسائلين المولى عزّ وجل الطمأنينة، السكينة ويسر الإقامة (بمعنى قِصْرِهَا وتذليل صعابها)، فقد تركوا وراءهم إرثاً معنوياً وذكريات جماعية ومدَّخرات تعرضت للنّهب بيد أنّهم يملكون من العزيمة والخبرة والتراكم المعرفي ما قد يمكّنهم من تعويض الخسارة التي تهون إذا ما قورن فقدان الممتلكات بتصدع الوجدان وضياع الأوطان. لا أود في هذه المقالة التحايل على النازحين والمُهجَّرين أو التلاعب بمشاعرهم وعواطفهم، فإنني أنطلق فيما أكتب دوماً من أن للسودان – في المستقبلِ القريبِ جداً – مستقبلاً باهراً لا يرتبط بتوفر الموارد البشرية والمادية قدر ما يرتبط بتبدل المفاهيم، اليقظةِ الروحيةِ، والاستعداد النفسي والذهني لبلورة رؤيةٍ تنمويةٍ غير متأثرةٍ بالأطر الأيديولوجيةِ، المصالح الفئوية أو المفاهيمِ الماورائية.
انتقل الشاقول السلطوي (pendulum of power) في الفترة ما بين ١٩٦٩م إلى ١٩٨٩م من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ولم يكن هذا الحراكُ حراكاً ميكانيكياً بل كان حراكاً وجودياً ومؤسسياً أجَّج معه مشاعرَ دينيةٍ وعرقية وأحدث حساسيةً مناطقية أدَّت إلى انفصالِ جزءٍ عزيزٍ من الوطن (جنوب السودان)، تسبب في مقتل ٢،٥ مليون نسمة (وذلك قبل حدوث الإبادة الجماعية التي راح ضحيتها ٣٠٠ ألف نسمة في دارفور)، وترك أقاليم أخرى على شفا جرفٍ يكاد أن ينهار بعضها تاركاً السودان على مصاف الدول المفتتة وقد تجاوز مرحلة الدولة الفاشلة. اليوم فقط أدرك “الليغ السياسي القديم” – بعد أن حَلَّقت الطائرات المقاتلة فوق رأسه ودمَّرت جزءاً من بيته وشرَّدت عائلته – معنى أن تدور حروبٌ طاحنة في الريف السوداني لفترة تتجاوز الستة عقود (ونحن نهرع إلى الله ونتوسل إليه في هذه الأيام أن لا تطول محنتنا فتصل إلى ستة أشهر)!.
هذا كفيلٌ بإحداث تغيير في المفاهيم يحثنا على تدارك الأزمة الدستورية التي دارت رحاها حول علمانية الدستور أو إسلاميته، وقد كان من المفترض أن يكون الحوار عن بنية الدولة وهيكلها المُفضي إلى سلام مستدام. يلزمنا أن نرجع إلى دستور ١٩٧٤م الذي لا يتضمن علمانية سافرة (كالتي يتحدث عنها الحلو)، كما لا يجعل لمجموعة معينة وصاية أخلاقية على بقية المجموعات (ما يوصف بالدوغمائية المقننة التي كانت تمارسها المجموعات العقائدية كافة والإسلاميين خاصة). يركز هذا الدستور على السلطات الرئاسية التي يحتاجها السودان في السنوات القليلة القادمة كي يتفادى تداعيات الحرب الأهلية، إذ لا بد من مركزيةٍ قابضة تحول دون تلاعب قادة الحركات والسياسيين الآخرين بمصائر الأقاليم، لا سيما أنَّ هذه الأقاليم – حسب تجوالي في بعضها وتفحصي لمقدراتها – لا تملك مقدرةً مؤسسية تُقَوِّم بها تجربةً فيدراليةً ناجحة. عليه فلا بد من الانتقال تدريجياً من مركزية إدارية ومركزية سياسية إلى لا مركزية إدارية ولا مركزية سياسية.
