النهج القائم على المخاطر Risk- based approach)) هو مصطلح يعني تحديد أعلى مخاطر الامتثال المؤسسة المعينة، وجعلها أولوية بالنسبة لضوابط وسياسات وإجراءات الامتثال الخاصة بالمؤسسة. ويُسْتَخْدَمُ هذا المصطلح في المؤسسات المالية، خاصةً في مجال أنظمة مكافحة جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وهو يهدف إلى تغطية وحماية الجوانب التي يمكن أن تُسْتَغَلُّ في اختراق الأنظمة المالية والمصرفية. ويركز هذا النهج على معرفة العميل ومصادر أمواله والقنوات التي يتعامل عبرها. ويساعد إتباع النهج القائم على قياس وتوقع المخاطر المحتملة لتحقيق سلامة الأعمال، وتحديد المخاطر المختلفة التي قد تحول دون تحقيق الأهداف الرقابية في أي مجال من مجالات الأعمال. إن التفكير القائم على المخاطر ليس بالشيء الجديد، إذ أنه شيء نفعله جميعاً بصورة فطرية وتلقائية، وتخصص له المؤسسات إدارةً معينة (تسمى “إدارة المخاطر”)، وكانت هذه الإدارة تؤدي مهامها في السابق دون معايير موحدة، ولم يكن يتم سوى التحقق من صحة الخطط والأحداث والأفعال من حولها، (تحت شعار: خطط – افعل – تحقق – نفذ). وبعد ذلك، ومع تطور علم الإدارة، أصبح العمل الوقائي جزءاً من التخطيط الاستراتيجي، ومرتبطاً بالأهداف المراد تحقيقها، وبتحسين عملية صنع القرار داخل المؤسسة أو الدولة.
وتصدر المؤسسات الدولية حالياً عدداً من المعايير الإرشادية للعمل بها، وقياس درجة التحقق من السلامة. فعلى سبيل المثال، تصدر مجموعة العمل المالي مجموعة من المعايير لمكافحة غسل الأموال، وتمويل الإرهاب، وتقوم بتحديثها وفق المتغيرات المالية المتسارعة. وكذلك التغييرات والتعديلات في إصدارات الجودة مثل إصدارة آيزو 9001 لعام 2015م، حيث قامت بوضع النهج القائم على المخاطر المنتظم بحسبانه عنصراً رئيسياً من عناصر نظام أداة الجودة. وبهذه المعايير الإرشادية فإن النظام المؤسسي لإدارة المخاطر يعمل بصورة استباقية، وليس مجرد ردة فعل آني، ويمنع أو يقلل من الآثار غير المرغوب بها، التي تؤثر على تحقيق أهداف المؤسسة، وتضمن تحسين الأداء باستمرار.
ومن جانب آخر، هنالك أنواع من المخاطر يتطلب التقليل منها الدخول في المظلة التأمينية، باعتبارها أحد أهم أدوات التخفيف من المخاطر المحتملة. وكمثال على ذلك تقوم المؤسسات بتحليل المخاطر الناجمة عن العوامل الداخلية والخارجية، وتدرج ذلك ضمن مخففات المخاطر في الإستراتيجيات الكلية للمؤسسة. ويتطلب الأمر كذلك على مستوى الأفراد حسن التقدير للمخاطر المتوقعة، مقرونةً بدرجة من الوعي والثقافة حول أهمية درء المخاطر المحتملة للممتلكات ومشاركة الخسائر مع شركات ذات الاختصاص، ووصولا للتأمين على الحياة (رغم اختلاف الآراء حول مبدأ التأمين على الحياة في بعض المجتمعات المسلمة في الشرق والغرب).
ويُعد قطاع التأمين من القطاعات الاقتصادية الضعيفة في الدول النامية. ومعلوم أن النمو والاستثمار في هذا القطاع يتماشى ويرتبط مع حجم الاستثمارات في الدولة، وحجم الطلب عليها. وكانت مجموعة البنك الدولي قد أعلنت في يونيو 2023م عن مجموعة من الإجراءات الجديدة والموسعة لمساعدة البلدان على الاستجابة بسرعة وفعالية للموجات المتزايدة من الأزمات؛ ومنها بناء مظلة تأمين معززة ضد الكوارث بدون ديون، أي لتوفير الموارد دون زيادة الديون. وستعتمد مجموعة البنك الدولي على حلولها الخاصة بالتأمين ضد الكوارث مثل سندات التأمين ضد الكوارث، وستمنح جميع البلدان خيار دمج التأمين ضد الكوارث في أدوات الإقراض، وذلك لأسباب تعود لعدم قدرة جميع البلدان على تحمل تكلفة هذا التأمين. ويتم هذا من خلال مجموعة من المانحين لجعل هذه المنتجات ميسورة التكلفة للبلدان الأقل دخلا، عبر الصناديق التي يمكن أن تساعد في خفض تكاليف أقساط التأمين، والتي من شأنها أيضاً تطوير أدوات تأمين المعززة ضد الكوارث وتوفيرها للبلدان المنكوبة بالكوارث دون زيادة ديونها.
