- هل عدم تجذر مفهوم (الفردية) في المجتمعات يقضي على أي إمكان لنهضتها؟
- لماذا لم تستطع الشخصية السودانية التخلص من إرثها الخرافي، وظلت تعيش زمن ثقافي مأزوم؟
- هل بسبب “هيمنة” القبيلة والعرفانية لم نستطع بناء الوطن؟
إن عمل الكتابة في الأساس هو صناعة السؤال، ذلك حتى يسهل التعامل مع المعرفة على أُسس صحيحة تحاصر عمليات التضليل المُشرَعة على هاجسات من الهوى المُركب، ونظل نطمع في كل جهد متواضع أن نتخلص من الإكراهات التي حكمت المجال المعرفي السوداني، ومن أعظمها هذا الاستسلام الأعمى للمقولات، فما من ضلالة أشد على أي باحث يترجّى الحقيقة أن يُسلِم قِيادهُ للتربة التي يتعاظم فيها حضور الأذى، وتتراكم على أرضيتها أوشاب الجهالة، يسمح لوعيه الاطمئنان والسكون المحض لسلالة من المقولات المزيفة، وبحق لقد عاش ويعيش السودانيين داخل مؤسساتهم (القبلية والإثنية والعرقية والأُسرية والحزبية…إلخ) أوقاتاً أطول من مكوثهم أو تَحلُقِهْم حول فكرة (الوطن)، والسبب أن فكرة الوطن لا تقوم على معنى تجريدي، بل هي نتاج حُر لتفاعل جدلي بين الأفراد والجغرافيا، بين الذات والذاكرة، الوعي والوجدان، ولذا فإن الأوطان لا تظهر إلى الوجود فجأة، هي صناعة مرعية بالقانون المستند إلى ثقافة المجتمعات وحقائقها الإنسانية، وظني أن فكرة الوطن لم تدخل بعد قاموس السياسة السودانية رغم كل الأغاني والأناشيد والأهازيج و(الثورات)، والتبذل في تركيب معشوقة أنثى ترميزاً للوطن كونها محل الاشتهاء المحض، ومكمن الشهوة للحصول على الذات قابلة التعبير عن نفسها، ومشتبكة مع آخرين في حفل صاخب بالتولّه والمساررة، لقد ظل الوطن مجرد شهوة عابرة لم تستقر بعقد قِران حقيقي في نفوس السودانيين، لحظة منفلتة من عقالها محكومة بالتأثيم والإنكار، ووزغ الضمير، ويظل السؤال الرئيسي وهو: لماذا تأخر السودانيون عن صناعة الوطن؟، وظلوا رهائن في حوش مؤسساتهم القبلية والثقافية، والأيديولوجية حتى الآن؟.
لقد كان مجيء الاستعمار لحظة فارقة في السودان، فقد ظلت هذه الجغرافيا تعيش حالة من سيولة منعت عنها الإمكان الموضوعي لبناء وجدان مشترك تتأسس عليه فكرة الوطنية، ولسنا نطمئن إلى المرويات التي تريد أن تجعل من مملكة سنار (1504-1821م) أول حضور لفكرة الدولة في السودان، إذ نعتقد بأن سنار لم تكن سوى لحظة متخلفة من لحظات التواصل الحضاري بين السودان في الداخل وشعوبه المختلفة، وبين العالم القريب في محيطنا، ولعل حكمنا هنا لا يريد ممارسة تعميم مضلل بل النقطة التي نشير إليها تتصل أكثر بعمليات التأثير والتأثر والتي غابت عن مملكة الفونج، ذلك أن البحوث والدراسات التي أنجزها سودانيون وأجانب حول تاريخ سنار، تاريخها السياسي والاجتماعي، قدمت لها صورة لـ”مجتمع السوق” إذ كل شيء قابل للبيع والشراء، الإنسان بالرق، الأفكار بالالتباس، الهوية بالتركيب والأنساب بالاختلاق، إن انتماء سنار إلى فضاء المدينة والدولة مشكوك فيه، لقد توسعت مملكة سنار أعني سلطانها التجاري على حساب بناء المؤسسات، فالمدينة (العاصمة) سِنار لم تكن سوى سوق كبير لكنه ليس مثل سوق البصرة، بل هو فضاء يشبه محطة جمركية تمكث فيه البضائع بعد السماح لها بالمرور في مقابل جُعل محدد، والبضائع هنا ليست فقط مادية بل شعورية وثقافية كذلك، إن لحظة سنار تأسيسية إذا أردنا معرفة جوهر السياسة السودانية.
