يفترض أن تتوفر في قادة اليوم صفات عديدة أهمها الخلفية العلمية، الاحتراف المهني، استشعار المسئولية الوطنية، النزاهة الأخلاقية، الروح الثورية (بمعناها الفكري والوجداني)، العافية النفسية والعقلية، والمساهمة تجاه المجتمع والانسانية. تطول قائمة المعايير هذه وتقصُر لكنّها تتبلور حول “مفهوم الأخلاق” الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالرغبة في الانخراط في العمل العام بغرض الإصلاح والإسهام قدر الإمكان في التطور والازدهار المؤسسي والمجتمعي. تتقدم لقيادة المجتمعات المتحضرة سيدةٌ مثل “أنجلا ميركل” بعد أن تأنس في نفسها الكفاءة، يرتضي الحزب المسيحي الديمقراطي مرتكزاتها الفكرية، ويصوّت الجمهور على برامجها العملية مدركاً لمآلات فعله ومستعدّاً لتحمل عواقب اختياره. سيدةٌ مستوفيةٌ للشروط أعلاها من الطبيعي والمنطقي أن تقود قومها نحو المجد والسؤدد، وأخرى ظلت تُمنّي نفسها بالحكم بعد أن تسلقت ظهر أبيها من الطبيعي أن تقود مجتمعها نحو الحرب، التآمر والهلاك. هذا فقط من باب الترميز (ميركل رمز لحضارة) وليس التشخيص (كأن تُختزل المؤسسة في شخص تلكم السيدة العالمة الحازمة أو يُختزل الفشل في شخص تلكم السيدة الحالمة الواهمة).
إنّ مؤهلات الحكم في القرون الوسطى لم تتطلب أكثر من النطع والسيف، وأكياس من الدراهم التي يستطيع بها الحاكم استرضاء النفوس البئيسة، وجبر خاطر الضعفاء ببعض البيانات الخطابية والرسائل البلاغية. أمّا عالم اليوم فقد اختلفت فيه الأمورُ اختلافاً كبيراً ذلك أن الشعبَ أصبح مصدر السُلط التي تتقاطع رأسياً وأفقياً ممّا يجعل من الصعب إهمالَ التعقيد الفعلي وعدم تفحص دوائر النفوذ المتعددة. إنّ أزمتنا الذهنية والنفسية كشرقيين – وسودانيين خاصة – تتمثل في كونِنا نعيش في القرون الوسطى بوجداننا وأذهاننا ونعيش في “عصر العلم”
(المصطلح للدكتور أحمد زويل) بأجسادنا. من هنا نفهم فكرة “الأسلمة” التي اتخذتها الإنقاذ موجِّهاً لها عشية انقلابها المشؤوم، إذ تمّت التضحية أول الأمر بالمؤسسية التي هي قرينة الاحترافية والمهنية، فلم تلبث طويلاً حتى تسربت العشوائية إلى مجاليّ الدولة والمجتمع، وعندما غابت الضوابط الأخلاقية ضاعت القيم وتهتَّك صَرح الوطنية. ترى هل نجح الأستاذ علي عثمان محمد طه في “إعادة صياغة الانسان السوداني” ووفق أي وجهة: وجهة حضارية انسانية أم وجهة تآمرية إجرامية؟
إنّ ما رأيناه من ساسة يسومون أنفسهم هذه الأيام في سوق النخاسة المحلية والإقليمية، يتأمرون على الشعب فيعلنون عن نسخة للميثاق الدستوري ويتحفظون على أخرى، يتلاعبون بمشاعر الثوار ويستخفون بعقولهم فيقترحون تكوين لجنة للتحقيق في جريمة فض الاعتصام، يؤججون عواطف العوام بأحابيل لجنة إزالة التمكين و غيرها من أفعال الفهلوة، كان نتاجاً طبيعياً لنهجٍ أمِن فيه الساسة من العقوبة فأساءوا الأدب.
لم أتوقع مطلقاً أن ترجع ذات المجموعات بعد الحرب دون أن يسعى بعضها لاعتزال العمل العام أو تقدم أقلها الاعتذار للشعب الذي عانى من الويلات وتحمّل النكبات الواحدةً تلو الأخرى. إنّ الفشل في المقام الأول إذا لم نقل الجُرم – حتى لا ندخل في اتهامٍ جنائيٍ يتطلب إثباتًا قانونيًا – هو فشل القيادات، وفي المقام الثاني هو فشل الحزب والمنظومة – قحت بشقيها المركزي والديمقراطي، الحركات، الدعم السريع، اللجنة الأمنية، المؤتمر الوطني، إلى آخره – التي عجزت عن الخروج بالوطن إلى بر الأمان، بل أدخلت البلد – تارة بسوء أفعالها وتارة ببؤس تقديراتها – في وقائع حربٍ ضروسٍ لا نعلم متى نضع حداً لها وكيف؟
إذا لم تعتزل المنظومة الحالية برمتها العمل العام فمن الأجدى أن تنتدب كل مجموعة كادراً جديداً لا تحوم حوله شبهة ولديه الرغبة في تقديم رؤىً جديدةً اعتباراً ممّا حدث أو تحسباً لما هو آت. بيد أن التغيير يجب أن يشمل التصورات ولا يقتصر فقط على المسمّيات. لا يمكن أن نتكلم عن فترة انتقالية، إنّما الأجدى حسب رأي الدكتور الواثق كمير أن نتكلم عن فترة تأسيسية تُتَّخذ فيها قرارات تعالج الإشكالات البنيوية والهيكلية: إنّ فكرة تعيين مجلس السيادة أصبحت غير مجدية ، سيما أنّها تقلل من نفوذ رئيس الوزراء وتخلق جسماً برأسين، عليه فلابد من التفكير في نظام رئاسي تخضع له كافة الجهات المدنية والقوات النظامية؛ ما عادت رموز (قحت) وأفكارها ترضي طموحات الشعب ولا تلبي أشواقه، عليه فلابد من استبدالها “بجبهة من الوطنيين المستقلين” تنبثق عنها مجموعة فكرية تُعنى بتصميم السياسات، فإننا أحوج ما نكون للانتقال بالبلاد من الشعار إلى القرار المبني على المعلومات والتحليلات الدقيقة (policy-oriented reform)، فلم يعد هنالك مجالٌ في عالم اليوم للصدفة فالنجاح يرتبط بالتخطيط السليم والموجهات العلمية الصارمة والموضوعية الناظمة.
