(1 ـ 2)
مَوْقِعُ الدّيْنِ فِي فِكْرِ الشِّيُوعِيِّين السُّوْدَانِيِّين*
(1)
يكاد «الموقف من الدِّين» و«الموقف من الدِّيموقراطيَّة» يمثِّلان أبرز إشكاليَّتين من الإشكاليَّات العديدة التي ظلت شاخصة في أفق الحزب الشِّيوعي السُّوداني منذ بواكير نشأة حلقاته الماركسيَّة الأولى قبل نهاية الحرب العالميَّة الثانية. ولم يتوقَّف العقل الحزبي الجَّمعي عن بذل قصارى جهده في التَّصدِّي لمعالجتهما طوال تلك العقود الطوال، وإن كان قد تعاطى مع الإشكاليَّة الثَّانية «الدِّيموقراطيَّة»، على العكس من الأولى «الدِّين»، بديناميكية فكريَّة أعلى، محقِّقاً فيها نتائج أفضل.
في المستوى الشَّخصي، وكمثقف عضو بالحزب منذ ما بعد ثورة أكتوبر 1964م، حفَّز ذلك الجَّهد الجَّمعي لديَّ جهداً ذهنيَّاً أثمر، على هذا الصَّعيد، كتابين هما «الشِّيوعيُّون السُّودانيُّون والدِّيموقراطيَّة» عن دار عزَّة بالخرطوم عام 2003م، و«عتود الدَّولة: ثوابت الدِّين أم متحرِّكات التَّديُّن» عن دار مدارك بالقاهرة عام 2010م، فضلاً عن العديد من المقالات التي نشرت في موقعي الفرعي بـ «الحوار المتمدِّن»، وصحف ورقيَّة، ومواقع أسفيريَّة أخرى.
وتلزمنا، بادئ ذي بدء، برغم الاتِّهام الجائر للشِّيوعيِّين السُّودانيِّين بالتَّبعيَّة للتَّجربة السُّوفيتيَّة في هذا المجال، ملاحظة الموقف النَّقدي المستقيم منها، خصوصاً في طبعتها الستالينيَّة، والذي اتَّخذه الشِّيوعيُّون السُّودانيُّون في وقت باكر، معتبرين الموقف من «الحريَّات»، والموقف من «الدِّين»، بمثابة كعب آخيل الحقيقي في تلك التَّجربة، مِمَّا احتاج إلى قرابة نصف قرن لتأكيده. لقد أشار إلى ذلك، مثلاً، القيادي حسن الطاهر زروق، في تصريح صحفي عام 1944م، قبل عامين من التأسيس الرَّسمي للحزب في صيف 1946م، حيث استبعد أن تتطابق التَّجربة السُّودانيَّة مع التَّجربة الرُّوسيَّة السُّوفيتيَّة، قائلاً: «قد نستفيد من التَّجربة، لكنَّنا سنتفادى سلبياتها مثل غياب ضمانات حريَّة وسلامة الفرد، وعدم تقدير دور الدِّين في حياة الشُّعوب» (جريدة السُّودان الجَّديد؛ الأوَّل من سبتمبر 1944م ـ ضمن محمَّد نوري الأمين؛ رسالة دكتوراه لم تنشر بعد، أو تترجم، غير أن صاحبها نشر جزءاً كبيراً منها، منجَّماً، في «مجلة دراسات الشَّرق الأوسط»، عام1999م).
(2)
تركيزنا الأساسي، في هذه المقالة، سينصبُّ على قضيَّة «الحزب والدِّين». وأوَّل ما تجدر الإشارة إليه، على هذا الصَّعيد، هو أن المنهج الذي اتَّبعتُه، شخصيَّاً، في الاهتمام بهذه القضيَّة هو نفس المنهج الذي اتَّبعه الحزب في تصدِّيه لصياغة موقفه منها، وهو، أيضاً، ذات منهج ماركس في إدارة ظهره لمجمل تاريخ انشغال الفلسفة بـ «تفسير» العالم، وتركيزه، بدلاً من ذلك، على «تغييره».
وقبل مواصلة الخوض في هذا الأمر، ثمَّة حقيقتان تأسيسيَّتان تقتضي الاستقامة الفكريَّة إجلاءهما على النَّحو الآتي:
الحقيقة الأولى: أن الماركسيَّة تشترك مع كلِّ الفلسفات الماديَّة الأخرى، من حيث اشتمالها على رؤية ناقدة لـ «الدِّين»، ضمن السِّياق العام لتطوُّر النَّزعات «الإلحاديَّة» في الفلسفة الماديَّة الأوربيَّة بأسرها، والتي رفدت واسترفدت خصائص عقلانيَّة الثَّقافة اليونانيَّة، وطبعت بطابعها العام مشهد التَّطوُّر العلمي في الغرب، ووسمت، في عقابيل القرون الوسطى الأوربيَّة ومطالع عصر الحداثة البرجوازيَّة، الاصطدام العنيف بين المجتمع الذي كانت تملأ أشرعته رياح التَّغيير الثَّوري البرجوازي، وبين الإكليروس الكنسي المدافع عن الأوضاع الإقطاعيَّة البالية، وما انتهى إليه ذلك الصِّراع من انتصار تاريخي للبرجوازيَّة، ومن خلفها مجموع الشُّعوب الكادحة تحت رايات الحريَّة، والإخاء، والمساواة، والعلمانيَّة، والدِّيموقراطيَّة .. الخ. ولا يوجد، بالتَّالي، سبب واحد لتخصيص الماركسيَّة وحدها بالهجوم تحت شعار «محاربة الإلحاد» سوى أنها، وعلى عكس الفلسفات الأخرى، لم تعتبر هدفها الأساسي «تفسير الطبيعة»، الميدان التَّقليدي للمواجهة بين «الفلسفة» و«الدِّين»، وإنما اعتبرت مهمَّتها الأساسيَّة «تغيير المجتمع»، كما في قول ماركس الشَّهير.
