تعج ذاكرة التاريخ البشري بأنواع عديدة من أشكال الدول التي سادت وبادت وفق الحركة الحتمية للتاريخ الإنساني، ومنذ أن عرف الانسان مفهوم الدولة ككيان سياسي وشكل من أشكال ممارسة السلطة ، تطور هذا المفهوم من الدولة البدائية إلى ان وصلت بنا الحداثة بعد آلاف السنين إلى الدولة الاكترونية …لقد بينت التجارب التاريخية أن عمر الدول القائمة على نظم عقدية أحادية أو إثنية يتراوح مابين 70 إلى مأئة عام وقد يبلغ أقصاها ألف عام ويزيد قبل أن تضمحل أو تتفكك وتغير مسارها ، ويتم ذلك عبر مترسبات وعوامل متداخلة عبر عقود ينتج عنها في نهاية المطاف إنهيار الدولة أو تشظيها إلى دويلات متناحرة ،ولعل انتشار الفساد والمحسوبية في أوصالها إلى جانب سياسة البطش والتنكيل اللفظي والمادي ضد الخصوم ابرز عناصر إضعافها تدريجيا حتى الإندثار،التاريخ السياسي الإنساني حافل بدول وأنظمة عقدية أو إثنية سادت ثم بادت،فالاتحاد السوفيتي مثلا إنهار تدريجيا وتفكك بعد تخطيه عتبة السبعة عقود من الهيمنة الشيوعية الأحادية على مفاصل الدولة والمجتمع دولة ذات قبضة بوليسية صارمة،دولة قامت على البطش والصلف العقائدي،ولم يعد التاريخ يذكر اليوم سطوة الاتحاد السوفيتي ولا عظمة الامبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس ،ولا الامبراطورية العثمانية التي انزوت الان وانكمشت في جغرافيا صغيرة تقاتل بعض مواطنيها الأكراد…،أما السودان وبمنطق التاريخ المعاصر قامت على أرضه أربعة دول وأ نظمة حاكمة،فاذا جاز القول لقد شكل الاحتلال التركي نواة الدولة السودانية الحالية جغرافياً ( الدولة السودانية الاولى)، وقادت المهدية ثورية تحريرية نشأت بعد تحرير السودان الدولة السودانية الثانية وأول دولة وطنية حرة… أما الدولة السودانية الثالثة أنشأها الاحتلال البريطاني وبدأت الدولة السودانية الرابعة في 56 وحتى اليوم وتعتبر الدولة الوطنية الثانية بعد الدولة المهدية …
يتهم معظم السودانيين ان الدولة الرابعة أو ما يصطلح على تسميتها دولة 56 دولة مارست الظلم والاستبداد الإنتقائي في كل مفاصلها منذ نشأتها ،كما انها فشلت في إدارة التنوع السوداني إلى جانب فشلها في تحقيق التنمية والاستقرار في كافة ارجائها .
تتعالى الان اصوات كثيرة وتنادي بحتمية تفكيك دولة 56 كفكرة ومفهوم مركزي كرّس السلطة لخدمة مصالح إنتقائية ضيقة فضلا عن إهمال متعمد لدور الدولة الاساسي المتمثل في تحقيق التنمية وتطوير المجتمعات ورفاهيتها ،ولكن يبدو أن حرب الخرطوم الحالية حبلى بارهاصات تاريخية توحي بالكثير،كما ان هذه الحرب أحدثت هزة عنيفة في بعض المفاهيم،فكل هذه المعطيات تشي بأن أفق بناء وطن يسع الجميع وفق أبحديات جديدة بدأ في الإقتراب وسيشهد العالم ميلاد الدولة السودانية الخامسة التي مازالت ملامحها غامضة…غير انها حتما ستكون دولة المواطنة في الحقوق والواجبات
msharafadin@hotmail.com