يثير العهرُ السياسي والإعلامي غمامةً سوداءَ تجعل السودانيين يكثرون هذه الايام من قول: “البلد منتهية وما فيها زول!”. إلا أن الواقع مختلف تماما فالبلد ملأى بأولاد الناس المتميزين وبنات الناس المتميزات بيد أنّ هناك تواطؤا معلنا – أو غيرُ معلنٍ – بين التافهين والتافهات يحول دون وصول القيّمين والقيّمات إلى موقع اتخاذ القرار، وهذا أمر تساعد فيه السلطة العسكرية والمليشاوية المتهافتة وتعين فيه المحاور الإقليمية صاحبة المصالح المتضاربة والمتعارضة. لم يقتصر هذا الأمر على السياسة فقط، فقد شمل جميع المجالات الفنية والمهنية والتجارية والإقتصادية، حتى الدينية والأهلية والقبلية. كما لم يقتصر موضوع التفاهة على عالمنا المتخلف بل شمِل العالم الأول ولأسباب مشتبهةٍ وغير متشابهة (راجع كتاب “نظام التفاهة” للكاتب آلان دونو).
لم يترك الساسةُ السودانيون عاصمةَ عربيةً او إفريقيةً لم يجتمعوا فيها في الشهور الماضية كي يتحاوروا ويقرروا في شأن بلادهم، وفي كل مرة يفشلون في الإلتزام بالثوابت الوطنية ويخفقون في التوصل الى حلول بشأن القضايا المصيرية. العلة تكمن دوما في كون أن النخب الحيوية والتي تملك خبرة عملية وخلفية علمية واقفة على الرصيف فيما تجول بين العواصم تلكم التي جبلت على العمالة، الإرتزاق، الخيانة، الإختلاف، النرجسية، الغوغائية، قِصر النظر وعدم الإلتزام بالعهود، مُمَنِية نفسها بضرورة تصدر المشهد والإستحواذ على خانة الخلود دون أي رصيد من الإنجازات بل الإخفاق تلو الآخر والعجز عن تحقيق مراد الشعب من الرفاهية، السيادة والإستقرار. ينطبق هذا الأمر على “الليغ السياسي القديم” بجملته، إذ ليس السوء حكرا على فئةٍ دون أُخرى.
لا أدري إن كانت القاهرة تستطيع ان تنجح فيما فشل فيه الآخرون من محاولات للتوسط بين مُعوزين ومُفْلِسين (وهي تبدو لي الآن “ممسكةً بِدُبُر ميت”)، المحاولة لن تضر لكن الإنتظار سيطيل من محنة الإنسان السوداني الذي ضاق ذرعا بمحاولات الساسة البائسة واليائسة. رغم إغفالها لأهمية إشراك فاعِلين أساسيين هما القاهرة وأبو ظبي وعدم جديّتها في التنسيق مع الإتحاد الأفريقي ودول الإيقاد، فلا أعتقد أن الحادبين على سلامة وأمن السودان سينجزون مبادرةً أفضل من “مبادرة جدة” التي يمكن أن تُطور كي تمكننا من الإنتقال إلى المرحلة التي تليها والتي تتمثل في ضرورة إيجاد صيغة لإنهاء الحرب ومن ثمّ وضع تصور لكيفية الإنتقال الدستوري من حالة الفراغ الحالي إلى مرحلة التأسيس الإنتقالي التي يجب أن تتولاها حكومة مدنية – ينتدبها الشعب عبر تفويض سيادي – تجعل أولى أولياتها معالجة الوضع الأمني، الإنساني والإقتصادي. فيما تتولى المفوضيات أمر الدستور، التعداد السكاني، الإنتخابات، العدالة الإنتقالية…..إلى آخره.
يجب أن تكون الفترة التأسيسية ما بين ١٠-١٥ سنة، تقام فيها الإنتخابات الرئاسية في السنة الخامسة بينما تُعد اللبنات لاكتمال باقي البنيات الأساسية تدريجيا. هل هذه رؤية واقعية؟ نعم، إذ لا يخفى على أحد أن الإنتقال من الحرب إلى السلم ومن السلام إلى التنمية والإعمار يتطلب ترتيبات استثنائية لا تضحي بالثورية لكنها تجعل الأولوية للحكمانية (governance) وليس للديمقراطية. كما لم يُعد من الممكن مناظرة البلاد وهي تسير نحو الهاوية دون العمل على إعداد خطة هي أشبه بمحاولة الإصلاح التأصيلية وقد باءت خطة الإصلاح الترقيعية بالفشل. يجب أن لا يقارن هذا الإنتقال بتجربتي أكتوبر وأبريل، فهاتان كانتا تجربتين مركزيتين لم تخرجا عن طور التداول لسلطة سياسية بين المدنيين. حاولت (قحت) تكرار ذات التجربة لكنّها فشلت إذ واجهت واقعا معقدا ووعيا ملتبسا وحروبا مستعرةً بعقلية متحجرة وضميرٍ مستتر. لا غرو، فقد تسبب العجز، عدم الخبرة السياسية وتراكم الفشل لمدة أربعة سنوات في الحرب التي يعاني ويلاتها الشعب اليوم وسيظل إلى حين.