«التَّغيير»، إذن، هو الفارق الأهمٌّ بين الماركسيَّة وبين غيرها من الفلسفات الماديَّة، ومن ثمَّ فهو كلمة السِّر في الهجوم المنهجي عليها وحدها من قبل القوى الاجتماعيَّة المتضرِّرة من فقدان امتيازاتها بفعل «التَّغيير»!
في هذا الإطار نستطيع، بقليل من التَّفكير، أن نكتشف مغزى التَّناقض المفضوح بين موقفين تاريخيَّين للبرجوازيَّة من «الدِّين»: موقفها قبل انتصار ثوراتها الكبرى، حيث اعتمد مفكروها العداء لـ «الدِّين» كأيديولوجيَّة في حربها على حلف الإقطاع والإكليروس الكنسي، وموقفها بعد انتصار تلك الثَّورات، حيث استدارت، مائة وثمانين درجة، لتستخدم نفس أسلحة الإكليروس الأيديولوجيَّة «الدِّينيَّة» في دعايتها المضادَّة للماركسيَّة!
مفارقة بلا شك! وقد تصبح هذه المفارقة أكثر جلاءً إذا أخذنا في الاعتبار كون الماركسيَّة، على ماديَّتها، تتميَّز عن سائر الفلسفات الماديَّة الأخرى بأنَّها الأكثر بعداً عن الاشتغال بـ «نقد الدِّين»، بل إن مشروعها نفسه انطلق، أصلاً، من «نقد النَّقد للدِّين» الذي راج، وقتها، في الفلسفة الغربيَّة، كنظريَّة «الإلحاد البرجوازي» على يد فويرباخ الذي فسَّر عذابات الإنسان بما أسماه «الاستلاب الدِّيني»، زاعماً أن «الدِّين» هو مصدر «استلاب» الإنسان، ومن ثمَّ فإن إلغاء «الدِّين» سيؤدى، تلقائيَّاً، لإلغاء «الاستلاب»، الأمر الذى عدَّته الماركسيَّة وعياً زائفاً، وخرجت بفكرتها الرَّئيسة التي تنبِّه إلى «العلاقات الاقتصاديَّة الجَّائرة» في المجتمع الطبقي، الرَّأسمالي تحديداً، باعتبارها هي، لا «الدِّين»، أصل الدَّاء، جاعلة مهمَّتها الأساسيَّة نزع القناع عن «الاستلاب» في أشكاله غير المقدَّسة، حتَّى يمكن جذب الصِّراع الاجتماعي من السَّماء إلى الأرض، وتحويل نقد «الدِّين» و«اللاهوت» إلى نقد «الحقوق» و«السِّياسة»، وهذا بالتَّحديد، لا «الإلحاد»، هو ما شكَّل مدخل الشِّيوعيِّين السُّودانيِّين الأساسي إلى الماركسيَّة.
ومن ثمَّ فإن اهتمام الحزب، واهتمامي الفكري الشَّخصي كذلك، بقضيَّة «الدِّين»، لم يتركَّز عليها من زاوية الصِّدام التقليدي بين «الفلسفة» و«اللاهوت»، بل من زاوية التَّصدِّي للمشكلات التي تجابه نموَّ وتقدُّم حركة الجَّماهير الكادحة لتحسين ظروف حياتها باتِّجاه خلق «الوجود المغاير»، وتجابه نفوذ الحزب في أوساطها بنفس هذا الاتِّجاه، وتأثيره الإيجابي على الوعي الاجتماعي العام.
الحقيقة الثَّانية: أنه، على الرُّغم من أن الماركسيَّة ظلت تشكِّل أهمَّ مصادرنا المنهجيَّة والنظريَّة لمجابهة أسئلة التَّقدُّم والحداثة في مشروعنا النِّضالي، وما اتَّصل منها خصوصاً بحقل الاقتصاد، وتحليل وتفسير الظاهرات والعلاقات الاجتماعيَّة، في ضوء قوانين الدياليكتيك والمادِّيَّة التَّاريخيَّة، إلا أننا:
أ/ ظللنا نَحْذَرُ دائماً من الانزلاق في النَّظر إليها كمذهب مغلق، بل ندعو للتَّعاطي معها كمرشد للنَّشاط الثَّوري، مِمَّا يستوجب الاجتهاد في تطبيقها على واقع شعوبنا بأسلوب خلاق يتغذَّى، قبل أيِّ شئ آخر، من المرجعيَّة التَّاريخيَّة لهذه الشُّعوب، وحقائقها الاقتصاديَّة الاجتماعيَّة، والرُّوحيَّة الثَّقافيَّة. لذا فقد أولينا دائماً، وما زلنا، انتباهاً وثيقاً لدور «الدِّين» في الحياة الرُّوحيَّة لشَّعوبنا، ومن ثم للجَّوانب السَّالبة في النَّمط السُّوفيتي الذي شكَّل الخبرة التَّاريخيَّة الأولى، وليست الأخيرة، يقيناً، في البناء الشِّيوعي للحزب والدَّولة، وما يتَّصل بذلك النَّمط، خصوصاً، من عدم التَّقدير لهذا الدَّور؛
