أحترم وأحب بعض الناس ، وأعني هنا من تبوأ أرفع المواقع والمناصب القيادية في هذا البلد أو ذاك، أو سطع نجمه في مجتمعه، بسبب قربه من نبض أهله وقضاياهم وتطلعاتهم المشروعة في حياة العزة والكرامة والعيش الكريم، هذا فضلا عن احترامه لحقوق البشر، والناس من أي لون وجنس ودين.
أحترم احتراما عميقا وأقدر تقديرا عاليا هذا النوع من البشر، ويشدني دفء الدواخل التي تنبض تواضعا وروحا جميلة لا يزيدها تقادم السنين وايقاع الزمن المتسارع الا نضارا وروعة ودماثة خلق قديمة متجددة ووضوح في الرؤى ، وفوق هذا وذاك هناك من تتميز مسيرة عطائه بثراء التجربة وموسوعية الثقافة.
الأستاذ عبد الله بن حمد العطية من هذا النوع من البشر، وهذه بعض صفاته المتعددة، وهو صاحب عطاء مشهود في قطر، في ميادين عدة استمرت أكثر من ستين عاما، وكان في صدارتها توليه حقيبةً وزارة الطاقة ، وكان لعب أدوار مهمة في المجال الرياضي وفي وزارة الداخلية، وهو رجل عطاء وتواصل اجتماعي ملموس ومشهود، في مجتمعه والمنطقة.
عبدالله العطية عمل على سبيل المثال قبل سنوات نائبا لرئيس الوزراء ، ومنحه ( الأمير الوالد) الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني مرتبة رئيس وزراء عشية اكتمال سنوات عمله الطويلة في ميادين عطاء متعدد الأشكال والأنواع، و منحه وسام الاستقلال في سابقة من نوعها ، إذ يُمنح هذا الوسام القطري الرفيع لرؤساء الدول فقط، وكان الشيخ حمد وصفه بـ( الوزير النزيه) حينما كان العطية وزيرا للنفط ويجلس على حقوق من النفط والغاز، ولهذا الوصف دلالاته ومعانيه الجميلة ،ويعرف أهل قطر والخليج والعالم أن عبد الله العطية صاحب إنجازات كبيرة في عالم النفط والغاز، وكانت بعض الدول منحت العطية أوسمة تقدير وتكريم .
عرفت الرجل خلال فترة عملي صحافيا في قطر ( ثلاثين سنة) وبسبب اعجابي بعطائه وشخصيته وبروز قطر في عالم الغاز انخرطت في تغطية مؤتمراته الصحافية في مواقع عدة داخل قطر ، في الدوحة، والشمال، ومسيعيد وغيرها من مواقع الانجاز النفطي والغازي ، وكان اتفاقي مع صحيفة ( الحياة) اللندنية أن أقوم بتغطية النشاط والاخبار السياسية، لكنني أضفت لعبء العمل الكثيف آنذاك تغطية مؤتمرات النفط والغاز ، وكان نجمها العطية من دون أن أتقاضى أي مقابل لهذا العمل الإضافي، ولم أطلب من الصحيفة شيئا وهي لم تفعل، وأعتبر ذلك عطاء من أجل قطر وصحيفة ( الحياة).
عبد الله بن حمد العطية – كما عرفته – يحترم الصحافيين ويقدرهم ، وكان من وقت لآخر يمازحهم ويطلق تعليقات لطيفة قبل واثناء وبعد مؤتمراته الصحافية ، وقد أدخلته هذه الروح الطيبة في أعماق قلوب كثيرة.
أذكر أنني استقلت من صحيفة ( الحياة) لسبب ليس محل الخوض فيه الآن، ثم عدت للعمل في الصحيفة ، وعلم العطية بذلك، وحينما رآني قال مازحا خلال مؤتمر صحافي بصوت عال وهو في منصة المؤتمر في شمال قطر( استقال من الحياة) وكرر ذلك مرتين ، فقلت له لم استقل من كل الحياة ، وضحكنا.
ما يثير الدهشة والإعجاب معا أن عبد الله العطية صاحب ثقافة موسوعية لافتة لمن يحاوره أو يستمع إلى رؤاه، ففي مقدوره أن يحدثك حديث الخبير العارف ببواطن الأمور وخلفياتها عن قضايا خليجية وعربية ودولية .
الرجل يزور لندن حاليا، حرصت على زيارته أمس ( 11 يوليو 2023) في مقر أقامته بالعاصمة البريطانية، فاستقبلني بنبضه الدافئ وروحه الأخوية ، وفي قلبي محبة لهذا الإنسان وتقديري بعيد كل البعد عن أية مصلحة شخصية لا بالأمس ولا اليوم.
استمر اللقاء ساعتين، تحدث بمعرفة عميقة عن قضايا عدة في الخليج والمنطقة والعالم ، بمعلومات وتحليل عميق يعبر عن اطلاع واسع صقلته التجارب وعمقت مساراته قراءات ودراسات .
توقعت أن يستمر القاء ربع ساعة أو نصف ساعة لكنه استمر ساعتين ، وقد أثرت هذه الجلسة الحيوية كغيرها من لقاءات سابقه وجداني وعقلي وعمقت محبتي للرجل ، إذ أنه مثال رائع للشخصية القطرية، الواعية ، المحبوبة .
