للفن وظيفة، ولرجال الدين كذلك. التقاطعات بين الوظيفتين مفهومة بحسب أن للمجالين مرجعيات متنوعة. كلُ واحد منهما يقوم على فهم مغاير للحياة. التوفيق صعب بين مفهوم المبدعين لخلافة الحياة ومفهوم رجال الدين لدورهم في دفع الناس إلى الجنة. ومهما حاول المجتهدون في خلق الرابطة القوية بين الفنان والواعظ فإن اصطدام المرجعيتين تسم الناتج. فليكن الاختلاف بين الوظيفتين في المجتمع كامناً، ولكن يظل أدب الخلاف هو المسيطر على كل مستجد فني، أو وعظي. ذلك هو الأمل. فإنك كرجل دين لا تستطيع أن تكره الناس على سندك الشرعي مهما حاولت تأويل آيات، وأحاديث. وأنت كفنان لن ترضى عنك الأئمة حتى تتبع ملتهم. فمهما سقت من أسانيد للدفاع عن وجهة نظرك فإنك حكواتي لا غير في مفهوم المتشددين من الدعاة. المهم هو حفظ مسافة الاختلاف بحيث ألا تخرج القضية من إطارها نحو ملاسنات بين الجانبين غير موضوعية، أو عنف، وكذا. وما دام العنف مجنباً في لحظة الحوار فنحن في فسحة من الوصول للمجتمع المتحضر. طبعاً هذا التجريد لفهم علاقة الفنان بالداعية يحدث في المجتمعات التي لديها ديموقراطيات راسخة عززتها قوانين للتعايش السلمي وسط طوائفها. بل عمقتها الممارسة للديمقراطية التي جنى الجميع ثمارها، وأصبح الكل يدافع عن حرية الطرح لأنه محمي بها. أما في مجتمعاتنا التي يعلو فيها صوت الإكراه السياسي، والديني، والمذهبي، فإن الأمر يختلف بدرجة مهولة. فقد تابعنا جميعا الهجمة الشرسة على مسلسل “ود المك”، وتحديداً شخصيته المحورية، وهو الشيخ الرفاعي التي أجادها صديقنا الممثل صلاح أحمد محمد. جل الهجمة جاءت من بعض رجال الدين في المساجد الذين يتبنون المنهج السلفي المتشدد. وكنت استمعت اليوم الجمعة لوعظ من على سدة المنبر لشيخ ترك كل موضوع المسلسل ليسقط كراهيته للعلمانيين ضمن نقده له. وراح الشيخ الذي لم ينتظر نهاية قصة الرفاعي ليصب جام غضبه على المسلسل، ويربط بينه، ومعاهدة سيداو، والمثليين. هذا النوع من الوعظ واجهته الدراما السودانية على طول تاريخها الذي قارب نصف قرن. ومثلت حادثة العجكو حتى الآن أكبر تطرف واجه الدراميين حيث اعتلى الإسلاميون خشبة المسرح في جامعة الخرطوم، وضربوا الممثلين والممثلات حتى تدخلت الشرطة. وهذا العنف واجه الدراميين في كثير من الأحيان في العاصمة والأقاليم. وأذكر أنني أجريت حواراً مشتركاً داخل الإذاعة مع الممثلين إسماعيل خورشيد، وياسين عبد القادر، والذي قال إنه كان يمثل دور الرجل الشرير في مسرحية عرضت في إحدى بقاع السودان. وسارت المسرحية على هذا المنوال حتى نط أحد الرجال في الخشبة شاهراً سكينه على بعد خطوات من يس الذي وجم من هذا التهجم. وفيما كان الشرر يتطاير من عيون الرجل المتهجم كان على وشك ان يغرس السكينة في وجه الممثل الذي أجاد الدور لولا تدخل الممثلين. ولكن شخصية الرجل الشرير التي مثلها المخضرم يسين في القصة ينتهي به الأمر إلى التوبة، والاستغفار، وطلب الحج. ولكن المتلقي البسيط لم ينتظر المسرحية حتى نهايتها ليصفق، أو تنزل دمعة من عيونه، لأن شريراً بذات مساء تاب، وقد تاب الله عليه. الإصلاح في البلاد لا يتعلق فقط بالدمج العسكري وإنما أيضاً بالعقليات التي لها دور في المجتمع. فرجال الدين – مع التحفظ على المصطلح – ينبغي أن يُعاد تأهيلهم بالقدر اللائق حتى لا يثيروا الفتن. وقد دفعنا ثمناً كبيراً للهوس الديني الذي أضر بفقهنا في مقدماته، ونتائجه. فحرية الإبداع شرط أساسي لتطوير المجتمع. والمسرحيون، والدراميون، حداة الركب في خلق مشروع الدولة الوطنية، ويحتاج إليهم الناس للتنوير، والتطرق للظواهر السالبة في جميع أنشطتهم المجتمعية. وفئة رجال الدين مثل السياسيين، والمثقفين، والدبلوماسيين، والإعلاميين، وسائر فئات المجتمع. فيهم الصالح، وفيهم الطالح. وشخصية شيخ الرفاعي تجسدت في معظم الشيوخ الذين قدموا لنا أنفسهم بأنها هي لله، وانتهت بهم التجربة إلى ملاك آلاف الأفدنة، ومستثمرين دوليين، وأصحاب بنوك، ومستوردي بترول، وامتياز صحف، وممتلكي مستشفيات First Class، وبواخر تجوب البحار، ومحميات أبقار ودواجن في الدندر، وأصحاب قناة فضائية في تركيا كذلك.