ب/ كما ظللنا نحرص، في مواجهة الجُّمود العقائدي، على طَرْق سكك التَّفتُّح الفكري المفضية إلى تنقيح، وتطوير، وإثراء أساليب التَّطبيق الماركسي على الواقع السُّوداني، في ضوء ما يتوفَّر لنا، عبر مسالك النِّضال اليومي، من خبرات ومعارف عمليَّة، وما نجد من حكمة حتَّى في ما تطرح التَّيَّارات الفكريَّة الأخرى. وتعتبر ضرورة التَّجديد في حقل الماركسيَّة، نظريَّاً وعمليَّاً، من أهمِّ ما دعا إليه المؤتمر الخامس للحزب، المنعقد في يناير 2009م، وما نبَّهت إليه، تحديداً، الفقرة الموسومة بـ «تجربة النَّمط السُّوفييتي والماركسيَّة»، ضمن «التَّقرير السِّياسي» الذي قدَّمه محمد إبراهيم نقد، السِّكرتير السِّياسي السَّابق للحزب، إلى ذلك المؤتمر، حيث أشار إلى مناداة مؤسِّسي الاشتراكيَّة العلميَّة بـ «الاستفادة من كلِّ الومضات الإيجابيَّة في التَّيَّارات الفلسفيَّة والفكريَّة الأخرى»، ضارباً المثل باستناد ف. إنجلز، في كتابه «أصل العائلة»، إلى أعمال الأنثروبولوجي الأمريكي لويس هنري مورغان؛ كما شدَّد ذلك التَّقرير، حذر الابتذال، على أن «الماركسيَّة ليست فصل الخطاب، أو الكلمة النِّهائيَّة التي تُطوى بعدها الصُّحف، وتجفُّ الأقلام»، حيث أنَّها تقتضي، بحسب منهجها نفسه، «النَّظر إليها في تاريخيَّتها، وليس كنصوص مذهبيَّة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها»، وهنا أيضاً يضرب التَّقرير المثل بالاختراق النَّظري الذي حققه لينين في «إسهامه بنظريَّة الاستعمار كمرحلة أعلى في تطوُّر الرَّأسماليَّة»، إذ من المعلوم أن ذلك الإسهام «كان محكوماً بعصره، حيث اعتبر الإمبرياليَّة رأسماليَّة محتضرة، لكن الرَّأسماليَّة استطاعت أن تمدِّد عمرها، وتنجز الثَّورة العلميَّة التِّقنيَّة، وتُسخِّر إنجازات هذه الثَّورة في تطوير إنتاجيَّة العمل» (راجع: المؤتمر الخامس ـ التقرير السِّياسي؛ ص 17، 18 ، 19).
(3)
في السِّياق ظلَّ حزبنا يراكم، تدريجيَّاً، عناصر المقاربة المطلوبة لمسألة «الدِّين والدَّولة»، باتجاه أكبر قدر من الوضوح النَّظرى حولها، حتى أمكن وضع الأقدام على أوَّل الطريق الصَّحيح، وبصورة تحويليَّة حاسمة لأوَّل مرَّة، من خلال مقرَّرات المؤتمر الرابع في أكتوبر عام 1967م.
ورغم أن تاريخ اهتمام الحزب بقضيَّة «الدِّين» يعود، كما قد رأينا، إلى منتصف أربعينات القرن المنصرم، إلا أن المؤتمر الرَّابع (أكتوبر 1967م) عُني بتلك القضَّية لسببين: أولهما ما يمثله «الدِّين»، وبخاصَّة «الإسلام»، من ثقل روحي، وثقافي، وسياسي تاريخي معلوم في بلادنا؛ وثانيهما كون ذلك المؤتمر قد انعقد بعد ما لا يزيد على أشهر قلائل من ارتكاب أحزاب «اليمين»، جريرتها الشَّنعاء باسم «الإسلام»، في العدوان على الدِّيموقراطيَّة، بتعديل الدُّستور لتحريم الشِّيوعيَّة، وحلِّ الحزب، وطرد نوَّابه من الجَّمعيَّة التَّأسيسيَّة، مختتمـة ذلك برفض الانصـياع لحكـم القضـاء بعـدم دسـتوريَّة تلك الإجـراءات!
لقد صاغ المؤتمر الرَّابع موقف الحزب من هذه القضيَّة، بشكل مؤسَّسي، في مستوى أعلى سلطة فيه، بما يستكمل تأهيل خطوطه الفكريَّة، والسِّياسيَّة، والدَّعويَّة، لتجاوز الجُّمود في أسر مقتضيات الدِّفاع عن النَّفس بإزاء هستيريا الدِّعاية الرَّجعيَّة المحليَّة والأجنبيَّة المضادَّة، إلى المدى الذي يتقدَّم فيه «الدِّين»، على العكس مِمَّا تريد له تلك الرَّجعيَّة، سلاحاً للثَّورة والتَّغـيير الاجـتماعي.
فمن جهة أولى: ورد في «البرنامج» المجاز في ذلك المؤتمر أن «.. الإمبرياليَّة العالميَّة وطلائعها المحليِّين .. يحاولون تصوير الدِّين الإسلامي بوصفه عقيدة تؤمن بالفوارق الطبقيَّة، وتعادي الاشتراكيَّة، ينحاز إلى الاستعمار الحديث، ويرفض الاستقلال الوطني، يدفع شعوبه إلى قبول العيش تحت الاستعمار «المؤمن» ضدَّ الاشتراكيَّة «الملحدة» .. (وهذه) الشُّعوب .. ترفض هذا التَّزييف للإسلام، وترى في دينها قوَّة للجَّماهير المناضلة في سبيل الكرامة والحريَّة .. و .. الاشتراكيَّة بوصفها النِّظام الوحيد الذى يسمو بالقيم الرُّوحيَّة، ويقيم العدالة والمساواة بين البشر، والحزب الشِّيوعي السُّوداني .. يجاهد بحزم وبصبر لتحرير الدِّين .. بوضعه في مجرى تطوُّره الحقيقي .. ضدَّ التَّمييز الطبقي وحكم الطاغوت، ومن أجل السَّير بالحضارة الإسلاميَّة إلى عالم القرن العشرين».