والجدير بالذكر أن مفهوم الكوارث يندرج تحته تلك الكوارث الناجمة عن الأخطار الطبيعية أو التي من صنع الإنسان، وتتسبب في إزهاق الأرواح وفقدان سبل كسب الرزق. وبسبب ضعف الأوضاع الاقتصادية في البلدان الفقيرة تتفاقم احتياجات الإنفاق العاجل من أجل جهود التصدي للكوارث وإعادة الإعمار، لدرء الضرر في البنية التحتية والتدمير الذي لحق بالمنشآت والأعمال. وهي رؤية البنك الدولي في العمل على إنشاء مظلات تأمينية جديدة لتدعيم مشروعات التنمية، والعمل لاستئناف المسار الصحيح لمعالجة اثار الكوارث بوتيرة سريعة. وكانت قد طُرِحَتْ مجموعة من الأدوات لتطوير وزيادة فعالية المساندة لمؤسسات القطاع الخاص المتعاملة مع قطاع التأمين للاستعداد للأزمات والاستجابة لها. كما ويساعد ذلك الشركات على مواصلة أعمالها على نحو مستدام، على المدى الطويل. وذكر تقرير البنك الدولي أن الوكالة الدولية لضمان الاستثمار قد أبرمت شراكة مع شركات تأمين من القطاع الخاص من خلال منتدى تطوير التأمين، وهذا المنتدى عبارة عن شراكة بين القطاعين العام والخاص، لتصميم منتج تأمين مبتكر وفق مواصفات محددة، كما وضعت مؤسسة التمويل الدولية حلولا للاستجابة للأزمات بقيادة القطاع الخاص بهدف مساندة المؤسسات المالية في معالجة آثار الكوارث الطبيعية الناجمة عن تغير المناخ.
كان قطاع التأمين في قد بدأ العمل في كثير من الدول الأفريقية عقب نيلها للاستقلال بسيطرة كاملة لفروع شركات تأمين اجنبية، اُو فروع لشركات تدار من قِبل الأجانب، بغرض خدمة مصالح تلك الدول والمتمركزة في التأمين على عمليات الاستيراد والتصدير عبر السفن البحرية. وتاريخ قطاع التأمين الوطني السوداني الذي بدأ في عام 1960م خير مثال على ذلك. وكان على القارة الأفريقية العمل على إنشاء كيان قوي يتولى إعادة التأمين على مستوى القارة. وقد تولى مصرف التنمية الأفريقي مبادرة لإنشاء شركة إعادة التأمين الأفريقية؛ حين تولي إعداد الدراسات والتمويل لتأسيس هذه الشركة، بمساهمة تقدر بنسبة 10% من رأس مالها. وقد قامت 41 دولة من الدول الأعضاء بالاتحاد الأفريقي في عام 1976م بالتوقيع على عقد إنشاء الشركة الأفريقية لإعادة التأمين، التي من أغراضها الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من الأقساط داخل أفريقيا بدلًا من الاعتماد على الأسواق الخارجية بصورة كاملة. وبحسب ما جاء في تقرير “نبض إعادة التأمين في أفريقيا” في نسخته الثانية (https://tinyurl.com/ksvewx7n)، فأن سوق إعادة التأمين في أفريقيا شهد نموا ملحوظًا، وذلك لارتباطه بالنمو المطرد لاقتصادات بعض الدول الأفريقية؛ وذكر التقرير أن حجم نشاط سوق قطاع التأمين وإعادة التأمين بلغ مبلغ 6.8 مليار دولار أمريكي عام 2018م. كما ويعزي التقرير تحسن عائدات التأمين إلى الزيادة في معدلات التأمين على الحياة، وانخفاض التكاليف. والجدير بالذكر أن السودان كان من ضمن الأقطار التي وقعت على إنشاء تلك الشركة (شركة إعادة التأمين الأفريقية) وذلك في عام 1977م.
