كان الأولى أن يتفهم السودانيون جميعًا خطورة مرحلة ما بعد ثورة عظيمة لم ينقطع مدّها منذ 18 ديسمبر 2018م، وكان عليهم أن يتجاوزوا الصغائر التي تسري الفرقة بينهم، وأن يزيدوا من مساحة المشترك العام، وهي بالتأكيد كبيرة، إذا جنحنا إلى الإيثار، بدلاً من الاستئثار.
تفرق السودانيون بين مكونين، أحدهما عسكري والآخر مدني، وفي الحقيقة أنهم كانوا شيعًا وأحزابًا داخل هذا المكونين، فبدا الجيش الذي يمثل عزة الأمة السودانية وأحد أركان دولتها كأنه فصيل موازٍ لجيوش كانت توصف بالمتمردة، وقد ظهرت قوة ضاربة بينها هي قوات الدعم السريع التي أنشأتها الحركة الإسلامية من أجل مساعدتها في بسط وهمها الحضاري، والقضاء على أي تمرد، مع امتيازات كثيرة متصاعدة، إلى حد أن صدر لها قانون يشرعن وجودها، ويعطيها التميز، بل ظلّ يدافع عنها قادة الجيش بعد الثورة، ويدعمونها بالطاقات البشرية المؤهلة من أجل رفع كفاءتها، مع تزويدها بأحدث العتاد، وبمناجم الذهب، لتجمع بين النفوذ والسلطة، ولم يتبق لها غير امتلاك سلاح جوي، وكان الوقت كفيلاً بتحقيق ذلك، لولا تصاعد الأحداث.
أما المكون المدني فقد ظلت قواه السياسية تتدافع من أجل تصدر المشهد السياسي، مع محاولة كل فصيل إقصاء الآخر، وعلى الرغم من العنوان العريض المتفق عليه، وهو استثناء المؤتمر الوطني، وعدم إتاحة المجال له في هذه الفترة الانتقالية، إلا أن الخلافات دبت بينها على أبسط الأمور، بل دفع المكون العسكري بقوى سياسية واجتماعية لزيادة مساحة الخلاف، وإظهار أنّ قوى الحرية والتغيير ليست الوحيدة الممثلة للثورة.
وبذل المكوّن العسكري جهده للإمساك منفردًا بالسلطة، وكانت فاتورة ذلك عالية، وكان الطريق الذي سلكه مضمخًا بالدماء الزكية التي سالت على أسفلت الشوارع منذ فض الاعتصام في شهر رمضان المبارك (2019م)، والنكوص عما جرى من اتفاق، ثم العودة، وحتى انقلاب 25 أكتوبر 2021م المشؤوم الذي قاومه الشارع بمزيد من الضحايا الذين ظلوا يسقطون شهداء كل يوم، ولم يوقف الاتفاق الإطاري نزيف الدم، وإنما أعقبته حرب ضروس قضت على الأمل الذي كان يداعب الوطنيين من أبناء السودان في حدوث دمج للميليشيات في قوات الشعب المسلحة، ليصبح هناك جيش واحد، مهمته الرئيسة حماية حياض الوطن، كأي جيش وطني محترم في هذا العالم.
وهذا الكابوس الذي نعيشه حذرنا منه كثيرًا، ونبهنا إلى خطورة انطلاق الرصاصة الأولى في الاتجاه الخاطئ؛ لأن العناد الذي هو طبع الشخصية السودانية، مع هشاشة البناء الاجتماعي، وضعف الوعي الوطني، سوف تترتب عليه نتائج كارثية.
وقد توالت الأحداث عاصفة، إذ تحول الآلاف من ساكني العاصمة المثلثة وبعض ولايات دارفور إلى لاجئين ونازحين، مع هروب الأجانب من الجاليات المختلفة، ومغادرة البعثات الدبلوماسية.
وتصدر السودان المشهد الإعلامي بأسوأ الأخبار، وتوالت المبادرات من الدول والمنظمات من أجل حل الأزمة، ولم يخل كثير منها من الغرض، كما شهدت الساحة السودانية تدخلات بدت آثارها واضحة للعيان، وهان البلد الذي كانت تعمل له دول أفريقيا ألف حساب، وأصبح مباحًا التدخل في شؤونه، بل تجرأت دول كانت ترتعد منه إلى حد محاولة فرض السيناريو الذي يحقق أهدافها على حساب السيادة الوطنية، وبتجاوز واضح لكل الأعراف الدبلوماسية.
وعلى الرغم من تدهور الأوضاع الإنسانية، ونزيف الدم المستمر، وتدمير البنى التحتية، وشيوع الفوضى والاعتداء الصارخ على المواطنين، ونهب بيوتهم ومدخراتهم، فضلاً عن تشريدهم، يبدو أن الدرس لم يستوعبه طُلاب السلطة، وأصبح هناك خلط بين ما يستحقه الجيش الوطني من دعم، بوصفه أحد أركان الدولة، ورمز مهم لسيادتها، وبين السلطة التي توافق الشعب عبر ثورته على أن تكون مدنية، ولا أدل على ذلك من أن الإصرار على شيطنة القوى السياسية – على الرغم مما يعتريها من ضعف الأداء – ما زال مستمرًا، مع محاولة مستميتة لتحميلها مسؤولية ما يحدث، وما حدث من إخفاق طوال الفترة الانتقالية، بينما الواقع يتطلّب النظرة الموضوعية للأمور، والوقوف على الأسباب الحقيقية لما آل إليه حال البلد.
والوطنية تقتضي كبح جماح النفس الأمارة بالسوء، وتلمس السبل المؤدية إلى إنهاء الحرب، بما يحقق بقاء الدولة، التي أساسها وجود جيش واحد، وهذا ما يعني حل مشكلة قوات الدعم السريع، وكل قوة مسلحة خارج منظومة قوات الشعب المسلحة، إلى جانب التوافق على قيام حكومة مدنية واسعة تمثل قوى المجتمع الحية، واستبعاد تلك الواجهات الكرتونية التي كانت سببًا في هشاشة الفترة الانتقالية، وأداة للنيل من مدنية الدولة.
إنّ منصة جدة التي ترعاها السعودية والولايات المتحدة تبدو الأنسب لوضع حدٍّ للاحتراب السوداني، على أن تتوافر الإرادة، وتغليب المصلحة الوطنية سواء من طرفي الأزمة أم القوى السياسية، فهل يستمع الجميع إلى صوت العقل الذي يسكت صوت البندقية، ويمهد الطريق إلى سودان جديد بحق؟
وتأكيد نائب قائد الجيش السوداني الفريق أول شمس الدين كباشي أن منصة جدة متقدمة على غيرها يدعو إلى التفاؤل بأن يكون الحوار مثمرًا ومفضيًا إلى نتائج تضع حدًا لمعاناة الوطن، الذي على شفا حفرة إذا تطورت الأمور، واتسع الخرق على الراتق.
دعوني أردد قول أمين معيوف: ” فحتى عندما لا نبصر نورًا في نهاية النفق، يجب أن نؤمن بأن النور لابد أن يظهر”، وأضيف من عندي في ختام قوله كلمة واحدة: “بالإرادة”.