ومن جهة أخرى: جاء في وثيقة «التَّقرير السِّياسي» المار ذكره، وفى معرض توصيف الأزمة السِّياسيَّة آنذاك أن القوى الرَّجعيَّة «ظلت .. تعمل في إطار الحركة السِّياسيَّة (العقلانيَّة) .. ولكن تصاعد نشاط الجَّماهير .. دفع بها إلى تَرْكِ الحياة السِّياسيَّة (العلمانيَّة) .. ونَشْـرِ جـوٍّ من الدَّجـل اليمـيني .. يهدف إلى قيام سـلطة رجـعيَّة باسـم الدِّين»، لكن «.. خط حزبنا بين الجَّماهير في الدِّفاع المستميت عن مصالحها، وفي الاقتراب اليومي من طرق معيشتها، وتقاليدها السِّياسيَّة والاجتماعيَّة، سيجعل هذه الجَّماهير تقتنع، بتجاربها، ببطلان الهستيريا الرَّجعيَّة، وستكشف الدَّجل الطبقي الذي تحاول القوى الرَّجعيَّة إلباسه مسوح الدِّين». ثمَّ سرعان ما تستدرك الوثيقة بأن «.. هذا وحده لا يكفي لمواجهة خطر مستمرٍّ من الهجوم الفكري»، فتبلغ ذروة تلخيصـاتها واستنتاجاتها بقولها: «أصبح لزاماً على حزبنا أن ينمِّي خطه الدَّعائي حول قضيَّة الدِّين الإسلامي، وعلاقته بحركة التَّقدُّم الاجتماعي»، وأن أهميَّة هذا الخط «لا تقتصر .. على الرُّدود على ما يُثار .. بل يتعدَّى ذلك لجعل الدِّين الإسلامي عاملاً يخدم المصالح الأساسيَّة لجماهير الشَّعب، لا أداة في يد المستغِلين والقوى الرَّجعيَّة». وتمضى الوثيقة إلى تحديد المستوى المطلوب لهذا الخط بقولها: «نحن في حاجة إلى هذا الخط في المستوى الفلسفي، إذ تجري محاولات دائبة في معاهد التَّعليم للتَّخلي عن الحياة العلمانيَّة، وتربية جيل بتزوير الأفكار الإسلاميَّة ضدَّ التَّقدُّم الاجتماعي والاشتراكي .. (و) لمواجهة هذا الوضع الخطير أصبح لزاماً على حزبنا أن يدخل بين الطلاب لا بصفته داعية للنِّضال السِّياسي، بل كقوَّة فكريَّة تتصـدَّى لهذا الخـطر، وتواجـهه بخط يضـع الدِّين في مكانه بين حـركة الشُّـعوب».
لاحقاً عاد الحزب إلى تأكيد نفس تلك الأطروحة ضمن مقرَّرات مؤتمره الخامس، في يناير 2009م. على أنه كان قد عاد قبل ذلك، مراراً، ليؤكِّد على التزامه بها عبر مختلف محطات نضاله ومواقفه الفكريَّة. فقد طرح، مثلاً، في مذكرته إلى المجلس العسكري عام 1985م، مطالبته بأن «يضمن الدُّستور الانتقالي أعلى درجة من احترام الأديان»، مؤكداً على أنه كحزب «يستمدُّ .. من أصول الشَّريعة الإسلاميَّة ما يلائم العصر من أحكام، ويحترم كلَّ الأديان وكريم المعتقدات، ويعارض كلَّ دعوة فوضويَّة للمساس بمعتقدات وبمقدَّسات الشَّعب، ويعارض، بنفس المستوى، المتاجرة باسم الدِّين في السِّياسة وشؤون الحكم” (المذكرة؛ أغسطس 1985م). وكان الحزب قد سبق وعاد، أيضاً، إلى ذات الأطروحة، من خلال مشاركته في المشاورات التي أجراها مجلس رأس الدولة، عام 1988م، مع الكتل البرلمانيَّة، بعد إقالة الصَّادق المهدي، رئيس الوزراء، لحكومته الثَّانية، تمهيداً لتوسيع الائتلاف الحاكم بإشراك الجَّبهة الإسلاميَّة القوميَّة. وفي مبحثه اللاحق حول «الدَّولة المدنيَّة» أورد محمَّد إبراهيم نقد أن الحزب قد شدَّد، في تلك المناسبة التي استدعت مخاوف جديَّة من معاودة مشروع «الدَّولة الدِّينيَّة» الإطلال برأسه، على أن الحزب ليس معنيَّاً بحرفيَّة المصطلحات، أو بما إذا كان مصطلح «العلمانيَّة» بكسر العين أو بفتحها، وإنما يولى كلَّ اهتمامه لـ «الدِّيموقراطيَّة»، كحريَّات عامَّة، وكحقوق أساسيَّة، وكنظام حكم ومؤسَّسات، ما يجعله يعارض «الدَّولة العلمانيَّة» عندما تصادر هذه «الدِّيموقراطيَّة»، كما فعل مع دكتاتوريَّة عبود «العلمانيَّة»، ومع نظام مايو الذي بدأ يساريَّاً و«علمانيَّاً»، قبل أن يعلن قوانين سبتمبر 1983م، وينصِّب النِّميري إماماً! ودعا الحزبُ، كذلك، إلى تجاوز استقطاب ثنائيَّة «الدَّولة الدِّينيَّة/ الدَّولة العلمانيَّة»، مقترحاً مفهوم ومصطلح «الدَّولة المدنيَّة»، باعتبار عُشرة السُّودانيِّين، فى الشَّمال، كما في الجَّنوب آنذاك، مع «القانون المدني ـ المحاكم المدنيَّة/ الشَّريعة الإسلاميَّة ـ المحاكم الشَّرعيَّة»، وذلك انطلاقاً من يقين راسخ بأن التَّخندق في المواقف الحدِّيَّة المتصلبة هو أضرُّ ما يضرُّ بقضيَّة تستوجب، أساساً، وحدة القوى العقلانيَّة، ولو بالحدِّ الأدنى، والنَّأي عن إهدار الجُّهود في الخلافات الشَّكليَّة، أو الشِّجارات اللفظيَّة.