نعم توفر لحُكام سنار سلطة سياسية فرضوها على مجال جغرافي واسع من سودان القرن السادس – التاسع عشر، وعِماد هذه السلطنة القبيلة والروابط الروحية بين السودانيين والتي هي نعم مرحلة متقدمة على الولاء بالعرق، لكن عندما انهارت سنار من تلقاء نفسها لم تترك لنا سوى أطلال من عمارتها، وبقايا من حضورها السلطاني في الأوساط التي حكمتها، نعم ظلت سنار تمتد في أوصال التجربة الاجتماعية السودانية، وهذا هو الأذى، فقد خَلُصت التجربة الاجتماعية في سنار إلى التحام السلطة مع القبيلة، والجماعة، مع الشيخ، التحام لا فكاك منه، سلطة تكومت على رابطة من دم أو قرابة. ومن المؤكد أننا نحتاج إلى كتابة أوسع لبيان وشرح هذه المعضلة الاجتماعية، وقد يأتي الوقت للعمل على تحليل (سنار) في سياقها الاجتماعي، وعلاقة ذلك بِتَشَكُّل الشخصية السودانية.
المؤسسة الاجتماعية السودانية: السلطان على الأجساد والأرواح:
لقد باتت العلوم الاجتماعية تولي أهمية كبرى للفرد والذي يتصرف بشكل مستقل وفق خططه، وهذا المفهوم (الفاعل الاجتماعي) بات يحتل مكانة بارزة بل ومركزية، ويعني ذلك أن الظروف الاجتماعية والتي هي حصيلة الواقع الموضوعي تمثل المصدر الذي يحرك هذا الفاعل، ويشير “بيير بورديو” إلى أن الفاعل ليس إنسانًا آليًا تحدده ظروف وجوده الخارجية، ولا موضوعًا مستقلًا من شأنه أن يكون ذاتيًا، ولأجل فهم الظاهرة الاجتماعية يجب أن نضع في الاعتبار أنها نتاج السلوكيات الفردية (راجع: Acteur social (social actor) Jean Guichard – Dans Orientation et insertion professionnelle (2007), pages 3 à 10 ).
وقد انبنت المؤسسات الاجتماعية في السودان على أساس التسلسلات الهرمية: (العشيرة ، والطبقة ، والطائفة ، والعرق) وهذا التراتب مفهوم الدور في سياق الفاعلية داخل الرابطة بالدم أو العرق أو الحِلف أو الطبقة، وفيه تتنزل السلطة بشكل طبيعي، وتؤدي أدوارها بصورة معنوية أكثر منها التزاماً بالقانون العُرفي، فالزعيم القبلي يكتسب سلطانه عبر التراضي المفضي إلى التكليف، وسلطته مجانية في كثيرها، فالقبيلة عقدها الاجتماعي يقوم على فكرة التنازل عن إدارة الجماعة لفرد لكن دون إكراه، وزعيم القبيلة وكيل يقوم برعاية العقد المتفق عليه بين الجماعة، قائد واجب الطاعة، ولكن الزعامة داخل القبيلة تطورت وانتهت إلى تحرير نفسها من هذه السلطة المعنوية حتى وصلت إلى شكل المؤسسة، وذلك بموجب تراكم رمزي لها تحول بالتدريج إلى ميدان للسلطة والحُكم، ولذلك تتطور السلالات الحاكمة من شكل الرعاية والتأليف عند مؤسسها إلى ناحية الوراثة والتي تختط طريقها عبر التحامها بالسياق الاجتماعي الذي تمارس سلطتها داخله، ولا نعدو إن قلنا بأن هذا السياق الذي تطور مع القبيلة ظل يحتفظ بسماته المفصلية في معنى السياسة والحكم حتى اليوم، فالاستعمار الإنجليزي وهو المسنود بالخرائط الأنثربولوجية لهذه الجغرافيا حينما أراد أن يُحْكِم قبضته على السودان لم يُحدِثَ تغييرات راديكالية قد تؤدي إلى نتائج عكسية بالذات لبلد خارج لتوه من صراع قبلي يتكئ على تطّرُف عرفاني – خرافي مثلته قيادة الخليفة عبد الله “لدولة” محمد أحمد، فالقبائل السودانية خلال حكم الخليفة عبد الله أعيد ترسيمها في أم درمان بصورة قسرية حيث أقتلعت من مواطنها الأصلية وجيء بها إلى (البقعة) العاصمة الدينية المقدسة لدولة محمد أحمد، وفي السطح كنت ترى شيئاً من التجانس كون سكان أم درمان يشكلون خليطاً من أجناس وأعراق مختلفة، لكن الحقيقة أن أم درمان (المدينة الأم) ليست بالصورة التي يريد البعض رسمها حول اشتمالها على معنى ما من انصهار الأعراق والأجناس، نعم جرى ويجري تعايش حتى الآن في هذه المدينة لكنها تحتفظ أيضاً بمتاعبها الخاصة، فسكان بعض الأحياء القديمة لا يزال ينظر لهم بإسناد وجودهم الاجتماعي في تاريخ قديم… لكن لنعد لموضوعنا قلنا بأن الاستعمار استخدم البنى القديمة التي كان عليها سودان مطلع القرن العشرين، ولذا احتفظ زعماء القبائل بسلطانهم على مجموعات داخل مضاربهم (الإدارة الأهلية)، وأيضاً مُنِح الزعماء الدينيون صكاً لمواصلة سلطانهم الروحي على مريديهم، بالطبع الاستعمار في كل مكان يفعل ذلك بحيث يريد أن يحفظ أمن تماسك البلد الذي يحتله، وفي ذلك يستعين بحلفاءه في الداخل، وهم ليسوا حلفاء بالمعنى المفهوم أي انهم ليسوا على قدم من مساواة أو حرية إرادة في قبول أو رفض هذا التحالف الجبري، فعنصر الرغبة في الاستقلال لدى القبائل والمتصوفة الذين تصالحوا بسرعة مع الاستعمار الانجليزي لم يكن متوفراً ليس بسبب من عمالتهم بل هو قانون القوة فقط من كان يحكم هذه العلاقة.
