(يعتزل دعاة “لا للحرب” من غالب صفوة الحرية والتغيير القوات المسلحة بزعم أنها مليشيا أسوة بالدعم السريع. فنزعوا عنها بهذا صفتها المؤسسية في الدولة وساووها بجيش خلاء. بل ويزيد بعضهم بالقول بأنها قد زجت السودان في حروب عوان منذ الاستقلال. وينسى هؤلاء يوماً كانوا فيه مع القوات المسلحة تحت الرئيس نميري بطوائفهم من شيوعيين واشتراكيين وحداثيين ومستقلين وحجزوا لشبابهم المواقع في كليتها الحربية. واختار بعضهم أن يغادر النميرية في توقيته الخاص وبقي منه من بقي حتى مصرع النظام.
أما النقطة التي رأيت بها إعادة نشر هذه الكلمة الراجعة إلى 1987 فهو للتذكير بأن اعتزال القوات المسلحة عند دوائر الحرية والتغيير عادة. فاعتزلوها حتى حين كان الظرف مواتياً للإحسان لها. وفي المقال القديم هذا قيمت المعني السياسي والرمزي لاستعادة مدينة الكرمك بجنوب شرق البلاد من قبضة الحركة الشعبية في ديسمبر 1987. وهي المعاني التي غابت عمن سميتهم ب”اليسار الجزافي” الذي اصطف مع الحركة الشعبية. فأخذت على الحركة الشعبية تصعيد الحرب بلا ضرورة بعد اضرابها الغرير عن المشاركة في ديمقراطية استعادتها الجماهير بشق الأنفس في ثورة 1985 لتمنينا بديمقراطية أخرى في سودان جديد ورتنا في اليوم العلينا منه”جديد ما كان على بال” في جنوب السودان. وقلت في كلمتي أن المدن في الديمقراطية تسقط ببطاقة الاقتراع لا بفوهة البندقية. ولم يتفق معي الجزافيون بل شهلوا أنفسهم زرافات ووحدانا للانخراط في جيش الحركة الشعبية لقتال القوات المسلحة.
فليس توقف قوى الحرية والتغيير إجمالا دون الجيش حرباً له، أو عزوفاً عنه في حربة، بجديد. لم تحل بينهم ديمقراطية 1986 التي جاء بها الشعب عنوة من الانخراط في حركة ضل بها غرور السلاح وأضغاثه من أن ترى نفسها وقضاياها فيها حتى وصفت الثورة بأنها لم تنتج إلا “مايو 2”. وعليه فلا أرى حدثاً في تعلل قوى في الحرية والتغيير بأن القوات المسلحة هي مليشيا أخرى ليعتزلوها ويرموا مع جيش خلاء من أي نوع إيجابياً مع مثل قرنق والحلو وعقار وخليل إبراهيم وأركو مناوي وعبد الواحد والعشرة الكرام، أو سلبياً كحالهم مع الدعم السريع. فعقيدة هذه الجماعة منذ حين أن تنظر أين تقف القوات المسلحة واتخذ موقع الضد منها).
تولدت خطط ودعوات كثيرة لاستعادة الكرمك من قوات العقيد جون قرنق المغامرة. ولعل أكثر الدعوات مجانبة للصواب هي الدعوة إلى دعم القوات المسلحة بالتبرعات الأهلية وأخذ التعبئة العامة على أنها، في وصف لمحرر بالصحف السيارة، صمت الأفواه وكلام البندقية. وقد أزعجني أن السيد رئيس مجلس الدولة قد افتتح التبرعات لقوات الشعب المسلحة بالدمازين بمبلغ مئة ألف جنيه خلال زيارته التفقدية للمدينة. وسنحتاج إلى إجابة للسؤال الذي وجهه الأستاذ بشير محمد سعيد لسيادته عن هذا المال وهل هو من ماله الخاص أو من مال الدولة؟ فلو ثبت أن ما تبرع به سيادته كان من المال العام تضاعفت المحنة.
