زعم الاستاذ عثمان ميرغني رئيس تحرير صحيفة التيار ان حرب 15 ابريل في السودان اندلعت بسبب انقلاب عسكري خطط له أفراد ينتمون لقوى الحرية والتغيير(المجلس المركزي) بالتعاون مع الدعم السريع، وقال في تسجيل صوتي ان الانقلاب لو نجح كان سيحظى بتأييد جماهيري وسوف يفرح به الناس لأنه انقلاب جيش فقط بدون مشاركة من الدعم السريع الذي كان دوره توفير الحماية والحراسة فقط! وبحسب التسجيل، كانت خطة الانقلاب ان يتم التحفظ على قائد الجيش بصورة كريمة لحين انهاء الترتيبات الأولية ولكن الأمر تحول الى إلقاء القبض على قائد الجيش بالقوة الامر الذي ادى الى اندلاع الحرب، وأضاف : كانت الثقة كبيرة في نجاح سيناريو (أ) فلم يتم احكام سيناريو (ب) أي الحرب بتداعياتها المعروفة،
واكد التسجيل ان الجهات التي صممت وهندست الانقلاب هي جهات خارج الجيش( داخلية وخارجية) ولكن حتى يكون الانقلاب مقبولا كان لا بد ان يكون التنفيذ الحقيقي بواسطة الجيش ليظهر امام الاعلام والرأي العام بأنه انقلاب عسكري، وكان هناك مجلس سيادة ومجلس وزراء مدني بالكامل سيتولى السلطة حال نجاح الانقلاب، وزعم عثمان ميرغني انه مستعد للادلاء بشهادته امام المحكمة حول هذا الملف الذي وصفه بانه ملف جنائي وانه قبل الانقلاب المزعوم جلس مع حميدتي لمدة ثلاثة ساعات دون ان يفصح عن الذي دار بينهما خلال تلك المقابلة!
هذا هو ملخص الرواية العجيبة المليئة بالثقوب والثغرات التي انتشرت بكثافة في الاسافير، ورغم ان الاستاذ عثمان ميرغني صحفي كبير وكاتب بقدرات متميزة، إلا ان روايته هذه بكل أسف لا تناسب ذكاءه! وتصديقها يحتاج الى عدد من “القنابير” لا تحتمله رؤوسنا ! وهي جزء من الخطاب التضليلي المصاحب لهذه الحرب اللعينة، وفيما يلي اهم الثغرات والمغالطات التي حوتها:
أولا: ما هي سلطة أفراد(مجرد أفراد) من مركزي الحرية والتغيير على المؤسسة العسكرية بشقيها لدرجة أن يقنعوا الجيش بتنفيذ انقلاب عسكري ويقنعوا الدعم السريع بأن يكتفي بدور التأمين والحراسة (ان يكون مجرد خفير لانقلاب لا يشارك في سلطته التي سيتولاها بالكامل مجلس سيادة ومجلس وزراء مدني مشكل بواسطة أفراد من مركزي الحرية والتغيير!!!) ومن هم هؤلاء الأفراد ذوي السر الباتع حتى ينفذوا انقلابا بهذا الشكل رغم ان مركزي الحرية والتغيير بكامل هيئته(وليس مجرد افراد منه) راح ضحية انقلاب البرهان- حميدتي في 25 أكتوبر واعتقلت قياداته ووزرائه في الحكومة ابتداء من رئيس الوزراء نفسه!
بقراءة منطقية لمعطيات الواقع لا توجد جهة في السودان قادرة من الناحية العملية على تنفيذ انقلاب عسكري ناجح، لان نجاح أي انقلاب مشروط بوجود جيش واحد يأتمر بأمر قيادة واحدة ، في السودان يوجد جيشان متوازيان هما القوات المسلحة وقوات الدعم السريع فضلا عن عدد من المليشيات الاسلاموية والحركات المسلحة، ولذلك فان أي انقلاب عسكري هو وصفة حرب ولا شيء غير الحرب، ومن الناحية المنطقية والعملية الجهة السياسية الوحيدة التي يمكنها خوض مغامرة الحرب ليست هي افراد او جماعات من مركزي الحرية والتغيير الذين لا يملكون عصا او نبلة، وحسب علمي لا يملكون سرا باتعا يجعلهم قادرين على تحويل الجيش الى اداة تنفيذية لانقلابهم وتحويل حميدتي الى مجرد خفير للانقلاب!!