إنَّ الأسلوب الذي اتبعته “العصابة الإنقاذية” في تطبيق الفدرالية – والذي تضمَّن تصميم مركزية سياسية ولا مركزية إدارية وإعفاء المركز من تحمل التبعات المالية – تسبب في خلق اصطفاف قبلي كانت نتيجته خلق مركزيات بديلة هي المتسبب الأول في الحروب الحالية. إلى حين قيام المؤتمر الدستوري لا بد أن نفكر في أهمية تَبنِّي نظام رئاسي على الطراز الفرنسي يمنح “الكتيبة الظافرة” من العسكريين – التي ستحسم الفوضى العسكرية والسياسية الراهنة – سلطة تعيين رئيس وزراء مدني تُترك له حرية اختيار تكنوقراط يقومون على ترتيب أمر السودان في الخمس إلى عشر سنوات القادمة. متى ما تسنَّى قيام انتخابات رئاسية (وهذا ممكن في القريب العاجل لأنه إجراء لا تعتريه صعوبات تصميم الدوائر ولا تُقَوِّضه فكرة وجود مراكز لجوء أو نزوح خارج البلاد وداخلها) يمكننا الانتقال إلى نظام رئاسي – على الطراز الأمريكي – تتولى مراقبته الأجهزة التشريعية بشقَّيها المنتخب والمُعيَّن. أقترح أن يكون هناك مجلسين في السودان، مجلس شيوخ لكبار الشخصيات الوطنية والأهلية “الدينية والقبلية” والعسكرية والعلمية، ومجلس منتخب كي نفك الاشتباك بين القوى التقليدية والقوى الحديثة ونمضي نحو أفق تنموي رَحب.
يحتاج السودان إلى رؤية استراتيجية شاملة ومتكاملة تستهدف قيام مشاريع تنموية ضخمة في شرق البلاد وغربها كي نستطيع أن نلج إلى العمق الإفريقي (شرق إفريقيا وغربها) مستفيدين من موقعنا الجغرافي الذي بات معطلاً بسبب النظرة الجهوية القاصرة. لا يمكن للشرق (شرق السودان) أن يزدهر إلا إذا ارتوت عروقه بمياه النيل، إذ طالما تكلم المستثمرون عن مد أنبوب عريض من نهر عطبرة وربطه لاحقاً بسفن تنقل المياه إلى الخليج الذي تتساوى فيه قيمة المياه والبترول!. متى ما ربطنا الشرق بالغرب عبر السكك الحديدية فسوف نستطيع نقل البضائع من إفريقيا المنغلقة والتي ليس لها منفذٌ على البحر (land-locked Africa). لا ننسى الطريق الذين اتبعه مسلمو شمال وغرب إفريقيا للذهاب إلى الحج، والذي يمكن أن يُعَمَّر ويُهيأ من جديد. ليس هذا فقط بل إنَّ بإمكان السودان الاستحواذ على الفضاء الإفريقي، وذلك بالاستفادة من موقعه لربط غرب إفريقيا بشرقها، وشمال إفريقيا بجنوبها الذي يحتاج ساكنوه أحياناً للذهاب إلى دبي كي يصلوا إلى دولة إفريقية أخرى. إن رأي الخبراء المختصين يفيد بأنَّ بإمكان السودان أن يلعب دوراً أكثر حيويةً من الدور الذي تلعبه دبي حالياً في الملاحة البحرية وأفضل من الدور الذي تلعبه إثيوبيا في الملاحة الجوية. هذا الأمر يلزم أن يخضع لدراسة دقيقة ومفصلة، متى ما انتبه السودانيون لأهمية الاستفادة من فردوسهم الأرضي.
