مع نشوب حرب الخرطوم بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، عادت فكرة تقسيم السودان إلى دويلات إلى الواجهة مجدداً، بعد أن خفتت نسبياً عقب استقلال الجنوب عام 2011، إلّا من بعض الأصوات الخافتة والمغمورة الموالية للإخوان الصادرة عن بعض الناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي.
الفكرة نفسها ليست وليدة اليوم، وإنّما قال بها كثيرون من قادة البلاد والتمردات المسلحة على الحكومة المركزية منذ استقلال البلاد، لكنّها لم تكن تعدو كونها محض متاجرة لتحقيق مآرب سياسية وقتية، حتى عام 1977، حين التأمت ما عرفت بالمصالحة الوطنية بين المعارضة السودانية المعروفة آنذاك بالجبهة الوطنية وكان الإخوان المسلمون (جناح الترابي) من ضمن مكوناتها، ونظام جعفر النميري (1969 ـ 1985).
منذ ذلك الوقت
أفضت المصالحة إلى أداء الترابي قسم الولاء لحكومة النميري على الصيغة الآتية: “أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصاً وصادقاً لثورة (مايو) الاشتراكية، وأن أدعم تحالف قوى الشعب العاملة وتنظيمها القائد الاتحاد الاشتراكي السوداني، وأن أحمي الدستور وأرعى مصالح الشعب وأصون استقلال الوطن وسلامة أراضيه”. وقد أصبح بموجب ذلك عضواً في اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي (حزب الدولة الوحيد) وعضواً في مكتبه السياسي؛ وبالتالي نجحت جماعة الإخوان المسلمين السودانية في الوصول إلى مركز صنع القرار بغرض احتواء نظام النميري من الداخل والتحكم به، فعمل الترابي على التقرّب من الرئيس النميري، ونجح في التأثير عليه من أجل إعلان دولة إسلامية عروبية في السودان، فعيّنه عام 1979 رئيساً للجنة مراجعة القوانين وأسلمتها، ثم وزيراً للعدل 1981، وأعلن النميري عن تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية في أيلول (سبتمبر) 1983 في بلد متعدد الأديان والأعراق واللغات، وأوعز الترابي إلى النميري بتنصيب نفسه إماماً للمسلمين، وقد أعلن عدد من الضباط والناشطين السياسيين من جنوب السودان الحرب على الدولة الإقصائية الجديدة في العام نفسه، وأسس الضابطان الجنوبيان بالقوات المسلحة السودانية كاربينو كوانين وجون قرنق الجيش الشعبي لتحرير السودان، الذي خاض حرباً ضروساً ضد نظام النميري الذي سقط في انتفاضة شعبية نيسان (أبريل) 1985، وواصل الجيش الشعبي عملياته العسكرية مطالباً حكومة الصادق المهدي المنتخبة التي جاءت أعقاب نظام النميري بإلغاء تلك القوانين التي عُرفت سياسياً بقوانين أيلول (سبتمبر).
إلا أنّ تنظيم الإخوان المسلمين الذي بدّل اسمه السياسي من جبهة الميثاق في عهد النميري إلى الجبهة الإسلامية القومية خلال حقبة الديمقراطية (1986- 1989)، عارض إلغاء ما سمّاها بقوانين الشريعة معارضة كبيرة وحرض الجماهير على الحكومة، وخشي الصادق المهدي بأس (الكيزان)، فأمسك عن الإلغاء، ولجأ إلى التجميد، لكنّ ذلك لم يرضِ الجيش الشعبي لتحرير السودان ورافده السياسي الحركة الشعبية لتحرير السودان، فواصل القتال ضد الحكومة المنتخبة.
السودان يعيق دولة الإخوان
منذ ذلك الوقت بدأت جماعة الإخوان بزعامة عرّابها الأكبر حسن الترابي، تُخطط لفصل جنوب السودان باعتباره جغرافية وديمغرافية معيقة لتطبيق حلمها بإقامة دولة الإسلام في أرض السودان، فخططت لإطاحة حكومة الصادق المهدي عبر القوة العسكرية القاهرة، فنفذت انقلاباً عسكرياً في حزيران (يونيو) 1989 عن طريق الضباط الإخوان في الجيش بقيادة العميد (وقتها) عمر حسن أحمد البشير، الذي سرعان ما أعلن الجهاد على شعب جنوب السودان، واجترح الترابي وحزبه الجديد المؤتمر الوطني خطاباً جهادياً تعبوياً لاستمالة الشباب وتحفيزهم على القتال (الجهاد) ضد الجنوبيين، وعمد الحزب إلى تصفية الجيش من الضباط المهنيين وأبدلهم آخرين من أنصار الجماعة، وأوكل العمليات القتالية ضد الجيش الشعبي في جنوب السودان إلى من سمّاهم المجاهدين ـ وكان جلهم ـ كما جنود الجيش النظامي نفسه، من إقليم دارفور، حيث كان كلا داود يحيى بولاد، وهو كادر إخواني متقدم و(مجاهد) في صفوف الإخوان ومن المشاركين الأساسيين في انقلاب 1989، وقد كان مقرّراً أن يتولى منصب والي إقليم دارفور، ولكن تم التآمر عليه وإبعاده فانضم إلى الحركة الشعبية وقاتل في صفوفها إلى أن تم أسره في إحدى المعارك، وأعدم دهساً بدبابة على يد رفاقه من الإخوان.