(نواصل)
الهامش:
*مقدِّمة حوار ضاف نظمه للكاتب موقع «الحوار المتمدِّن» على الشَّبكة العنكبوتيَّة، مطلع العام 2016م.
الشِّيوعِيُّون السُّودانيُّون والمَارْكْسِيَّةُ والدِّيْن (2 ـ 2) .. بقلم/ كمال الجزولي
مَوْقِعُ الدّيْنِ فِي فِكْرِ الشِّيُوعِيِّين السُّوْدَانِيِّين*
(4)
رغم ما أشرنا إليه، في نهاية الحلقة الأولى، مِن إننا لسنا ملزمين، ولا حتى مهتمِّين، بالانشغال بالدِّفاع عن «العلمانيَّة»، أو عن تطبيقاتها في المجتمعات الغربيَّة. لكن دعاة التطرُّف، والهوس الدِّيني، والدَّولة الدِّينيَّة، يتمادون في اختلاق الحُجج التي تتنكَّر للحقائق، وتشوِّه الواقع، كادِّعائهم العريض، مثلاً، بطرد «العلمانيَّة» لـ «الدِّين»، في الغرب، من الحياة والمجتمع، مع تمام علمهم بأن ملكة بريطانيا، مثلاً، هي، في نفس الوقت، رأس الكنيسة، مِمَّا كثر اجتراره في معرض التَّدليل على خطل ذلك التَّرويج الشَّائه؛ كما يعلمون، أيضاً، بقوَّة ونفوذ اللوبي الكنسي في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، ورجحان صوته في انتخابات الرِّئاسة والكونغرس؛ ويعلمون بارتفاع نسبة «التَّديُّن» في أمريكا، حيث نشرت مجلة نيوزويك نتائج المسح الذي أجري حول هذه المسألة عام 1991م، وجاء فيه أن 42% من البالغين ينتمون إلى كنائس يؤدُّون فيها صلوات الأحد؛ كما يعلمون بأن الأحزاب السِّياسيَّة الأوربيَّة ذات الطابع الدِّيني، كالدِّيموقراطي المسيحي في إيطاليا وفي ألمانيا، قد شاركت في وضع الدساتير «العلمانيَّة الدِّيموقراطيَّة»، والتزمت بها، وبما يتفرع عنها من تشريعات؛ بل ويعلمون، قبل ذلك، بأن فرنسا أقدمت، في البداية، بكل قوَّة دفع الثَّورة البرجوازيَّة العظمى عام 1789م، على الفصل بين الكنيسة والدَّولة، ثمَّ، في مرحلة لاحقة، تبنَّت الدَّولة الكنيسة حتى نالت لقب «طفل الكاثوليكيَّة المدلل»؛ لكن، بعد أكثر من قرن على الثَّورة، عاد تشريع الفصل بين الدَّولة والكنيسة، مرة أخرى، في العقد الأوَّل من القرن العشرين، عام 1905م؛ وبالمقابل لم تعترف الكنيسة الكاثوليكيَّة الفرنسيَّة بوثيقة «حقوق الإنسان والمواطن» الصادرة عن ثورة 1789م إلا في 1966م، بعد 168 عاماً! مع ذلك فإن الفصل بين الدَّولة والكنيسة لم يعن إقصاء الكنيسة عن المجتمع، أو مصادرة دورها الرُّوحي، إنَّما، فقط، أجبرها مناخ الدِّيموقراطيَّة على الحدِّ من غلوائها السِّياسيَّة، والتَّصالح مع التَّاريخ، والاعتراف بجور بعض أحكامها، ومراجعتها، وتصحيحها، حيث راجعت، مثلاً، في 1920م، إدانتها لجان دارك، في القرن السَّادس عشر، بالهرطقة والسِّحر، بل وعمَّدتها قديسة بعد أكثر من 400 سنة! كذلك راجع الفاتيكان عام 1992م إدانته للعالم غالليلو غاليليه، وذلك فى ضوء تأويل وتفسير معاصرين للكتاب المقدَّس يقران بالحقيقة العلميَّة القائلة بأن الأرض تدور حول الشمس، كما أصدرت الكنيسة الكاثوليكيَّة، في فبراير 2000م، اعتذاراً صريحاً عن حرق محاكم التَّفتيش للعالم جوردانو برونو في القرن السَّادس عشر لاعتناقه نظرية كوبرنيكوس عن دوران الأرض، ولاعتقاده بأنها كوكب في الكون وليست مركزه!
