استوقفتني كثيراً وأكاد أقول كانت تستهويني حتى زمنٍ قريب عبارة “يسمح بمشاركة جميع الأحزاب ما عدا المؤتمر الوطني”، التي أصبحت عبارة عن ديباجة باتت تستهل بها القيادات السياسية والعسكرية تقريباً كل خطاباتها لتبرهن على التزامها بالخط “الثوري” ولتدرأ عن نفسها تهمة التواطؤ مع النظام السابق، مشاركته في ملفات خطيرة، والتآمر معه في قضايا شائكة كان أبرزها إنقلاب ٨٩ الذي لم يقم رئيس الوزراء حينها – السيد/ الصادق المهدي – بأدنى جهد لمقاومته، بل ما زالت هناك شكوكاً في تعاونه تعلة تكاثر الزعازع حول حكومته، التي تمثلت في عجزه عن الايفاء بموعوده بالغاء قوانين سبتمبر، حل الضائقة الاقتصادية، وإبرام صفقة لحل قضية الجنوب التي وصلت مرحلة الانفصال نتيجة تعنت بعض الإسلاميين، وتهافت الأحزاب السودانية لاحقاً – متمثلة في “التجمع الوطني” الذي أُنشأ في القاهرة (١٩٩١) – على الأنظمة العربية، التي أمدت الحركة الشعبية بالسلاح، امتثالاً لأمر سادتها الغربيين.
لم تستنكف النخب السياسية (رحمها الله) الوقوف مع أعداء الوطن وتعللت بتعاطفها مع الأشقاء في جنوب السودان – الذين لم تناصر قضيتهم العادلة عندما كانت في السلطة – في سبيل الانتصاف أو الانتقام من الإسلاميين، إذ لم تُمثِل لهم الوطنية قيمة عليا يجب الوقوف عندها نسبة لما يعانونه من شغف معطون بحب السلطة وتضخم الذات المسكونة بوهم الاستحقاق، كما لم يتردد الإسلاميون – فصيل على عثمان خاصة – في فصل الجنوب للحفاظ على السلطة، إذ كانوا يرون البلاد مجرد ضيعة يجوز أو يمكن أن تتضاءل حدودها إذا ما اقتضت الضرورة للتماشي مع سهوب وحواشي إرثهم الأيديولوجي البغيض وفكرهم الديماغوجي الخفيض. لم تتعلم النخب السياسية ضرورة تسييج الخلاف السياسي بسياج قيمي وأخلاقي. لذا لزم بعد الحرب البحث عن القيمة المضيعة التي بسببها ضاع هامش المناورة السياسية ولم تبق غير البندقية وسيلة لتحقيق التطلعات الفردية.
شاهدنا كيف يستحيل المعترك في امريكا وإسرائيل بين الأحزاب السياسية إلى حرب ضروس يجعلون مدارها السياسات – وليس الشخصيات – وتستعر العداوة حتى تكاد تنفجر بين أصحاب الرايات، لكنهم سرعان ما يرعووا خاصة عندما يتعلق الأمر بالأمن الوطني للبلاد ويوشك الجمع أن ينتهي إلى شتات. متى نسلك هذا المسلك الحميد؟ عندما ندرك أنّه ما من سبيل لاستبعاد أي فصيل من الأحزاب حتى المؤتمر الوطني أو إقصاء أي شخص ولو أن يكون إبراهيم غندور أو غازي صلاح الدين إلّا وفق إجراء قانوني أو معيار مؤسسي صارم. سيما إذا كان الفرقاء جميعهم شركاء في الجرم ولو بدرجات متفاوتة – جريمة الانتقاص من قيمة الوطن والعبث بمقدراته وتشريد شعبه، بل قتل وإبادة جموعه وأفراده. يقتضي تفكيك “سردية الكيزان” الوقوف عند كافة الحقب التي أودت وتسببت في تداعي الوطن وعدم الاكتفاء بالمحطة الأخيرة التي تهيأت فيها الفرصة لفئة من الناشطين – الذين أعدتهم المخابرات المحلية والإقليمية – لتصدر مشهد الثورة السودانية. لا يمكن أن يكون “عداء الكيزان” مشروعاً لهؤلاء، أو لأي فئةٍ أخرى. فلنبحث عن رؤى تلهم الشعب مَحِجة النهوض!