اللقاء حلق بي في أجواء وفضاء الدوحة التي أحب، وكنت عشت في ربوعها ثلاثين سنة ، وكانت لي فيها صولات وجولات في عالم الصحافة ، إذ بدأ مشواري هناك في العام 1984 في صحيفة(العرب) القطرية في مرحلتها الأولى، ثم صحيفة ( الشرق) و( وكالة الاعلام الخارجي) ومنها الى ( وكالة الأنباء القطرية)، وقد توليت مواقع مسؤولية في كل هذه المؤسسات.
خلال فترة عملي في قطر كنت الى جانب عملي في هذه المؤسسة القطرية أو تلك مراسلا لصحيفة ( الحياة) اللندنية، وإذاعة ( مونت كارلو الدولية) وقناة ( ال بي سي)، وأرى أنني قمت بأدوار اعلامية مهنية في ظروف صعبة ، ودعمت مهنيا وبنبض متفاعل مسيرة التحولات والانجازات الكبرى في قطر التي أطلق صافرتها الأولى الشيخ حمد بن خليفة ، ويواصل مساراتها حاليا الأمير الشاب الشيخ تميم .
ما يهمني في هذا السياق وأفخر به أنني تمسكت وحافظت بصرامة خلال سنوات عملي في الدوحة على استقلاليتي المهنية في رسائل الى مؤسسات اعلامية دولية ، ولم أقبل أي تدخل في هذا الشأن ، وكتبت أخبارا لم يجرؤ على نشرها كثيرون وحتى قناة ( الجزيرة) لم تقترب من بعض الأخبار والأحداث التي نشرت وقائعها قبل سنوات عدة ، وما زلت متمسكا باستقلاليتي المهنية ، ولا أكتب اليوم الا ما ينسجم مع قناعاتي وما أراه من رأي .
عبد الله العطية كان في قلب أعمالي الصحافية المهنية التي تنقل الأحداث والتطورات القطرية الى مؤسسات دولية لا تقبل الا العمل المهني الذي أجبرها في أزمنة الخلافات السياسية في منطقة الخليج على النشر أحيانا ، وجاءت في صدارة تغطياتي أدوار ورؤى وتصريحات الأمير السابق الشيخ حمد بن خليفة، ورئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، الذي كان شعلة نشاط بأدائه وتصريحاته القوية والمثيرة للاهتمام التي تتصدر عناوين وسائل اعلام اقليمية ودولية .
ومهما اختلفت الرؤى بشأن أدواره وأحاديثه أرى أنه غرس في دبلوماسية قطر والمنطقة والعالم روحا جديدة، ونبضا وتألقا غير مسبوقين محليا وخارجيا ، وكنت أحرص على تغطية مؤتمراته الصحافية، وكان الرجل يبادلني أيضا التقدير والاحترام، وهكذا كان أيضا الشيخ حمد بن خليفة وعدد من كبار المسؤولين الذين عرفتهم عن قرب وتابعت فترات عملهم يوميا وميدانيا وتوثقت صلاتنا واتصالاتنا وعلاقة الاحترام المتبادل .
غادرت مقر اقامة عبد الله العطية في لندن بعدما نقلني اللقاء الشائق الى مناخ ( دوحة الجميع) وعبقها وحُسنها وجمالها وحتى الى شوارعها القديمة وأزقتها في أم غويلينه، قبل أن تلبس قطر اليوم ثوبا قشيبا وزاهيا، متوهج الألوان، وجاذبا للقلوب والعقول.
اللقاء أثار في القلب والعقل والوجدان
ذكريات كثيرة لا مكان لها في هذه السطور ….
ودعته وقلت أنتم في القلب رغم مغادرتي بلدكم، ورد بقوله : أنت أيضا في القلب، علاقتنا بك عمرها ثلاثين عاما.
حفظ الله قطر ، وحفظ العزيز الفاضل عبد الله بن حمد العطية وأسرته الكريمة.
حفظ الله صديقي التاريخي الأستاذ عبد الرحمن بن حمد العطية وزير الدولة والأمين العام السابق لمجلس التعاون الخليجي ، هذا الرجل النبيل، عميق التفكير وبعيد النظر والحكيم والانسان بكل ما تعنيه الكلمة يتواصل معي يوميا منذ خروجي من الدوحة في العام 2015 ، وهو زار لندن قبل يومين قادما من باريس ، وكان في صدارة أولوياته أن يطمئن على صحتي و أسرتي .
التقينا لقاء محبة متبادلة واحترام عميق الجذور ومعلوم لمن يعرفون قوة أواصر الود بيننا، سعدت بلقاء الأخ العزيز عبد الرحمن بن حمد العطية ، ودفء دواخله وروحه الجميلة .
من خصاله الرائعة أنه رجل لا ينسى أصدقاءه، هو مثال رائع أيضا للشخصية القطرية المنصفة التي تقدر عطاء من قدموا التضحيات والأعمال الايجابية لقطر من دون مَن أو أذى .. حفظه الله وحفظ أسرته الكريمة.
حفظ الله السودانيين في داخل الوطن الحزين، الجريح، النازف، وخارجه، وحفظ شعوب ودول المنطقة والعالم كافة، وأنعم عليها بنعمة الأمن والاستقرار والطمأنينة والعيش الكريم.
برقية : تطور الشعوب مرهون بتوافر إرادة سياسية واعية وحكيمة ومستوعبة لمقتضيات العصر، وقادرة على تحقيق مناخ الأمن ، والطمأنينة، والحرية والعدالة، كي ينعم المواطن في أي بلد بتنمية حقيقية شاملة، وبالعيش الكريم.
لندن 12- 7- 2023