وربما كان من المناسب الإشارة، ضمن هذا السِّياق، إلى أن راشد الغنوشي، قائد الحركة الإسلاميَّة التُّونسيَّة، كان قد اقترح، في منتصف تسعينات القرن الماضي، ردَّ الاعتبار للفكر المعتزلي وروَّاده، مِمَّا يعَدُّ، من زاويةٍ موضوعيَّة، وبعيداً عن أيِّ نقد آخر يمكن أن يوجَّه للإسلام السِّياسي التُّونسي، فتحاً جديداً في الفكر السُّني الأشعري.
(5)
وتتمثل مبادئ «الدَّولة المدنيَّة»، أو «لنظام السِّياسي المدني الدِّيموقراطي التَّعدُّدي»، كما لخَّصها محمَّد ابراهيم نُقُد، في المساواة في المواطنة، وفي حريَّة العقيدة والضَّمير، بصرف النظر عن المعتقد الدِّيني؛ وإلى ذلك في المساواة بين الانتماءات للأديان؛ وفي اعتبار الشَّعب هو مصدر السُّلطات؛ وفي أن الحكم يستمد شرعيَّته من الدُّستور؛ وكذلك في استقلال القضاء، وفي سيادة حكم القانون، وفي مساواة المواطنين أمامه، بصرف النظر عن المعتقد، أو العنصر، أو الجِّنس؛ كما تتمثَّل في ضمان الحريَّات العامَّة، والحقوق الأساسيَّة، السِّياسيَّة، والمدنيَّة، والاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، والثَّقافيَّة، وحقوق الإنسان كافَّة، حسب المواثيق والمعايير الدَّوليَّة؛ وكفالة حريَّة البحث العلمي، والفلسفي، وحقِّ الاجتهاد الفكري والفقهي؛ والالتزام بما أجمعت عليه مواثيق الحركة السِّياسيَّة السُّودانيَّة، والمكوِّنة منها بالأخصِّ لتيار «العقلانيَّة» بين المسلمين في بلادنا، في ما يتعلق بالتَّشريع.
على أنه ينبغي ألا يُفهم من ذلك حصر المسألة برمَّتها في حقل التَّشريع، حيث الأهمُّ منه حقل التَّربيَّة، إذ ما من شكٍّ في أن من شأن التَّربية، والقدوة الحسنة، والأخلاق الفاضلة أن تدعم، قبل القانون، على أهميَّته، وضوح تصورنا لـ «الدَّولة المدنيَّة»، وما يميِّزها من بعض تطبيقات «العلمانيَّة» المنبثقة عن حقبتي «الإصلاح الدِّيني اللوثري» و«التنوير» في غرب أوربَّا. فـ «الدَّولة المدنيَّة»، مثلاً، لا تتنصَّل عن مسؤوليَّتها في الإشراف على الشُّؤون الدِّينيَّة، أو رعاية دور العبادة، ولا تغلق المعاهد الدِّينيَّة العُليا، أو تحظر تدريس مادَّة «الدِّين» ضمن مناهج التَّعليم العام، مع مشروعيَّة الاختلاف حول المنهج، كيلا يتحوَّل إلى امتداد لبرنامج حزب سياسي بعينه كما فى تجربة «الحركة الإسلاميَّة» مثلاً. و«الدَّولة المدنيَّة» لا تتخذ موقف اللامبالاة تجاه مظاهر التَّفسخ والانحلال في المجتمع، ولا تسمح بتحوَّله إلى خمَّارة أو ماخور، أو بانحدار الشَّباب إلى مهاوي الضَّياع. لكن أدواتها الأكثر أهمية لضمان ذلك ليس القانون، والمحاكم، وشرطة النِّظام العام، حسب النهج الذي كان قد اعتمده النِّظام المباد، بل التَّربية الثقافيَّة والسِّياسيَّة بواعز «الدِّين»، والأخلاق، والقدوة الحسنة، في الأسرة، والمجتمع، ودور العلم، ثم قد يأتي، أخيراً، واعز القانون، بعد ذلك، وليس قبله بأيَّة حال.
(6)
لم يُغرق الحزب، إذن، فكره، وهو يصوغ ويطوِّر موقفه من هذه القضيَّة، في دوَّامة المصطلحات والمفاهيم، بقدر ما أولى اهتمامه، على العكس من ذلك، لفضِّ الالتباس الذي يخلفه استخدام الثُّنائيَّات الاصطلاحيَّة والمفاهيميَّة «دولة علمانيَّة ـ دستور علماني/ دولة دينيَّة ـ دستور إسلامي»، وتقديم البديل الاصطلاحي والمفهومي المناسب. وعموماً تشكِّل انتباهته الباكرة لأهميَّة علاقة «الدِّين» بقضايا الثَّورة والتَّغيير الاجتماعي، ولضرورة إعادة صياغة الاشكاليَّة حول «الدِّين والدَّولة» من منظور «العقلانيَّة» وثيقة الصِّلة بالفكر الإسلامي، إحدى أهمِّ العلامات الفاضحة، من ناحية، لزيف اتهامه بـ «الإلحاد»، كمحض مزايدة مكشوفة عليه في سياق التَّشويه المتعمَّد لحقائق الصِّراع السِّياسي والاجتماعي في بلادنا، بغرض التَّشكيك فيه، والتَّنفير منه، في بيئة جماهيريَّة يشكل «الإسلام» ثقلاً روحيَّاً فيها، والكاشفة، من ناحية أخرى، عن استعداد الحزب نفسه لتوسيع منهجيَّاته، ومصادره المعرفيَّة، على الرغم من:
أ/ أن الماركسيَّة اللينينيَّة بقيت تمثل أقوى منهجيَّاته، ومُعيناته النَّظريَّة، لمجابهة أسئلة مشروعه الاشتراكي، بوجه عام، وما اتصل منها، على وجه مخصوص، بحقلي الاقتصاد، وتحليل وتفسير الظاهرات والعلاقات الاجتماعيَّة، في ضوء قوانين وأساسيَّات المادِّيَّة الدِّياليكتيكيَّة والمادِّيَّة التَّاريخيَّة؛
ب/ أن انتباهته تلك نفسها لم تظهر، عبر تاريخه، وتتواتر، إلا كما تظهر، فقط، وتتواتر «إشارات» الفنار البعيد، مراكمة كميَّة لا تصحبها حركة دفع يؤبه بها، رغم كونه ألزم نفسه بذلك، كما قد رأينا، وبصورة تحويليَّة كيفيَّة حاسمة، منذ مؤتمره الرَّابع في أكتوبر 1967م.