إن العائد المالي من “المناطق الحرة” التي يجب أن تنشأ في دنقلا، الجنينة، وبورتسودان، يمكن أن يوظف لصالح توفير البنية التحتية وزيادة الوعي الإنتاجي في قطاعيّ الصمغ العربي والذهب اللذين وجب تأميمهما لوقف التلاعب فى قيمتهما والعمل في الحد من تهريبهما للخارج. لا أود أن أسترسل في هذه الرؤية التي لا يسع المجال لطرحها كاملة، لكنني أود أن أقول إن المشاريع القادمة للسودان، من طاقة شمسية تنير المناطق الريفية وصناعات غذائية تشمل تطوير القطاع الزراعي والرعوي في الجزيرة وغرب السودان، ستكون في القريب العاجل أكبر من طاقتنا للمساهمة والاستيعاب. عليه، يجب أن نستعد لعقد شراكات ذكية مع المجتمَعَين الإقليمي والدولي (القطاع الخاص كلٌ على قدره، والدولة على حسب قدرتها التفاوضية والمالية التي تعتمد على حنكتها ونفاذ سياستها الخارجية). لا توجد في العالم اليوم مشكلة سيولة، بل بالعكس هنالك مشكلة في تكدس الأموال في البنوك دون أن تتوفر لأصحابها فرص للاستثمار. هنالك مشكلة ثقة ترتبط بالاستقرار السياسي والأمني، النظام القضائي والعدلي، النظام المصرفي والمالي، الشفافية والمحاسبية، قانون الأراضي والاستثمار، الحوكمة الإلكترونية، إلى آخره من القضايا التي يجب أن تُقَوَّم قبل أن يكونَ السودانُ قبلةً للاستثمار وهو لا محالةَ كائن.
يجب أن نعطي الأولوية في المرحلة القادمة لتقنين مفهوم الحكامة أو الحِكمانية (governance) مع التفكر في وضع لَبِنات تؤسس تدريجياً لديمقراطية سياسية قوامها الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية. لا بد أن تضع حكومة “الفترة التأسيسية”صوب أعينها خمس قضايا أساسية – سيما أننا خارجون من حرب ولا توجد منصة انتقال مدنية أو سياسية – (استتباب الأمن وذلك باتخاذ إجراءات قانونية صارمة تشمل المحاكمات الميدانية للمجرمين والمتسببين في تشرد المواطنين، إصلاحات مؤسسية عاجلة لمعالجة الوضع الإداري المتردي، معالجة المأساة الإنسانية في شمال البلاد وغربها، قرارات اقتصادية جريئة وفاعلة لتعويض المنهوبين وجبر خاطر المستثمرين بإعطائهم قروضاً بشروط ميسرة جداً، ترتيبات أساسية لملء الفراغ الدستوري والقانوني. إن أي انتقال لا يراعي معالجة الإشكالات الهيكلية والبنيوية في الدولة السودانية (الدستور، نظام الحكم “مركزي أم فدرالي وعلى أي نحو”، النموذج التنموي، إلى آخره..) سيكون مصيره الفشل، خاصة في ظل التعقيدات الحالية والوعي المتحصل للجمهور الذي ما عادت تنطلي عليه حيل السياسيين وألاعيبهم التي ما باتت تُسلي أحداً أو تغري لاهياً.
ختاماً، لم أسع في هذا المقال إلى اتباع “منطق تجاوزي” بعدم تعرضي للحيثية المادية التي ستنتهي بها الحرب أو تلك التي سننتقل بها إلى الرخاء والسلام، لكنني تعمَّدت التركيز على الأسس المعنوية التي حالت دون تواصلنا مع بعض كشعوب سودانية لها حضارة إنسانية عريقة، والتي تسببت في عجزنا عن خلق كيان واحد، قوي ومزدهر. إنني أزعم أن الحرب قد غيَّرت نظرتنا تجاه المركزية فصرنا أكثر تفهماً لأهمية اللا مركزية الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، أحدثت فينا يقظة روحية بعد أن مررنا بالمدن ورأينا حجم الإهمال للريف الذي ظل يرفدنا بالخيرات ويوفر لنا الموارد التي نجلبها من كافة أنحاء الوطن إلى الخرطوم ومن ثمّ يتم تصديرها إلى الخارج، وأخيراً أدركنا أن النموذج التنموي الذي ورثناه عن المستعمر – وإن كان مناسباً لأغراضه حينها – قد تسبب في صراعاتنا، بل حرمنا فرص الاستقرار والازدهار. بنهاية هذه الحرب اللعينة سنطوي صفحةً هي الأكثرُ سواداً في تاريخنا والأنكى في حياة الشعوب والمجتمعات. بيد أن ما يليها من صفحات سيكون هو الأنصع والألمع، إذ لولا سواد الليل ما بزغ الفجر.
Auwaab@gmail.com