لا أعلم عن فئة قاومت الإنقاذ وقدمت من الشهداء في سبيل التخلص من عنت الإنقاذ وصلفها – باستثناء حركات الكفاح المسلح – من جماعة الشعبي. كيف يُمنع هؤلاء من المشاركة في العمل السياسي ويفسح المجال لأناس كانوا حتى أخر لحظة يشاركون الإنقاذ سلطتها؟ وقد ظلوا يتلقون هم واهاليهم اتاوات ومعونات من جهاز الأمن تُعينهم على تزعم الأخرين، إعاقة العمل الديمقراطي داخل أحزابهم، ومقاومة المد الثوري الذي كانت طليعته من الشباب، منهم المتحزب وذاك المستقل. لم أتصور أن يتحول شعار “كل كوز ندوسو دوس” (ومن عجب أنّه كان من الشعارات التي رفعتها المعارضة ضد “الكيزان” في الجامعات) إلى أكثر من خطاب شعبوي القصد منه استثارة العوام لفترة من الزمان ريثما تهدأ النفوس وتثوب العقول إلى رشدها كي تستطيع أن تميز الخبيث من الطيب وتعقِل أنّ من واجبها التحقق وليس أخذ النّاس بالشُبُهات. كما إنّ من واجبها التركيز على العمل المؤسسي وعدم الاكتفاء بالشغل الدعائي الإعلامي المقصود منه التحشيد وليس الترشيد.
ألان وقد زالت الغشاوة بعد الحرب وظهرت نوايا استقواء كل فريق من الساسة بكتيبة من العسكر، فقد وجب الانتباه إلى خطورة الإقصاء لأيّ مكونٍ من مكونات الأحزاب لأنّا إن فعلنا ذلك فلن يتوانى الحزب المبعد من محاولة لتعكير المناخ العام أو الاستعانة بكتيبة من الكتائب لحسم الخلاف عسكرياً وهذا ما ظل يحدث منذ السبعينات وحتى ألان. لذا وجب علينا تحصين ساحتنا السياسية من فرص الاستقواء بالأخر قبل أن نسعى لدمجه غير مستوفياً لشرطه، وذلك بالقبول بحيل التدافع واعتمادها كوسيلة مثلى لحسم الخلاف السياسي وتطور الرؤى الفكرية. حاولت بعض الأصوات العقلانية مثل الحاج وراق والشفيع خضر المناداة بقبول الإسلاميين الذين قدَّموا بعض المراجعات الفكرية الرصينة وارتضوا أصول اللعبة الديمقراطية، لكنّهم واجهوا آذاناً صمّاً وقلوباً غلفاً أعطت لنفسها حق الفرز الشخصي وتولت إصدار شهادات حسن سير وسلوك للأخرين.
ارتقت (قحت) مُرتقاً صعباً وأعطت لنفسها حق التحديد لمسار الثورة مساراً يسارياً ليبرالياً انتهازياً – لا سيما أنّ حمدوك كان عاجزاً عن تعديل هذه الوجهة إذ كان متوافقاً معها جزئياً – حتى أصبحت الحكومة حِكراً على فئة من المستجدين وباتت لجنة إزالة التمكين وسيلة للتشهير بالمعارضين، إذا لم نقل مركباً للمنتفعين الذين كانوا يتقاضون نسبة لفك الحظر عن ممتلكات المواطنين، في هذه الحالة “الكيزان” المفسدين حتى تثبت براءتهم؛ أمّا إذا تلقى “الثوري” رشوة أو إذا امتطت زوجته إحدى العربات المصادرة فهو برئ حتى تثبت إدانته. بهكذا أسلوب حادت مركب الثورة عن مرماها وبات من الصعب على أكثر أصوات الإسلاميين اعتدالاً الانضمام لطاقمها دون إبداء صوت احتجاجي صارم. ذات مرة طلب حمدوك من معاونيه إدراج إسم المحبوب عبدالسلام في قائمة المدعوين لشأن استشاري، فإذا به يفاجأ بحذف إسم المفكر الإسلامي وصاحب المراجعات النقدية الجريئة وإدراج أسماء من مثل الدرامية تماضر شيخ الدين والأستاذ فتحي الضو والروائي بركة ساكن وأخرين. لا أقلل من قيمة هؤلاء الأفاضل ولكنني أدلل على موقف (قحت) الأيديولوجي من قطاعات فاعلة في الشعب السوداني و تغافلها لفئات لا يمكن تجاوزها مهما فعلت. أنا لا أتكلم عن (قحت) الكيان بل أتكلم عن العيان، الشلة التي اختطفت المنصة، لم تستح وأطلت علينا بوجهها الكالح بعد الانقلاب المشؤوم. وقد كان حرىُّ بها أن تتوارى عن الأنظار، ولو إلى حين.