فليس في هذا الإجراء عودة إلى أثر من آثار مايو في التبرع الجزافي بالمال العام وحسب بل مبادرة بخطة تمويلية بائسة. فالمفروض أن الدولة تنفق على أوجه نشاطاتها من الاعتمادات المصدقة في الميزانيات المدروسة على ضوء استراتيجيات مجازة بواسطة البرلمان. وكان الظن أن تكون هذه المئة ألف جنيه التي تبرع بها سيادته في أصل ميزانية القوات المسلحة إذا كانت الحاجة إليها قائمة. أما أن يأتي بذل المال بعد واقعة الكرمك (وما كان ينبغي أن تكون بمثابة مفاجأة لنا) فذلك مما يسرب الشك في نفوس المواطنين حول مصداقية قوامنا السياسي والعسكري.
إن الحديث عن تبرع المواطنين لمال القوات المسلحة يعكس في غالب الأحوال حسن نية لا يُعتَّد بها في مثل هذه المواجهة الشرسة على حدودنا الشرقية. واسوأ ما في مثل هذه الدعوة أن تتحول إلى مزايدات في مثل الذي تفعله الجبهة القومية الإسلامية بعربات نوابها (التبرع بها للمجهود الحربي). ثم إلى عقيدة تحجب عن المدنيين حجم دورهم الهام في هذه الحرب.
وقد أصاب العميد أ. ح. عمر حسن قائد معركة ميوم الموفقة حين قال إن دعم الجيش وتمويله هما مسؤولية الحكومة في المقام الأول، وإنهم في القوات المسلحة إنما يرنون إلى دعم الشعب المعنوي. ومسؤولية الحكومة في دعم الجيش مما يتوسل إليه الحكام بالمال المخصص في الميزانية وبقوة المعارضة الدبلوماسية ليقنعوا الدولة المنتجة للأسلحة المتطورة بصواب توجهاتهم القومية وسداد ما يدافعون عنه من قيم ووطن.
أما أنكر الدعوات حقاً فهي الدعوة إلى مصادرة الأصوات في الجبهة الداخلية لتتحدث البنادق وحدها. وهي الصيغة الكاريكاتورية للذي سُمِّيّ بالتعبئة العامة. وهذه صيغة أخرى من صيّغ تقاعس المدنيين والتخلص من حسّهم بالاجدوى في حال اندلاع الحرب. وأخطر ما في الأمر أن هذه الصيغة تنطوي على جهل صريح بالموقف الحق الذي تدافع عنه قواتنا وشعبنا في الكرمك.
دفاع عن التعددية:
علينا ألا نمل القول أن الذي ندافع عنه من حول الكرمك هو النظام البرلماني التعددي الذي حصل عليه شعبنا بعد جهاد طويل. ولقد رنونا ونضالنا من أجل هذا النظام لأنه هو وحده الذي يعطينا حق الخلاف، وبناء وحدة بلدنا من واقع التنوع. وقد استقرت عندنا وجاهة هذا الخيار حين قضينا ١٦ عاماً من الصمت البشع في ظل نميري. ورأينا أن بلادنا تهان وتتحلل تحت نعل المستبد. وتطلعنا للنظام التعددي البرلماني لأنه الذي يستنبط أفضل ما في شعبنا من قيم النهضة والشهامة والتطوع السخي في ظل القرار الشعبي الحر. وهذا النظام التعددي هو الذي تستعلي عليه تكتيكات العقيد قرنق المغامرة والتي ترعى بقيد النظام الأثيوبي، المفارق للديمقراطية في نشأته وتقاليده، وتوجهاته. ففي الكرمك إذاً تصطدم قوى الديمقراطية وقوى الجبروت والعنجهية.