وفي هذه الحاضنة نشأت وتركبت الشخصية السودانية، في حاضنة القبيلة والدين الجماعي، رهينة الزعيم القبلي والروحي، ولم يكن من الممكن أن تتطور الشخصية السودانية بسبب انغلاقها أو لنقل ارتهانها لمعنى الحماية بالقبيلة والأسرة والإقليم والطائفة والمسيد، فالمستعمر وهو يقود عمليات اجتماعية لصالح تقعيد حضوره السياسي عظّم من القبيلة ليس كرابط اجتماعي طبيعي بل كمؤسسة لها وظائف تؤديها لصالح المستعمر، ولذا فإنه لم يكن ممكناً بناء أي فردية سودانية طالما أن الحماية الاجتماعية هنا محكومة بمستعمر يقوم بإجراءات تبقيه في مأمن من السكان الأصليين، وأضف إلى ذلك التعليم الديني التقليدي والذي كرّس صوراً متخلفة عن الإسلام، وسجن الصِغار في الاستظهار والترديد ليبقوا عرضةً للعنف المادي والروحي، وبذا فقد اعتقلت الشخصية السودانية في فضاء قبلي/روحي لتعيش في سجن التراتبية الاجتماعية والتي تضع على كاهلها واجبات لتأمين بقاء الانتماء، وفي حال أرادت التخفيف من هذه الواجبات أو التهرب منها فإنها تفقد بقاءها وعضويتها في الجماعة مما يجعلها عرضةً لكل أذى متوقع ومن أي طرف كان، فالسوداني يظل عضواً في جماعة، فرداً في قطيع يمنع عنه الخروج عن سياسة القبيلة أو الأسرة أو حتى الأسطورة، لقد مسخت القبيلة الفرد وحرّمت عليه استقاء حضوره الخاص بإرادته، بل وجعلت من ذاتيته امتداداً لسلطان القبيلة العرفي والثقافي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى رسخ التعليم الديني التقليدي من قهر الفرد وفصله عن عالمه الحي وانتقل به إلى زمن ثقافي سحيق يعيش فيه بذاكرته رغماً عنه، وقد يقول قائل بأن هذا الحكم يغفل عن التطورات التي لحقت بالمجتمع السوداني وهو هنا يشير إلى تطور مؤسسة التعليم، ولكننا نعتقد بأن التعليم الحديث لم يستطع أن يُمكِن للحداثة التغلل في البنية الشخصية للسودانيين، فالمتعلم ورغم أنه تلقى معارف جديدة ألا أن روابطه الاجتماعي تحكمه فيه وقيّدته، فالمستعمر حينما أنشأ هذه المؤسسة التعليمية (مدرسة غوردون) لم يكن يرجو أن يصنع من طلابها أفراداً مستقلين يملكون وعياً بالعالم وحقائقه الجديدة، بل لم يكذب الاستعمار على أحد وقال أنها مجرد مدرسة تجهيزية تُلقن الطلاب مباديء تؤهلهم لملأ الفراغ الإداري في مستوياته الدنيا، فعندما تم تعيين السير جيمس كري من قِبل الإدارة البريطانية مديراً لمصلحة المعارف عام 1910م وضع الأسس والأهداف العامة للتعليم والتي تنص على خلق طبقة فنية من الصُناع المهرة ونشر نوع من التعليم بين الناس بالقدر الذي يساعدهم على معرفة القواعد الأولية لإدارة مصالح الدولة، وخاصة فيما يخص القضاء والجيش ليكونوا قادرين في المستقبل على أن يخلفوا المصريين في الجيش والإدارة (راجع: خالد المبارك- التعليم العالي في السودان- دار الحياة – بيروت – 1985م- صفحة 76) وبالطبع لن نغفل عن التطور الذي جرى لهذه المؤسسة وعبر مراحل مختلفة، وما قام به هيربرت هدلستون حاكم عام السودان 1944م من إجراء عمليات إصلاح لمؤسسة التعليم، لكن وفي ظل هذه السياسة التي تشبه عقيدة المؤسسة شَعَرَ المتعلمون بالنقص في