مهما يكن من شيئ، لئن كان ذلك الطرح التَّحويلي الباكر للقضيَّة، من خلال المؤتمر الرَّابع، هو الذي أرسى أسس تطويره لاحقاً، فقد انطوي، في الواقع، على أمرين في غاية الأهميَّة:
الأمر الأول: هو التأكيد على أن القوى الرَّجعيَّة ظلت «.. تعمل في إطار الحركة السِّياسيَّة العقلانيَّة .. ولكن تصاعد نشاط الجَّماهير .. دفع بها إلى تَرْكِ الحياة السِّياسيَّة العلمانيَّة»، حيث نلاحظ، هنا، الاستخدام المنتبه لعبارة «العلمانيَّة»، لا بدلالتها «الاصطلاحيَّة» التي استقرَّت في الفكر الغربي منذ حقبة «التَّنوير»، إحدى الحقب الثَّلاث لعصر «الحداثة»، وإنما كمرادف لمفهوم «العقلانيَّة» في الفكر الإسلامي؛ ولذا لا يصحُّ أن يُنسب هذا الاستخدام إلى «العلمانيَّة» بالمفهوم الغربي.
الأمر الثَّاني: هو سداد تلك الانتباهة الذي يتجلى في كونها سعت إلى تلمس عصب فائق الحساسيَّة في القوام الفكري والسِّياسي للجَّماعة المستعربة المسلمة في بلادنا، وقلما يبرز بوضوح كافٍ من بين وقائع تدافعها السِّياسوي، وفحواه أن أهمَّ وجوه الصِّراع حول قضيَّة «الدِّين» لا يدور، فحسب، بين «الأنا» المسلم و«الآخر» غير المسلم، وإنما داخل «الأنا» المسلم نفسه بين تيارين:
عقلاني منفتح: ينظر، باستنارة، لجوهر الإسلام القائم في معاني وقيم العقل، والحريَّة، والكرامة، والإخاء، والمساواة، والمشاركة، والعدل، والسَّلام، على خلفيَّة تستوعب مقتضيات «الحداثة» والتَّطوُّر، وتضرب، في ذات الوقت، بجذورها في عمق «أصالته»، فلا هو ينكرها، ولا هي تناقضه؛ ويتفاعل مع حركة الواقع بمنهج يستوعب هذا الجَّوهر كمحفز روحي للفقراء، والكادحين، والمهمَّشين، من أجل تغيير واقعهم بأنفسهم على قاعدة الحديث الشَّريف: «مـا أمرتكـم بشـئ من دينكـم فخـذوه، أما ما كان من أمـر دنياكـم فأنتم أدرى به»؛
وسلطوي منكفئ: لا يرى الإسلام إلا طغياناً، واستبداداً، وإكراهاً، وقسراً، وتسلطاً، واضطهاداً، وبالجُّملة: مشروعاً قمعيَّاً ينقض كلَّ تلك المعاني والقيم، ويجعل من الإسلام عامل هـدم للحـياة، بدلاً من محفِّـز لإعمارهـا، ويسـعى إلى فرض نمـط خاص وضيِّق من «التَّديُّن السِّياسي» على مجمل الوعي الاجتماعي، مستخدماً «الدِّين» مطيَّة للتَّسلط والقهـر، ومتوسِّلاً به لجمع الدُّنيا، وخداع الكادحين بحملهم على التَّسليم باستغلالهم.
هكذا حدَّد الحزب أن المشكلة ليست في «الدِّين» نفسه، بل في التَّفسير، والتَّأويل، والفهم المتباين لنصوصه، ومبادئه، ومقاصده الكليَّة، وبخاصة في ما يلامس «السِّياسة»، أو ما يطلق عليه «التَّديُّن بالسِّياسة» في أدبيَّات «التَّيَّار السُّلطوي» المدعوم بالقوى الاجتماعيَّة المستفيدة منه تاريخيَّاً في بلادنا، الأمر الذي يستوجب إصلاح تصوُّر الوعي الاجتماعي للصِّراع، لا باعتباره قائماً فقط حول التَّساكن بين المسلمين وغير المسلمين، كما لو أن مجرد إبرام أيِّ اتفاق سلام بين الفريقين سوف يؤدي، ضربة لازب، إلى حلِّ كلِّ مشكلاتنا ومتاعبنا الوطنيَّة والاجتماعيَّة، وإنما باعتباره قائماً، بالأساس، داخل الجَّماعة المستعربة المسلمة نفسها، بين التَّيَّارين المشار إليهما، قبل أن يكون قائماً بين «الدِّين» و«العلمانيَّة»، وفق الإرث التَّاريخي الأوربِّي.