وفي ذات السياق تواجه صناعة التأمين وإعادة التأمين في بعض الدول الأفريقية (ومنها دولتنا السودان) عدداً من التحديات والتحولات الاقتصادية والجيوسياسية الجارية، إذ أن تلك الدول تعاني من ضعف مساهمة صناعة التأمين وإعادة التأمين في النمو الاقتصادي. لا ريب أن الصناعة التأمينية في إفريقيا تتمتع بإمكانيات كبيرة غير أنها لا تساهم سوى بنسبة (1%) من مجمل أعمال القطاع ككل عالمياً؛ كما لا يمثل التأمين الزراعي سوى نسبة (4%) من حجم السوق الأفريقي، على الرغم من أن الاقتصاد الأفريقي يعتمد على الزراعة بصورة كبيرة. ولا يمثل نشاط قطاع التأمين في القارة الأفريقية سوى 4.5% من حجم الناتج الإجمالي بالقارة، والذي يتركز في المشروعات الكبرى خاصة النفطية منها، في دول مثل نيجيريا وجنوب أفريقيا، التي تعد من أكثر الدول تقدماً في أفريقيا. ويمثل حجم قطاع التأمين إلى الناتج القومي نسبة أكبر من ذلك بكثير، بينما ينخفض متوسط الإنفاق السنوي على التأمين في أفريقيا؛ حيث يبلغ 70 دولاراً للفرد في أفريقيا في حين يصل إلى 2700 دولار للفرد في غرب أوروبا وفقاً لما نشر في (Agricultural insurance in Sub-Saharan Africa: can it work?)، وفي ورقة مقدمة من (يوسف بن ميسية، رئيس الاتحاد الجزائري لشركات التأمين وإعادة التأمين (UAR) في المؤتمر 49 لمنظمة التأمينات الأفريقية (OAA) والذي عقد في مايو2023م بالجزائر العاصمة، حول اقتراح حلول مبتكرة لمواجهة تحديات القطاع الزراعي الذي يمثل أقل من 4% من سوق التأمين الأفريقي بقيمة 62 مليار دولار.
ويواجه قطاع التأمين في القارة الأفريقية بعدد من المعوقات تمنعه من اختراق الأسواق التأمينية من أهمها صعوبة الوصول للعملاء لعرض المنتجات التأمينية، وانخفاض دخول المواطنين وكذلك تدني معدل الوعي التأميني لديهم، حيث يركز العميل عند شراء وثيقة التأمين على حجم القسط ومبلغ التأمين ومدى تلبيتها لاحتياجاته فق وميزانيته، بالإضافة للعلامة التجارية لشركة التأمين وفي المقابل يُعد ضعف رؤوس أموال بعض الشركات وزيادة معدلات المخاطر الطبيعية والبيئة للاستثمار، وانخفاض المهارات في مجالات تكنولوجيا المعلومات عند القطاع التأميني من أهم الأسباب الجوهرية الأخرى التي تعيق تنمية القطاع. حيث أن ضعف المَلاَءَة المالية (solvency) عند شركات إعادة التأمين هي أيضاً من الأسباب المعيقة الأخرى. وتعد كذلك الأوضاع السياسية معوقاً رئيسياً أمام دعم القارة لتحويلها لمركز رئيسي للإعادة خاصة مع عدم استقرار الأنظمة السياسية في العديد من دول القارة؛ مما يعوق حركة انتقال الأموال بين دولها. وفي ظل هذه العوائق تبقى وثائق التأمين على كوارث الحروب من أكثر مجالات التأمين تعقيداً وتعد تغطية أخطار الحرب من التغطيات الإضافية التي تصدر كملحق على الوثيقة الأصلية، أو وفقاً لوثيقة منفصلة. وعادة ما تغطي شركات التأمين المخاطر غير الأكيدة. وفي حالة الحرب يفقد هذا الطابع غير المؤكد، ما قد يعرض شركات التأمين لخسائر كبيرة وفادحة. لذلك نشأت بعض الصناديق الإقليمية والعالمية لتغطية قطاعات بعينها في حالة الحروب مثل تأمين الملاحة البحرية. فتأسس الصندوق العربي لتأمين أخطار الحرب (AWRIS) في الأول من يوليو عام 1980م، وفيه يسمح الصندوق للشركات الأعضاء بالحصول على قيمة أكبر من عمولة الأرباح، كما ويضمن تسعيراً عادلاً ومتسقاً للتغطية التأمينية ضد مخاطر الحرب في عدد من الوثائق التأمينية (مثل تأمين اخطار الحرب لأجسام السفن قيد الانشاء أو التصليح – تأمين أخطار حرب الطيران – تأمين أخطار الحرب التي تصيب البضائع- تأمين أخطار الحرب على النقل على اليابسة- تأمين أخطار حرب العنف السياسي – تأمين أخطار الحرب من الإرهاب والتخريب – تأمين أخطار الحرب من جراء الإرهاب ضد الأشخاص)، من مهام الصندوق العربي، وتحديد أسعار وشروط أخطار الحرب من خلال مختلف الأغطية التأمينية التي يوفرها للشركات الأعضاء. وعدد الشركات الأعضاء في ذلك الصندوق حالياً هو 175 شركة من 18 بلداً عربياً وفق موقع الصندوق: (https://www.awris). والجدير بالذكر أن 8 شركات سودانية من ضمن الأعضاء في الصندوق العربي لتأمين أخطار الحرب.