لاحقاً تمرّد الإخواني الدارفوري خليل إبراهيم شقيق وزير المالية الحالي (جبريل)، وبرر ذلك بأنّ تمييزاً عرقياً واسع النطاق يجري داخل كيان الجماعة ضد منسوبيهم من أبناء إقليم دارفور، وأسس حركة العدل والمواساة التي قاتلت الحكومة منذ 2003، وتمكنت من دخول مدينة أم درمان في أيّار (مايو) 2008، لكن تم دحرها وهي تحاول عبور الجسر الفاصل بين أم درمان والخرطوم، وفي 25 كانون الأول (ديسمبر) 2011 تم تصفيته ونخبة من قادة حركة العدل والمساواة بوساطة صاروخ أطلق من طائرة على مقر إقامتهم بالقرب من بلدة ود بندة بإقليم كردفان.
مثلث حمدي
ومع اتساع رقعة الناقمين على الحكومة المركزية في كل أطراف السودان، عمل الإخوان المسلمون بجدّ وجهد كبيرين على فصل الجنوب على أساس ديني وعرقي وكذلك دارفور وجبال النوبة بجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق على أسس عرقية، وشاعت فكرة ما يُعرف بمثلث حمدي بينهم شيوعاً كبيراً، وتم الترويج لها على نطاق واسع وعلانية.
وطرح القيادي الإخواني ووزير المالية السابق عبد الرحيم حمدي عام 2005 فكرة التقسيم التي عُرِفَت لاحقاً بـ (مثلث حمدي)، تتركز في فصل (جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق ودارفور وشرق وأقصى شمال السودان، وتكوين دولة موحدة من المثلث الجغرافي ( (دُنْقُلا وسِنَّار والأُبَيِّض)، تضم ولايات من وسط السودان وهي (سنار، الجزيرة، النيل الأبيض، شمال كردفان) وولايات من شمال السودان وهي (نهر النيل وجزء من الولاية الشمالية ـ دنقلا).
وحاجج حمدي وقتها بعدم انسجام الأقاليم المستبعدة ثقافياً مع مثلثه، ممّا يعيق الاستثمار ويصعب تحقيق التنمية المستدامة.
بداية بانفصال الجنوب
وبناء على هذه الفكرة القائمة على تأسيس دولة (حمدي) على أنقاض السودان الراهن، سارع الإخوان بالموافقة على فصل الجنوب، ثم عمدوا إلى إثارة الحروب في بقية المناطق التي يسعون لفصلها من خلال إذكاء النعرات العرقية وتسليح المواطنين وتأسيس الميليشيات القبلية وتأجيج النزعات العرقية واختلاق الحروب بين القبائل المختلفة، فسلحوا ما تُعرف بالقبائل العربية في دارفور، وأسسوا ميليشيا الجنجويد برئاسة زعيم قبيلة المحاميد (فرع من الرزيقات) الشيخ موسى هلال؛ لشن الحرب ضد من يطلقون عليها قبائل (الزُرقة) أي السود، وهي القبائل الأفريقية من سكان الإقليم الأصليين، بوصفهم متمردين وخارجين عن سلطة المركز (الإسلامي العربي) بحسب زعمهم.
لاحقاً، استهدفت الحكومة موسى هلال، وأسست من الجماعة نفسها (الرزيقات) قوات الدعم السريع واستدعت لقيادتها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وأوقعت بينه وبين هلال، فحاربه واعتقله وسلّمه إلى حكومة البشير.
وفي شرق السودان، أشعل الإخوان ـ عقب إزاحة البشير، بالتنسيق مع قادة القوات المسلحة من منسوبيها ـ والزعيم القبلي بالشرق محمد الأمين تِرق فتنة قبلية ضد قبيلتي بني عامر والحباب، أدت إلى مقتل العشرات وحرق المنازل والممتلكات، لكن سرعان ما هدأت الأمور بفضل حكمة الأهالي.