خاض بعض أعضاء المؤتمر الوطني معتركاً عصيّاً لإزاحة البشير وواجهوا جراء ذلك عقوبات جزائية وحزبية شملت الإبعاد والتهميش والتشهير بيد أنّهم لم تلين لهم عريكة وظلوا يواجهون ويلاحقون القيادة العليا باتهامات الفساد والاستبداد حتى لحظة قيام الثورة. هؤلاء يجب أن يُنْصَفوا وألّا يعاملوا معاملة المجرم الذي دقّ مسماراً لطبيبٍ في رأسه أو ذاك الذي زجّ حديدة لمعلمٍ في دبره. أتفهم الإبعاد لقيادات العمل التنفيذي مثل عوض الجاز ونافع، مثلاً، اللذان خاضا معتركَ العمل الأمني وولغوا في جرائم لم يتم التحقيق فيها حتى ألان، لكن لا أفهم كيف يُحرم رئيس دائرة سياسية في حزب المؤتمر الوطني من مزاولة نشاطه الذي يتماشى ويتسق مع قناعاته. من نحن حتى نقول له “أن قناعاتك فاسدة”؟ لم تمنع أوروبا الشرقية الأحزاب الشيوعية من مزاولة نشاطها بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي، بل تضاءل نفوذ تلك الأحزاب تدريجياً وانزوت من تلقاء نفسها بعد أن غابت فكرة الأحادية وأشرقت شمس التدافع والتنافس الحيوي.
لقد كنت وما زلت من أنصار العزل السياسي شريطة أن يطبق بصورة منهجية كأن يمنع كل من تولى وظيفة تشريعية أو تنفيذية منذ الاستقلال من المشاركة في العمل السياسي، لكنني ضد الأساليب الانتقائية والسبل العشوائية التي تُعتمد بقصد التشفي الشخصي أو النيل من رموزٍ بعينها. إذا رفض البعض فكرة العزل فيمكن أن تُكوَّن لجنة قومية ويوكل لها أمر النظر في أهلية الشخص المترشح أو المقترح العام، لا أن يعهد الأمر إلى لجنة أمنية تنظر سرّاً في أمر الشخص وتخرج لنا بمقولة مفادها أن الشخص المعني قد أخفق في إجتياز حاجز الفحص الأمني الذي لم يكن في فترة حمدوك إلّا وسيلة من اللجنة الأمنية لاستبعاد الثوريين والملتزمين بالخط الوطني دون الأخرين. كانت مقولة الفريق كباشي بمثابة نكتة عندما رفض ترشيح بروفسير محمد الأمين التوم للوزارة في حكومة حمدوك الثانية بحجة “الفحص الأمني” علماً بأنّه كان أعظم الكفاءات ثوريةً في تلك الحقبة، بل الوحيد!
ختاماً، إن الجودية في عرفنا الأهلي يُدعى لها العاقل “والفَسِل” (السفيه أو الجاهل)، إذ لا معنى أصلاً للجودية إذا كان المجتمع كله عقلاء وأهله عدول. بل لا معنى للتوسط إذا لم يَحدث تجاوزٌ من جهةٍ ما رغبت بمجيئها طوعاً “للضرا” (الساحة العمومية) الامتثال لأمر الجماعة والرغبة في الالتزام بعهدٍ أبرمته يوماً ولم تلتزم به دهرا. وقد يتطلب الأمر أحياناً ترغيب معتادي التخريب (spoilers) وذلك بإعطائهم مكاسباً تكون لهم بمثابة الحافز المادي أو الضامن المعنوي لالتزامهم مثلما ما حدث قبل خمسين عامٍ في سنغافورة، التي خصصت جزءاً من دخلها القومي لتلك الفئة حتى لا تعيق مسار النهضة (Singapore gave everyone stakes in the peace process). إنّ المخربين موجودون في كل الأحزاب والطوائف وفي حركات الكفاح المسلح، كما إنّ هنالك المخلصين الذين ضحوا بالغالي والنفيس ولم يطلبوا الدنية عوضاً للتخلي عن مصلحة بلدانهم العليا. يجب أن يتضمن المؤتمر الدستوري ومن قبل ذلك الحوار الأهلي الذي أسماه الأستاذ عبدالواحد محمد نور الحوار السوداني-السوداني الجميع بما فيهم المؤتمر الوطني. يبقى على الأخير أداء دوره في انتداب عناصر مُشَرِّفة تعرض رؤيتها بعلمية وتجرد وتلتزم بمخرجات “الجودية” (المؤتمر التأسيسي القادم) عن مشروع الجمهورية الثانية.
Auwaab@gmail.com