وفي غالب دول العالم، يعد اتباع نهج إجراء تقييم أولي سريع للأضرار المادية المباشرة، مهم لمرحلة لما بعد الحرب وانتهاء الكارثة، مما يوفر المعلومات اللازمة لتحديد إجراءات العمل الملائمة والفعالة الواجب اتخاذها، وتيسير تحديد أولويات استخدام الموارد حيثما تشتد الحاجة إليها. وعلى سبيل المثال فقط، وليس المقارنة، نجد أنه في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، بادرت حكومة أوكرانيا بإجراء تقييم سريع للأضرار والاحتياجات في تقييم شامل لآثار الحرب في عشرين قطاعاً مختلفاً. كما تم تحديد وتقييم الاحتياجات التمويلية اللازمة لتحقيق التعافي وإعادة الإعمار على نحو قادر على الصمود وشامل للجميع ومستدام. لذلك على مؤسسات الحكومة وشركات التأمين وإعادة التأمين والأكاديميين المتخصصين العمل على وضع تقديرات أولية للأضرار والاحتياجات لتحقيق التعافي، مع أهمية إشراك خبراء المؤسسات الاكاديمية المتخصصة لتقديم تقديرات واقعية ترتكز على أسس علمية دقيقة، وعدم ترك الأمر لتقديرات جزافية تصدر من البعض.
وفيما يخص الحرب اللعينة التي تدور في السودان، التي خلفت دماراً واسعاً في الأنفس والممتلكات العامة للدولة وللأعمال والاستثمارات الخاصة وللأفراد الطبيعيين ، وفي البنية التحتية للاقتصاد، فليس هناك – إلا نادراً- تقديرات واقعية من متخصصين لحجم الدمار الذي حاق بالبلاد حتى الآن، لأسباب عديدة منها ضعف قطاع التأمين الذي لم يصدر – مبلغ علمي – أي بيانات أولية بحجم الخسائر، أو لعدم خضوع كثر من النشاطات الاقتصادية في السودان لمظلة التأمين، خاصة وأن هناك نشاط كبير للاقتصاد غير الرسمي أو ما يعرف (باقتصاد الظل) لا يخضع للتأمين، أو حتى التسجيل الرسمي للدولة. كذلك هناك عدد من المؤسسات الاستثمارية الكبيرة قد يكون لديها وثائق تامين إضافية من شركات تأمين عالمية بالخارج، كذلك قطاع التأمين العقاري غير مدرج بصورة الزامية، حيث تلزم قوانين بعض الدول أصحاب العقارات التي تفوق قيمتها مبلغاً معيناً أن تصدر وثيقة للتأمين؛ في حين يلزم قانون السودان التأمين على السيارات فحسب. لذلك يعد قطاع السيارات من القطاعات التي يسهل حصر حجم خسائرها، رغم أن وثائق التأمين الحالية لا تغطي الخسائر الناتجة من الحرب، لكن ذلك يقع ضمن الحصر الشامل للخسائر. ونختم بالدعاء أن يمن الله على البلاد والعباد بنعمتي الأمن والسلام.
nazikelhashmi@hotmail.com