ويرى مراقبون أنّ الهدف الأساس للجماعة الإخوانية هو إضعاف تلك الأقاليم، حتى لا تشكل خطراً محتملاً على دولتها المفترضة في مثلث حمدي، لتصبح أقوى الدويلات المنبثقة عن الكيان السوداني الحالي الذي تسعى لتفكيكه.
النهر والبحر
بُعيد الإطاحة بالبشير، أطلقت جماعة الإخوان ممثلة في (حزب المؤتمر الوطني) بعض كوادرها المغمورة لإحياء فكرة مثلث حمدي مع إضافة شرق السودان وأقصى الشمال إليه، وذلك لسببين جوهريين؛ أوّلهما إيجاد منافذ بحرية على البحر الأحمر (شرق البلاد)، وثانيهما احتواء أقصى الشمال النوبي المُتاخم لمصر والذي يضم جماعة نوبية تسكن مناطق (حلفا / سكوت/ محس) بعد أن استبعده حمدي عن مثلثه المقترح وضمه إلى محور منطقة دنقلا التي تضم جماعة نوبية أكثر قرباً وانسجاماً مع الجماعة العربية في شمال البلاد.
وتبلورت تلك الفكرة المنبثقة عن دولة مثلث حمدي، فيما عرفت في أدبيات مروجيها بوسائل التواصل الاجتماعي بدولة (النهر والبحر) ويُقصد بالبحر (البحر الأحمر ـ شرق السودان) وبالنهر (نهر النيل وفروعه)، وتضم الدولة المُتصورة أقاليم شرق السودان والنيل الأبيض والجزيرة وسنار وشمال كردفان، وتستبعد أقاليم دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزق، متوسلة خطاباً شعبوياً وعنصرياً، لم يجد رواجاً إلا إبّان الحرب الماثلة، حيث أشاعت جماعة الإخوان أنّ ما يجري ممّا سمّته تمرداً من قوات الدعم السريع التي قوامها الجماعات العربية في دارفور وكردفان، هو غزو أجنبي بجنود مرتزقة من (تشاد والنيجر ومالي) ضد الجماعات العربية في شمال السودان المهيمنة على السلطة والثروة وقيادة المؤسسات العسكرية والشرطية والأمنية منذ استقلال السودان عام 1956.
وأمعنت جماعة الإخوان، ممثلة في كوادر حزب المؤتمر الوطني، وأوغلت في هذا الخطاب إلى حدّ أنّها أثارت الرعب بين سكان شمال ووسط السودان، باعتبارهم مستهدفين بغزو أجنبي، ربما إن لم يتداركوه، فسينجم عنه تطهير عرقي، حتى بلغ الأمر ببعض الناشطين وبعض الضباط المنتمين إلى الجماعة في الجيش السوداني وعلى رأسهم العميد طبيب طارق الهادي إلى دعوة المواطنين والقبائل إلى حمل السلاح لمقاومة قوات الدعم السريع.
إعلان موت مبكر
تعمل جماعة الإخوان المسلمين الآن، بعد أن أشعلت الحرب في الخرطوم بين الجيش والدعم السريع، على استغلال مترتباتها النفسية والاقتصادية والإنسانية والعمل على إرهاب وتحريض المواطنين في (مثلث حمدي) ونسختها المطوّرة (دولة النهر والبحر) على المضي قُدماً من أجل دعمهم في تفكيك ما يطلقون عليها دولة عام 1956، الموروثة من المستعمر البريطاني، وبناء دولتهم الإسلامية العربية المزعومة على أنقاضها، رغم أنّ أجزاء واسعة منها لا تسكنها جماعات عربية، ربما تصل إلى نحو من 75% من جغرافيا شمال السودان، و90% من شرقه، إذ يتحدث هؤلاء لغاتهم الأم فضلاً عن العربية (لغة دينهم) ولديهم عادات وتقاليد متناقضة مع الثقافة السائدة في مثلث (حمدي)، والكثير من التناقضات الأخرى غير العرقية والثقافية، ممّا يجعل الدولة المزعومة مهددة بحروب أهلية ضروس قبل إعلان تأسيسها، وكذلك الأمر في دول أخرى ربما تنشأ في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، فجميع هذه الكيانات (الدول الافتراضية) بها من التناقضات ما يجعل دولاً ليست قابلة للحياة، ولو لساعات قليلة بُعيد إعلانها.