(أرشيف عام 2004)
(لربما اعتقد الناس من ذيوع الحركة الشعبية وتكتيكها المسلح أنه لم يكن يناضل لقضية الجنوب غيرها وبوسائط العمل المدني. ولكن كان مثل جوزيف اوكيلو تمسك بالعمل المدني في الخرطوم لذات القضية. وصح تجديد ذكره ونحن لا نرى ضلال العمل المسلح الذي خرج لإزالة البشير ولم يوفق فحسب، بل نرى أن من أحسنه مثل الدعم السريع جعل منه أداة جريمة. ربما صح إبداء العرفان لمثل اوكيلو لأنه رأى ما فات على الكثيرين عن عاقبة العمل المسلح المرتجل)
كشف السيد جوزيف اوكيلو، زعيم تجمع أحزاب جنوبية عرفت بيوساب، عن وسامة كبري في حديثه للصحافة (8 نوفمبر 2004). فقد عتب على خفة السياسيين بالهرولة نحو الحركة الشعبية إما بالعودة على عقب أو بالاندماج (والفضول السخيف كما قال زميلنا السر حسن فضل). وقد ننسب هذا التهافت الي الخيبة أو الطمع أو الفرجة. وليس اوكيلو كذلك. فهو، مثل جنوبيين كثيرين آخرين، لم ير (ولا يزال) أن خدمة وفداء الجنوب مما يحتاجا الي بيعة قرنق او ختمه. فهو يري الحق الجنوبي ناصعاً مثل روما التي تقود اليها كل الطرق. فقد اختار يوساب العمل السياسي بالداخل على اتفاقهم مع الحركة في الأهداف الاستراتيجية المعروفة.
وقد زاد اوكيلو ارتفاعاً في نظري اعتزازه بالنهج الديمقراطي في العمل السياسي. فقد اختار بعد انتفاضة ابريل أن يعمل بالأسلوب البرلماني وثبت على خيار المعارضة السلمية على عهد البشير حتى صار رئيسا لتجمع الداخل. لم يستفزه اسلوب الإنقاذ في التهزئة المكلفة بخصومها السلميين إلى ارتكاب تكتيك الحرب المسلحة. وهذا من عزم القادة من الوزن الثقيل الذين يرسمون تكتيكاتهم بواقعية خلافاً لأولئك الذين يستخفهم الكيد أو نفاد الصبر فيتورطون في تكتيكات لا قدرة لهم بها. ومن هؤلاء قوات التحالف الذين تلاشوا أمس في الحركة الشعبية بعد عمر قصير جداً حافل بالمزاعم الديمقراطية.
وشقي اوكيلو من شبهات ساسة الشمال المرعوبين وأمنهم حين عاملوه ك “الطابور الخامس” للحركة الشعبية. ولم يزحزحه أذاهم عن خيار النضال من الداخل. ونجا بذلك مما أصاب لام اكول الذي فرط فيما يحسنه، وهو العمل النقابي الجماهيري، واستبدله بالعمل العسكري الذي يضمر فيه الرأي مما لا صبر لأكول عليه. فسوي الدرب ساساقة بين الخرطوم والغابة.
تسود بين الصفوة الشمالية حالياً عقيدة مؤداها أن قرنق قد كش الجنوب ب “الولد” أو بالحرب. وتجدها تستغرب للجنوبي الذي ما يزال يرفض “الكشة” والاندماج في الحركة. وربما كانت هذه العقيدة، في وجه من وجوهها، ضيقاً بالخلاف السياسي بين الجنوبيين، وهرباً من التعرف على تاريخه، وطلباً للأمان من مغبة تفرق الجنوبيين شيعاً.
ألح محرر الصحافة على اوكيلو يسأله لماذا لم يندمج في الحركة. وحسناً فعل المحرر. فقد كانت إجابات الرجل مسؤولة. فقد قال أن علي الحركة، التي اعتنقت عقيدة السلاح، ان تبرهن للجنوبيين أنها قد تحولت الي عقيدة السياسة. وحين سأله المحرر إن كان يوساب سيقوي على منافسة الحركة في الانتخابات القادمة قال اوكيلو بذكاء أن آخر انتخابات، وهي التي قاطعها قرنق في 1986، قد اوضحت مدي قوة حزبه. ولن يتغير الأمر كثيراً في المرة القادمة. وليس هذا حلم حالم. فسيسأل الناخب الجنوبي الحركة الشعبية، متي طلبت صوته، أسئلة كثيرة عن سيرتها المستبدة الدموية في الجنوب وضد الجنوبيين. وستحار جواباً. وسيكون للجنوبي الخيار لأول مرة ان يقول رأيه فيها . . . عديل.
أما أعجب ردود اوكيلو فقوله للمحرر أنه لم يشترك في مساع الوساطة مع مولانا أبل ألير كجنوبي وإنما كشخصية قومية ذي خبرة طويلة في العمل العام. وقد عجبت لعنايته في الكشف عن الجهة التي مولت نفقات وساطته. وهذه عفة يسقط دونها السياسيون السودانيون تباعاً. فلم يتضح لي بعد 15 عاماً من التحري الجهة التي مولت ندوة امبو (انعقدت في أثيوبيا بين ممثلين للحركة الشعبية ولجماعات يسارية وليبرالية من الخرطوم) حتى قرأت أخيراً في كتاب لام اكول أنها الحركة الشعبية. وكان أهل امبو قد أنكروا ذلك.
كيف تذكر اوكيلو الديمقراطية ومستحقاتها في سوق أسلاب نيفاشا وحكم الشائب. يا لعذوبة وجدان الرجل.
IbrahimA@missouri.edu