مُتلازمة الصدمة الفُجائية هي أسلوب ماكر بَرعت فيه الأنظمة الديكتاتورية، ورائدها هو الجنرال فرانشيسكو فرانكو، الذي حكم إسبانيا في نهاية الحرب الأهلية بالحديد والنار (1892-1975) مؤسساً خلال تلك الحِقبة المُظلمة علاقات تحالفية وثيقة مع الفاشية والنازية. وتقوم مُتلازمة الصدمة الفجائية – التي اتَّخذها شِرعةً ومنهاجاً – على اختلاق قضايا هامشية تشغل بال المجتمع وتَصرِفه عن قضاياه الأساسية. ولعلكم تذكرون أن هذا هو ذات النهج الذي دأبت عليه الحركة الإسلاموية وقع الحافر على الحافر، وذلك بُعيد استيلائها على السلطة في يونيو 1989 وعلى مدى ثلاثين عاماً حكمت فيها البلاد بديكتاتورية مُفرِطة، تماهت فيها ومتلازمة الصدمة الفجائية بطريقة أذهلت فرانكو في قبره، وما تزال تداعياتها تترى على السودان وأهله حرباً ودماراً ومُعاناةً!
بالطبع لم تكن تلك الحِقبة نُزهة ترفيه، وإنما هي الحقبة العجفاء عينها، التي ذاق فيها السودانيون ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولاخطر على قلب بشرٍ منهم. ولكي تمسك الحركة الإسلاموية بتلابيب السلطة، اعتمدت على بِدَع الدين وضلالات التمكين أو ما سمَّاه دكتور التيجاني عبد القادر (تحالف الأمن والسوق والقبيلة) والتيجاني هذا كان أحد سدنتها ممن أهدر عُمراً في عرصاتها ثمَّ فرّ منهاَ بجلده فرار السليم من الأجرب. في حين مضى (إخوانه) في طريق التدجيل بتنزيل مشروعهم (الحضاري) غير عابئين بالويل والثبور وعظائم الأمور التي هوت على ظهر الشعب السوداني بسياطٍ من لهب.
نعم يا صاحٍ، لقد أسكرت السلطة البراغيث فتضخمت ذواتهم وظنوا أنهم خالدون فيها أبداً. بل تباروا في الافتنان بها حد الثمالة، ولهذا عندما اندلعت ثورة ديسمبر المجيدة وطاف عليهم طائفها بعذاب واقع، كادت عيونهم أن تخرج من محاجرها، وظلوا ردحاً من الزمن بين مُصدقٍ ومُكذبٍ. وكان عصي على من أسكرته السلطة أن يتقبل اقتلاعه منها. فلجأوا ابتداءً إلى تطبيق مُتلازمة الصدمة الفجائية بالتشكيك في الثورة ومن سواها، وعندما لم تجدِ الحيلة نفعاً، استغلوا (سِلمِيتها) واستخرجوا أسلحتهم الصدئة ووضعوها على نحرها، حيث بدأوا بصنع الانقلابات العسكرية التي يجيدون حياكتها، فتم اجهاض سبعاً منها ضد حكومتي الفترة الانتقالية.
لقد أغراهم ضعف الحكومتين فظنوا أنهم عائدون للسلطة، ثمَّ زادوا من وتيرة شهوتهم لها باستخراج الأفاعي والثعابين، تارة باسم المؤسسة العسكرية وأخرى باسم قوات الدعم السريع. وفي كُلٍ كان القاسم المشترك استحداث حكومة ظل تدير شئون الجنرالين كيفما اتفق. ومن خِلال مُتلازمة الصدمة الفجائية أغرق البراغيث الواقع الهش بتساؤلات في قضايا لا تُغني ولا تسمن من جوع، إلى أن نجحوا في تنفيذ الانقلاب الثاني للحركة الإسلامية في 25 أكتوبر 2021 مستخدمين في ذلك أحابيل نفس ما صنعوه من خِدعٍ ودهاء في انقلاب يونيو 1989.