يفترض في الشخص الذي يتقدم للعمل العام أن يكون أميناً ومسئولاً، من هنا تأتي فكرة المساءلة التي تقوم بها البرلمانات الغربية للمتقدمين للوظيفة العمومية والتي تتدخل في أخص الخصوصيات كي تتأكد من الاتساق بين سلوك الشخص الخاص وسلوكه العام، لأن أي درجةً من الانحراف أو التسيب – مهما صغُرت – من شأنها أن تجعل المواطنين عُرضة للابتزاز وأن تترك الموارد نهباً للطامعين. إنّ شخصاً يتعارك مع زوجته في الأسواق العامة إلى درجة تصل حد الاشتباك بالأيدي أو آخر يتحرش بإحدى زميلاته أو سكرتيراته لا يمكن أن يؤتمن على وظيفة عامة حسب نظرة الغربيين، أمّا نحن فنعيش انفصاماً يجعلنا نسعى لإيجاد مبررٍ لكل فعل مشين، فالوالي الذي يضبط في نهار رمضان مرتكباً للفاحشة ينبري من يقول أنّه “قد انتابته لحظة ضعف بشري” والمسئول الحزبي الكبير الذي اشتهر بصحبة المومسات وملاحقة الصحفيات، فهذا نجد له مُخارجة عبر أحد الأمثلة الشعبية السائبة من مثل “الفحل ما عوّاف” أو “ما في زول عيّروا بمَرة (امرأة)”!
هؤلاء إذا تتبعت سيرتهم تجد أنهم يختانون أنفسهم في الفضاء الخاص فتسول لهم نفوسهم خيانة الأمانة في الفضاء العام (طبعاً هذا مجرد مؤشر إذ لا توجد علاقة طردية أو إلزامية بين الخاص والعام). إنّ كثيراً من ساستنا الأجلاء الذين جادت بهم (قحت) بعد الثورة ومن قبلها “التجمع الوطني” كانوا يتلقون إعانات من الحكومات الغربية (welfare system) فيما يمتلك بعضهم عقارات مليونية في الخرطوم. من يفعل ذلك لن يتورع في أخذ رشوى من دولة خليجية مقابل ارتهان إرادة البلاد الوطنية، بل قد تسوّل له نفسه بعد ذلك التحدث باسم العملية السياسية. لا ننسى قادة الحركات الذين طوّعهم جهاز الأمن حتى قال أحد قادة الجهاز “وجدنا ناس دارفور أرخص من الجنوبيين” ذلك أنّهم كانوا يرضون بالدنية من العطية. لقد أفسدت الإنقاذ أخلاقيات العمل العام حتى زهد فيه الشرفاء وأصبح مطلباً لكل متبطلٍ ليس له موهبة أو عطاء. فضحت الحرب حجم الاختراقات التي أحدثها قادة المليشيات في كافة الاحزاب السياسية والقوات النظامية. لم يبرأ من استلام العطية الشهرية من “القائد” غير عجائز الحزب الشيوعي – الخطيب وصديق يوسف – الذين لصرامتهم لم يجرؤ أحدٌ على مصارحتهم، أمّا البقية فحدث ولا حرج.
ختاماً، يجب أن نُقر بأننا أمّةٌ غير مسئولة وأننا نتباهى بمفاهيم ونتشدق بقيم لا نمارسها في حياتنا، الأمر الذي جعلنا نعيش في حالة انفصام مَرَضيّ كان النهب إحدى أقبح تمظهراته، منّا من مارس النهب بصورة ناعمة فهرَّب أموال البترول والذهب مستخدماً سلطته السياسية ومنّا من مارس النهب بصورته الخشنة فسرق العربات والمولدات مستغلاً سطوته العسكرية. يجب أن لا نطمع في خلاص من واقعنا المتردي هذا إلّا إذا وقفنا وقفة أمينة مع أنفسنا واعترفنا بأخطائنا وأقررنا بظلمنا لأنفسنا وللأخرين.
لقد تضمنت كتابات طه عبدالرحمن – الكاتب المغاربي – مُدونة عن “سؤال الأخلاق” تطرق فيها لارتباط الاخلاق بالورع الشخصي والجماعي من مفهوم فلسفي صوفي، كما احتفت كتابات حنّة ارندت – الكاتبة اليهودية – بالانسانوية كقيمة محورية يتبلور عنها ومنها مفهوم الأخلاق، فيما قد تتعرض المجتمعات ل “أزمة الضمير” الجماعي إذا ما أهملت قضية الأخلاق. نحن نعيش أزمةً في الضمير نتجت عن عدم جديتنا في مساءلة بعضنا البعض وتمثلت في عدم رغبتنا في القيام بمسئوليتنا في تقنين سبل الشفافية والمحاسبية. لا غرو، أنّ الساسة والقادة لا يستقيلون في هذا البلد لأنّهم غير مَسئولين وغير مسائلين.
Auwaab@gmail.com