وقد صدق من قال إن “الثورة التي لا يقودها وعي تتحول إلى إرهاب”. فيما ظل العسكريون يتشاكسون قُبيل الحرب من فوق المنابر حول مفهوم “الكنكشة” (التي اتهم بها حميتي البرهان) ويتعارك المدنيون حول تعريف “القوى الثورية” بات ثلث المواطنين السودانيين يتضورون من الجوع ويعانون من المسغبة بينما تُعلق البقية آمالها على قرب الإنفراجة التي أصبحت اليوم بمثابة سحابة صيف أو سراب بقيعةٍ حسبه الظمآن ماءا!. يجب أن نلحظ الفرق بين الرؤية الثورية المتمثلة في ميثاق “تأسيس سلطة الشعب” والذي أعدته لجان المقاومة والرؤية البراغماتية المتمثلة في “الإتفاق الإطاري” الذي أعدته (قحت) أو ما بقي منها. الإقرار بهذه الفروقات سيفسح المجال لتفاهمات علها تُعَضِّد من روح الثورة دون أن تفتح المجال لتنازلات تكون سببا في الإنزلاق نحو الحرب الأهلية. إذ لابد أن تتضمن أي تسوية قادمة إلزام العسكر المتورطين في الحرب بالتنازل عن الحكم وحظر أعضاء اللجنة الأمنية من الترشح في أي انتخابات قادمة. كما يجب التحقيق في حيثيات الحرب وملاحقة المحرضين والمتسببين في الإنتهاكات التي تعرضت لها العاصمة المثلثة وإفساح سبل التحقيق في الإبادة الجماعية التي حدثت في دار مساليت.
لقد قمت بالإطلاع على “وثيقة إعلان مبادئ للقوى الثورية المدنية من أجل وقف الحرب والعمل الوطني المشترك” التي أعدها فاعلون مدنيون سودانيون وقد لاحظت أنّها تناولت جميع القضايا بعمق وتجرد ومهنية عالية، بيد أنّها عجزت عن تبيان الطريق اللازم اتباعه للإنتقال من الفوضوية إلى الديمقراطية. علما بأن الأمر لا يحتاج إلى وصفة سحرية تتجلى في تعبير “المجتمع المدني الديمقراطي”، فيكفي مجرد الإقرار بأنّ التصور التقليدي للفترة الإنتقالية – التي تعقبها انتخابات صورية لا تراعى فيها الإشكالات الهيكلية والبنيوية للدولة السودانية – كفيلٌ بإعادتنا مرةً أخرى إلى مسلسل الحروب والنزاعات القبلية.
إذن لا بد من اتخاذ تدابير تعتمد سبل “الديمقراطية التوافقية” التي تراعي حالة التدهور المجتمعي والإقتصادي وعدم قدرة مؤسسات الدولة بوضعها الحالي على أداء واجباتها بكفاءة ومهنية، فالكل بات يعرف أنّ القيادات التنفيذية فاسدة، البنية التحتية مهترئة، المنظومة القانونية بالية، النظم الإدارية عقيمة، قانون الإستثمار مجحف، العملة الوطنية متردية؛ والأخطر هو أن البلد مقدمة على حالة تشظي مريع.
وكنت قد اقترحت على المسؤولين الحاليين إبّان الإنقلاب، إذ رأيت الجهاز التنفيذي الأعلى للبلاد يدار من دون وجود رئيس وزراء لفترة تجاوزت العام، تكوين لجنة قومية عشرية برئاسة شخصية وطنية نزيهة وإعطائها مهلة ثلاثة أيام لترشيح ثلاثة أسماء بناءًا على أقيسة ومعايير محددة شريطة أن تعرض هذه الشخصيات في منصات إعلامية تهيؤ للجمهور وللجنة مساءلتهم والتعرف على هوياتهم ومدى استحقاقهم للمنصب الأعلى في الجهاز التنفيذي في الدولة. حريّ بهذا الإجراء الديمقراطي أن يلغي عنصر المفاجأة وأن يحرم (قحت) من حرصها على استبعاد الوطنيين المؤهلين والوطنيات المؤهلات من أبناء وبنات الشعب السوداني وعزمها على الإستئثار بكافة الفرص دون أدنى استحقاق لفرص التوظيف في زمن أصبح فيه الحكم (وإذا شئت الحكامة) عِلما يدرس في الجامعات ومهنة تتقن بالتوظيف في المؤسسات المحلية، الإقليمية والدولية.
ختاما، لا بد من توافق بين المدنيين متمثلين في جبهتهم العريضة التي تستلزم التشبيك والتدقيق والتوثيق، والعسكر متمثلين في مجلس الأمن والدفاع الذي سيعاد تكوينه، على صيغة تجعل المجموعة الثانية خاضعة لموجهات المجموعة الأولى، على الأقل في الفترة اللاحقة. كلما التقيت بضباط في القوات المسلحة – خاصة من المعاشيين – وحدثوني عن خبرتهم الإدارية والمهنية، بُعث في نفسي الأمل وأدركت بأنه لا محيص عن الإستعانة بهؤلاء النفر في بناء جيش احترافي مهني صاحب ولاء أوحد لا يتجزأ ووجهة صائبة لا تستميل. هؤلاء الرجال يُمَثِلون الذاكرة المؤسسية التي تعتبر الأساس في بناء أي صرح وطني، ويَمْثُلون كالطود الشامخ في تبيان قيم النزاهة والوطنية. “تتقدم الشعوب وتتمدن بقدر ما تتحرر من الوصاية السياسية المفروضة بقوة السلاح، وبقدر ما يكونَ الجيشُ ذراعا تنفيذياً تحت سيطرة السلطة الشرعية، وبالتالي فإنّ أهم ركن من أركان الديمقراطية وأكبر اختراق تاريخي حققته النظم الديمقراطية هو خضوع المؤسسة العسكرية للقرار المدني” (“بكاء مكتوم وخواطر على هامش الحرب” للأستاذة رشا عوض)(July 2/2023).
Auwaab@gmail.com