لقد كانت المهمة الكبرى أمام حكومة الظل تلك، هي كيفية إخراج كبار البراغيث من سجن كوبر بعد أن عزَّ تهريبهم مثلما فعلوا مع آخرين من قبل. استهلكوا زمناً ليس باليسير في سبيل تحقيق ذلك الهدف تخطيطاً وترتيباً. فاهتدوا لفكرة ضرورة الفصل بين الجنرالين لكن يتسنى لهم فتنتهم ببعض، لا سيَّما وأن كليهما يتم استخدامه لزمنٍ قصير لتحقيق هدف معلوم. وبغرض أن تتحقق تلك الخطة ضربة لازب كان الخيار الوحيد المتاح أمامهم هو اشعال الحرب من أجل اِنقاذ المشروع الأيديولوجي من الموت المحتوم.
إلى حين ذلك مضت حكومة الظل في تنفيذ أجندة الخطة وفي مقدمتها اطلاق سراح كبار البراغيث، واهتدوا إلى أنها لن تتأتى إلا باختلاط الحابل بالنابل، وذلك باطلاق سراح المساجين كافة في العاصمة لشغل الناس بمُتلازمة الصدمة الفجائية. وهو ما حدث في سهولة ويسر وتلك صنعتهم. في حين ظلت الأسئلة التائهة تحدق في الأفق وقلَّ المُتأملون. وفي طليعة أسئلة التيه: أين اختفى السبعة وعشرون برغوثاً الذي هُرِّبُوا من سجن كوبر؟ وهل هُم حكومة الظل التي كانت تدير الأمور من وراء ستار؟ بل أين البراغيث جميعهم الذين كانوا يملؤون الدنيا ضجيجاً وعجيجاً حينما كانوا على سدة السلطة؟
وتمضي الأسئلة الباحثة عن إجابة.. أين الفريق أول المؤدلج إبراهيم جابر؟ هل يعقل أن نشهد حرباً بالطائرات والمدافع ولا نشاهد وزير الدفاع الفريق أول ياسين إبراهيم ياسين المُختفي منذ بدء الحرب؟ ماذا فعلوا به؟ بعد نحو أسبوعين من اندلاعها سرى خبر هروبه بكثافة فنفته الوزارة ببيان كذوب في 28 أبريل وما تزال تتحرى الكذب الصدوق إلى يومنا هذا؟ وهل أتاكم خبر بقاء وزير المالية (المُكوزن) بامتياز جبريل إبراهيم حاملاً أموال الدولة في جيبه؟ لعل قمة الألغاز في هذا السيناريو الترجيكوميدي الذي نشاهده هو ذوبان جهاز الشرطة بكامله في الظلام، حمل الوزير عصاته ورحل، وتبعه بعدئذٍ (تنابلة السُلطان) الواحد تلو الآخر. فأين ذهبوا؟
أما إذا حاولت البحث عن الأجهزة التي سامت الشعب السوداني سوء العذاب، فسوف يرتد إليك بصرك خاسئاً وهو حسير؟ فأين جهاز الأمن والمخابرات الذي كشفنا ظهره وهو في قمة جبروته بنشر 702 ضابطاً بالأسماء ورتبهم العليا (كتاب الطاعون) وماذا عن جهاز الأمن الشعبي الذي فضحنا سِره (بيت العنكبوت) جهاز الحركة الذي يدير البلاد من وراء ستار. ولعل ثالثة الأثافي في أجهزة السوء كان (الخندق) الذي ضجَّت صفحاته بالذي تقشعر منه الأبدان. هل يُعقل أن تكون أجهزة بذلك الصيت السيء قد مضت إلى بارئها بين غمضة عين وانتباهتها؟
لقد ظلَّ الضلع الثالث من المنظومة (الإعلام) باسط ذراعيه بالوصيد وكلابه تنهش في الأحياء والأموات وتحيك المؤامرات. تلك هواية أفنى فيها كبار البراغيث عُمراً، فقاموا بتوزيع المهام على صغار البراغيث، الذين تمركزوا في ثلاثة بلدان هي مصر وقطر وتركيا، وأخرى وصلوا قنواتها الفضائية بعد أن عزَّ عليهم وصولها، فشرعوا في نفث سمومهم. بحيث تتم سيطرة حكومة الظل على أهم الجبهات. فيا أيها التائهون في دهاليز متلازمة الصدمة الفجائية وما زلتم تتساءلون: هل البيضة من الدجاجة أم الدجاجة من البيضة؟ أنظروا حولكم فلربما رأيتم البراغيث يتسنمون حكومة الظل!!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!