(7)
أثبت تطوُّر الصِّراع السِّياسي والاجتماعي في السُّودان صحَّة هذا النظر، عبر المحطات الرَّئيسة لمشروع «الدَّولة الدِّينيَّة» التي سعى التَّيَّار «السُّلطوي»، حثيثاً، لتدشينها بتحالفه مع دكتاتوريَّة النِّميري، وسنِّه لقوانين سبتمبر 1983م، ثمَّ عودته بعد انتفاضة أبريل 1985م للدَّفع باتِّجاه استكمال نفس المشروع، تارة بممارسة الابتزاز والعنف السِّياسي والصَّحفي بين عامي 1985م ـ 1989م، وتارة بالاستيلاء على السُّلطة عن طريق الانقلاب العسـكري فـي 1989م، وتأسـيس أسـوأ نظـام قمـعي شـهدته بلادنا عـبـر تاريخـهـا باســم الدِّين.
لكن مسلمي السُّودان، قبل غيرهم، رفضوا، وبصرامة، مشروع «الدَّولة الدِّينيَّة»، وقاوموا، بالمهج والأرواح، محاولات استكماله، رغم استمراره في التَّشبُّث بالسُّلطة، مستمسكين باستعادة «النِّظام المدني الدِّيموقراطي». على أن ذلك وحده لن يحسم هذه القضيَّة، مهما عظمت التَّضحيات. وما لم ينتقل التَّيَّار «العقلاني» بجميع أقسامه المتقدِّمة، ومن ضمنه الحزب، من خانة الدِّفاع السِّياسي إلى مواقع الهجوم الفكري، في حركة تنوير هائلة، فإن خطر مشروع «الدَّولة الدِّينيَّة» يظلُّ شاخصاً، والاستبداد خلف قناع الإسلام يبقى ماثلاً. إن المعركة فى الوعى أصلاً، فبدلاً من الانشغال بالتَّناقضات الثَّانويَّة، والعراك السِّياسي اليومي مع قوى لا تمثِّل الخطر الاستراتيجي على البلاد، وقواها الوطنيَّة الدِّيموقراطيَّة، لا بُدَّ من تسليح الجَّماهير، خصوصاً المسلمة، بالوعي بالسُّمِّ الذي يغلف لها بالدَّسم، وذلك عبر منازلة التَّعصُّب والإقصاء في حلبة الصِّراع الفكري، وإرغام دعاته على خوض المعركة الفكريَّة التي يهابونها، والعمل على فتح المنافذ التي يغلقونها. ويشمل ذلك، أيضاً، المسألة الدُّستوريَّة بما لها من صلة وثيقة بقضايا «الدِّين»، والدَّولة، والسِّياسة، حيث ما تزال، وستظل، في قلب قضايا الصِّراع حول حاضر ومستقبل السُّودان، حتَّى تحلَّ جميع القضايا المصيريَّة، ويتمَّ الاتِّفاق على الدُّستور الذي يؤطِّرها. لهذا تتوجَّب مواصلة تطوير القدرات الفكريَّة والسِّياسيَّة لقوى «العقلانيَّة» الدِّينيَّة والسِّياسيَّة حول هذه المسألة. ولما كان ذلك كذلك فإن أمام الحزب، ما يزال، واجب السَّعي من أجل تحقيق أعرض اصطفاف لهذه القوى، خصوصاً وسط المستعربين المسلمين، واستعدال المفاهيم، والمناهج، والمصطلحات اللازمة لبلورة الوعي المطلوب بالأساس، حيث الأهمُّ من ترديد شعارات المطالبة، مثلاً، بإلغاء القوانين القمعيَّة، إلحاق الهزيمة الفكريَّة بالذِّهنيَّة التي أنتجتها، أيَّام دكتاتوريَّة النِّميري، وفي ظلِّ سلطة الانقلاب الاسلاموي منذ الثلاثين من يونيو 1989م، والتي ما تزال تسعى للعودة إلى السُّلطة، ولو من النَّافذة، بعد أن طردتها الجَّماهير من الباب!
وعلى الرُّغم من أن الحزب الشِّيوعي طرح مفهوم ومصطلح «الدَّولة المدنيَّة»، ووقف خلفهما، كما أنفت الاشارة، إلا أنه، في التَّقويم النِّهائي، لم يحقِّق، طوال أكثر من أربعة عقود، المستوى المطلوب من النُّهوض بمقتضيات المهام التي ألزم نفسه بها. فمع كونه ظلَّ يرفض، مبدئيَّاً، ويقاوم، بمنتهى الصَّرامة، مبدأ اتِّهامه بـ «الإلحاد»، إلا أنه، وفي ما عدا بعض الجُّهود المتفرِّقة لنفر من أعضائه، في القيادة والقواعد، واصل التَّعويل، منذ ما بعد المؤتمر الرَّابع، على ما ظلَّ يعوِّل عليه قبله، من أن عُشرة الجَّماهير مع الشِّيوعيِّين كفيلة، وحدها، بإثبات كونهم «غير ملحدين»، وبإلحاق الهزيمة، تلقائيَّاً، بالدِّعاية المغرضة ضدَّهم، في سياق مشروع «الدَّولة الدِّينيَّة»!
على أن تلك السَّنوات الطِّوال التي تصرَّمت في ذلك الصِّراع تفرض عليه، ولا بُدَّ، مراجعة أولويَّات واجباته، والعودة، مجدَّداً، لتدقيق وتحقيق ما انتهى إليه، من ترتيب تلك الأولويَّات، في مؤتمريه الرَّابع والخَّامس حول هذه المسألة.
kgizouli@gmail.com