خلال ثلاثين عاما ظل الكيزان حراس بوابة الدخول الى الجيش واعني هنا الضباط والمواقع القيادية، وتمت تصفية أي خلايا حزبية في الجيش واحلالها بخلايا الاسلامويين، نظام نميري بعد انقلاب هاشم العطا استهدف الضباط الشيوعيين بالفصل، والإنقاذ استهدفت الجميع مع تركيز خاص على تصفية وجود البعثيين بعد محاولتهم الانقلابية عام 1990، اما احزاب الأمة والاتحادي فليس لها وجود منظم في الجيش لأن رهانها في الوصول للسلطة ليس على الانقلابات العسكرية ، وبالنسبة لحزب الامة فإن الجيش تاريخيا ومنذ نشأته الاولى في عهد الاستعمار استبعد بصورة منهجية السودانيين المنحدرين من القبائل الموالية للمهدية، فمن الناحية العملية لن يستطيع حزب الامة تنفيذ انقلاب لصالحه، حتى عندما ارتكب حزب الامة الخطأ التاريخي بتسليم السلطة للجيش عام 1958 استدعى قائد الجيش ابراهيم عبود بصفته المهنية (كان عبود من جذور ختمية وليست انصارية)وسلمه السلطة، فكيف يكون الجيش مطية لقوى سياسية لا وجود لها في مفاصل قيادته بل يكون مطية لمجرد أفراد من هذه القوى؟
ان الجهة السياسية الوحيدة القادرة على الدخول في هذه المغامرة هي “كيزان المركز الأمني العسكري” المسيطرون على مفاصل الجيش وعلى كتائب الظل ومنظومة الصناعات الدفاعية وشرطة الاحتياطي المركزي، وهذه الجهة هي التي هددت بالحرب تصريحا لا تلميحا في إفطارات رمضانية موثقة بالصوت والصورة ، وهذه الجهة هي التي وقفت خلف انقلاب البرهان وظل محور نشاطها هو إفشال الفترة الانتقالية، وهذه الجهة منخرطة الان عمليا في الحرب بمليشياتها، وصفحات الحركة الاسلاموية في مواقع التواصل الاجتماعي تنعى كل يوم شهداء التنظيم في هذه الحرب فأين هم شهداء مركزي الحرية والتغيير؟ ام ان السر الباتع يكمن في إشعال الحرب دون المشاركة فيها ودون امتلاك ادواتها؟! وإذا كانت المؤسسة العسكرية هشة لدرجة إمكانية ان يتلاعب بها أفراد لا يملكون نفوذا قياديا داخلها ويدخلونها في حرب قذرة ومدمرة كالتي نشهدها الآن، اليس هذا اكبر دليل على الحاجة الملحة والعاجلة للاصلاح الامني والعسكري واخراج هذه المؤسسة نها ئيا من السياسة؟
ثانيا: من تعويم الانقلاب الى تعويم الحرب
عندما فشل انقلاب البرهان نتيجة المقاومة الداخلية والعزلة الخارجية برزت الى السطح خطة لتعويم الانقلاب ممثلة في إغراق الساحة السياسية بوكلاء للعسكر والفلول، من مهندسي هذا التعويم الكيزان ولا سيما الفصيل المرتبط بالمخابرات المصرية وعلى هذه الخلفية تم تصنيع ما يسمى بالكتلة الديمقراطية وغيرها من الواجهات الانقلابية، يبدو ان الكيزان بعد ان فشلوا في الحرب أرادوا تعويمها هي الأخرى عبر التنصل من مسؤوليتها وتوظيف آلتهم الإعلامية الضخمة في تكريس السردية الزائفة حول الحرب وخلاصتها ان قوى الحرية والتغيير دفعت الدعم السريع لتنفيذ انقلاب عسكري لصالحها ، ونظرا لان هذه السردية متهافتة منطقيا، استعان الكيزان بكتابهم العقلانيين الذين راكموا رصيدا من الثقة في الوسط الإعلامي لتكريسها، وهذا محزن جدا ومخجل في ذات الوقت ومن الناحية البراغماتية عديم الجدوى، لان تورط عثمان ميرغني في تسويق اللامنطق بهذه الصورة لن يحول الكذبة الى حقيقة بل سيبدد الأمل في وجود اسلاميين عقلاء يمكن الرهان عليهم في بناء أي توافق وطني منتج، وهذا مضر جدا لانه يجعل معارك تكسير العظام الدائرة حاليا هي الخيار الوحيد المتاح.
إن المغالطة المنطقية الاكبر في سردية انقلاب عثمان ميرغني هي افتراض خضوع قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي لقحت لدرجة ان ينفذ انقلابا ثم يخوض حربا لكي تصعد قحت الى السلطة وتحكم! ما الذي يجعل حميدتي الذي تمرد على الكيزان أصحاب الفضل في تكوين وتقنين قواته وشرعنتها سياسيا عبر برلمانهم، وعلى الجيش الذي سلح قواته ودربها، وعلى البرهان الذي فتح له ابوابا كبيرة لتقوية نفوذه العسكري والاقتصادي، ما الذي يجعله يقدم فروض الولاء والطاعة لقحت التي لا فضل لها عليه مطلقا ولا تملك قوات عسكرية يحسب حسابها! بداهة حميدتي له أطماعه الخاصة في السلطة التي يقاتل من اجلها، والكيزان لهم أطماعهم في العودة الى السلطة التي يقاتلون من أجلها، فأطراف الحرب هم الكيزان والدعم السريع.
المعلومة الصحيحة الوحيدة في حديث عثمان ميرغني ان عملية تصميم وهندسة الانقلاب الذي تحول الى حرب تمت خارج الجيش، ولكن التدليس يكمن في المحاولة البائسة للتستر على الجهة الخارجية الحقيقية ممثلة في الكيزان ، والمخجل ان لا يكتفي عثمان ميرغني بتبرئة اخوانه من جريمة إشعال الحرب بل يلصقها زورا في خصومه السياسيين بالفهلوة والجرأة على لي عنق المنطق والحقائق الشاخصة! الكيزان فشلوا في العودة الى السلطة انقلابا او حربا، فشلت الخطة (أ)، الخطة باء هي تعويم الحرب بل واستغلالها في اعدام خصومهم السياسيين عبر شهادات الزور وبلاغات الإفك وعودتهم الى المسرح السياسي لا كمعتذرين وراغبين في فتح صفحة جديدة بل كقادة سياسيين مستعلين وكقضاة يحاكمون الاخرين جنائيا على جريمة اشعال الحرب!! انها بجاحة لم يسبقهم عليها احد من العالمين!!