لقد اقنعتنا سنوات عجاف من الديكتاتورية في ظل الفريق عبود بأن الديمقراطية الليبرالية ليست كلمة جوفاء. وتعلمنا في ظل نميري الطويل أن الديمقراطية الجديدة أو الثورية، في تعبير فريد لعبد الخالق محجوب، ليست صراخاً من أعلى البيوت. لقد شقينا في عهد نميري باستبداد مديد سُميّ كذباً بالديمقراطية الجديدة التي للعمال والمزارعين فيها ٥٠٪ مزعومة. وقد أصبح جلياً لنا، منذ أن صودرت الحقوق الأساسية للمواطنين، كيف يمكن أن تكون هذه المصادرة ذاتها سبيلاً إلى التردي المعيشي والاجتماعي. واستقر عندنا لذلك أن العدالة الاجتماعية (الكفاية والعدل) لا يمكن أن تقوم لها قائمة إلا من فوق ممارسة نشطة وتمثل عميق للحقوق الأساسية المكفولة في الديمقراطية الليبرالية. وبغير هذا الربط بين الخبز والحرية سننتهي في أفضل الأحوال إلى النظم الاشتراكية الاجتماعية المعاصرة التي طال فيها تأجيل الحرية السياسية حتى تتوافر العدالة الاجتماعية أولاً. وهي نظم اضمحل تأثير نموذجها وتلاشى إلهامها في أيامنا هذه. إن دعوة النظام الأثيوبي الاشتراكية ونداء العقيد قرنق للسودان الجديد هي صرخات من أعلى البيوت تعيد لنا ذكرى عهود ضالة من حياتنا السياسية نريد لها أن تصبح خبرة مؤكدة في تاريخنا لا هواجساً وكوابيس.
تحاول قوى في اليسار، والشيوعي خاصة، أن تغطي على هذا المغزى السياسي في المواجهة العسكرية القائمة في شرقي بلادنا. فهي تزعم أن منشأ الصدام بين السودان وأثيوبيا قائم من احتضان ودعم كل من البلدين لقوى إقليمية من البلد الآخر لتحارب حكومة بلدها لأغراض خاصة بالبلد المعين والقوى الإقليمية المعينة. وهذه نظرية قريبة من فكرة “سدة بسدة”. وما يمنع اليسار من تجاوز هذه النظرية هو ظنه السيئ في السعودية والولايات المتحدة التي يعتقد أنهما تستخدمان من كل من جبهة أرومو وأريتريا لإسقاط نظام منقستو الذي يحترم ويقدر اليسار السوداني انجازات له في تغيير المجتمع الأثيوبي مظنون أنها متقدمة. ولهذا يحتار ويتساءل أصدقاء كثيرون لليسار عن خفة اليد التي تخلى بها الحزب الشيوعي عن حلفائه في الثورة الإريترية على عهد إمبراطورية هيلا سيلاسي لخاطر نظام منقستو الذي لم يحقق بعد شيئاً مذكوراً له.
تبدو لنظرية “سدة بسدة” جاذبيتها وتبدو المساومة من فوقها بسيطة: كُفَّ يدك أكفَّ يدي. ولكن في هذه النظرية البراغماتية (منفعية) فظة لا بصيص من مبداً فيها. فشعب الأرومو وأريتريا لم يتمتع بعد لا بتراث القومية الجنوبية السودانية في ممارسة الحكم الذاتي منذ ١٩٧٢ ولا بالإطار الديمقراطي المفتوح منذ انتفاضة ابريل الذي أجرينا في ظله انتخابات عام ١٩٨٦. وهي انتخابات جيدة جداً في الذي نعرف من ممارسات انتخابية. وقد لطخت التحليلات الحزبية الخاطئة من سمعتها حين ذهبت تلك التحليلات تعلق إخفاقات أحزابها على شماعة فساد تلك الانتخابات أو لتزعم أن سطوة بيتي الميرغنى والمهدي مما يجعل الانتخابات طقساً بلا معنى. وسيكون مؤسفاً أن نروج لهذه المساومة البراغماتية مع النظام الإثيوبي الذي لا يعد قومياته المؤثرة شيئاً ذا بال، ويخفي سيطرة الأمهرا المتجددة على أثيوبيا بألفاظ رنانة كثيرة. وقس على دعوتنا التي لم تنقطع في السودان لحركة قرنق لتكف عن المغامرة والرعي في قيد المصالح الأثيوبية لتنضم إلى المسيرة الديمقراطية في السودان بنجاحاتها وخيباتها. ولتتحمل مثل قوى شعبنا الأخرى آلام مخاض السودان الجديد حقاً عبر النظام الديمقراطي المتعدد.
ونواصل
IbrahimA@missouri.edu