تساءل المغني والملحن والأكاديمي أنس العاقب عن سبب تخريج معهد الموسيقى والمسرح لعشرين عازفا للعود في خمسين عاماً بينما خرج بيت العود خمسين عازفاً في خمس سنوات، وكان هذا ردي: تساؤل مشروع أستاذنا أنس، ولو سمحت لي بعد السلام عليك لأقول شيئاً فإني أعتقد أن طالب المعهد المتخصص في العود يخرج بمعارف موسيقية ربما هي غير متاحة لخريج بيت العود، فضلاً عن ذلك، فإن أفضل عازفي العود في تاريخنا لم ينجبهم المعهد، وإنما وصلوا إلينا بحسهم الفني الفطري، وبعضهم لاحقاً انضمَّ للمعهد، بل يصح الأمر لعازفي الآلات الأخرى، كذلك فإن معظم خريجي بيت العود يملكون القدرة في التعامل الدراسي، أو سميه التكنيكي مع الآلة. ولكن الحس الفني المرهف مع الآلة شيء آخر. وهناك فنانون لم يتخصصوا في دراسة الصوت، ولكن قدراتهم التطريبية عال العال، وبموهبتهم خلقوا قدرات هائلة لحيازة تكنيك مميز في استخدام الصوت. لديَّ قناعة راسخة أنَّ الفنان المغني والعازف والأديب والشاعر والتشكيلي والملحن والروائي والموزع الموسيقي والناقد – هو موهبة في الأساس وإن لم يمتلكها، فإن الدراسة الأكاديمية لا تسعفه كثيراً..كم عدد خريجينا في المؤسسات ذات الصلة بالموسيقى والأدب وفن التشكيل مقارنة بعدد المميزين الذين صاروا رموزاً أضافوا للمشهد الإبداعي؟ الفن إحساس قبل أن يكون علماً.. والعلم لا يخدمك إلا لو وهبك الله الموهبة.. أفضل إعلاميينا لم يتخرجوا من كليات الصحافة والإعلام .وبالمناسبة أعرف أكثر من أربعة رؤساء تحرير خريجين أو أكثر فشلوا تماماً في هذه الوظيفة، وفي كتابة المقال، فيهم البروفيسور في كلية الصحافة والإعلام والبقية دكاترة. المنطقة النوبية في الستين سنة لم تنجب فناناً مثل وردي.. وكردفان ومدني لم تنجبا طوال هذه المدة فنانين بمستوى محمد الأمين وعركي وعبد القادر سالم وصديق عباس وعبد الرحمن عبدالله وموسى أبا ..وقس ذلك على كسلا..علينا أن نكبر افقنا المعرفي (الابستيمي) في دراسة الظاهرات الإبداعية وأسباب قلتها وأسباب ضمورها.. فبرعي ومحمد الأمين وعركي وبشير عباس وعوض أحمودي وخوجلي عثمان ملكوا الموهبة والذكاء الفني ومنحوا آلة العود وقتاً. ومن ناحية الحس الفني، أجد عبادي الجوهر أكثر حساً في إخراج حنين العود وجمال نغمته من نصير شمة الذي يملك قدرات تكتيكية وتكنيكية حيال العود ولا يمتلكها الجوهري، ولكن نعود ونقول إن أمر الموهبة هو الأساس.. على الأقل هذا إحساسي إلى أن يغيب ظني، أو أجد تعقيباً مقنعاً ربما يغير وجهة نظري. وأذكر أنني قلت إنني أرى شاعرية الفيتوري أقوى من محمود درويش، فكاد أن يخنقني أحد الشباب اليساريين.. والحمد لله على كل حال فنحن تربينا على القداسات والانحيازات الايديولوجية والقبلية والجيلية ولم ننم ال Critical thinking والأمر له علاقة بحربنا الدائرة الآن حيث لم نحصل على مثقفين عابرين فوق هوياتهم العرقية والايديولوجية ليحللوا أسباب الحرب ويحددوا لنا الخيارات السليمة التي يجب اتباعها.. مرة أخرى نعود لسؤال البروف أنس، إنه لو التقت الموهبة مع الصقل العلمي وتنامى الإحساس المميز معهما، فإننا حتماً نتوفر على فنان أو أديب أو تشكيلي أو ناقد مميز يخلق بالضرورة تحولات كبيرة في المشهد الإبداعي يدركها كل الناس. في الآونة الأخيرة اشتدت المجاملات على حساب النقد الصادق والجرئ، وبالتالي جاءت الميديا الحديثة بغثها الفني الكثير وثمينها القليل لتضيف أعباءً جديدة أمام هؤلاء القليلين المجيدين فنياً، وواحدة من هذه الأعباء: كيفية العثور على الأذن النظيفة التي لا تنغش.