مؤسستهم مما دفعهم إلى إنشاء حواضن بديلة يشعرون داخلها بالحرية في تلقي دروس الحداثة ومن مصادر عديدة، بطبيعة الحال لم يكن من الممكن أن يستخدم هؤلاء المتعلمون أدواتهم من التحصيل والقراءات والسباحة في التيارات الفكرية الغربية بنت القرن الثامن والتاسع عشر، قلنا لم تكن تلك الأدوات لتسعفهم في القيام بعمليات إصلاح اجتماعي مع نية ثابتة فيهم لظنهم إحسان إدارة واقعهم والانتقال به من التخلف ناحية التحديث، لكن الذي جرى وهو معلوم للكافة أن القبيلة والمؤسسة الدينية المستندة على تأييد قديم من الإدارة الاستعمارية كانت قد بلغت من المنعة والحصانة مدىً باتت معه أية محاولة لتخليص الفضاء السياسي والاجتماعي منها محاولة فاشلة إن لم تكن عملية انتحار سياسي واجتماعي من قِبل المتعلمين، ولذا انغلقت التيارات الجديدة داخل حواضنها الثقافية الصفوية، وإن لم تنجو أيضاً من انتقال عدوى الطائفية والعرقية فتسربت داخلها فيروسات (الشُلة) والتي بدأت تأكل في جسدها الهش حتى قضت عليها تماماً لتكفر بمشروعها الثقافي، وتذعن إلى الطائفية في براغماتية تحسد عليها استسلاماً غير معلن، وحين تولت هذه (الفئة) مقاليد الحُكم في السودان بعد خروج المستعمر فإنها أدارت البلاد بعقلها الباطني أيضاً وهو الذي يمارس التأويل المضلل، والمَعِنّي أكثر بالتخلص من التفكير والحصول على أكبر قدر من قوالب التبرير.
ولغياب الشخصية كموضوع لم تسمح البنى التقليدية ببناء الشروط الموضوعية للشخصية المستقلة والقادرة على ممارسة عمليات الاختيار والنقد، ولذا عاشت التجربة الاجتماعية السودانية في أزمنة قديمة في وقت وصلت فيه الحقائق السياسية في العالم إلى مستوى متقدم، وانتهت في كثيرها إلى صياغة مفهوم (الفرد) ولكن شخصية السوداني ظلت تتمنع عن اعتبار الوعي الذاتي مفردة منتجة في السياق الاجتماعي، والذاتية يقول هيجل بأنها تتصل بالحرية والتفكير، والفردانية طموح الفرد في الوصول إلى أقصى حد من الذاتية، وهذه الشخصية كما يراها هيجل تنتمي إلى (العالم الحديث) وتؤمن بحقها في النقد، والفرد المستقل هنا وظيفته الحصول على تبرير كل شيء ممكن في العالم (راجع: هيجل والوعي الفلسفي بالحداثة، هابرماس، في كتاب (الحداثة) – دفاتر فلسفية (52).
لقد تحكّمت في الشخصية السودانية قوى تقليدية أهم ملامحها الإغراق في الباطنية واعتماد العرفان كوسيلة لفهم العالم، والتوكل المجاني على الله، ولذا ظلت هذه الشخصية تتحلق حول الرمز الديني والمنمذج في الشيخ والإمام والزعيم والفقير (فقيه) وظلت رهينة العرفاني والذي يصفه محمد عابد الجابري بأن عمله يقوم على إلغاء الاستبصار بالعقل، ويجعل من العارف الحقيقة الوحيدة. ويضيف الجابري أن العرفان كظاهرة “فردي ونفسي وعملي” يتلخص في رفض العالم ونشدان الاتصال بالإله والدخول معه في نوع من الوحدة، أوليس الشيخ الصوفي والطائفي يجسد معنى مَوَّلَه في الأرض؟ أوليس زعيم الحزب امتداداً لزعيم القبيلة والقائد الروحي؟ ولذا فإن الوعي الذي تسرب إلى ذهن الشخصية السودانية الواقعة تحت تأثير بل سلطة الشيخ “الإرادة المصغرة لله في الأرض” أو الزعيم، جعلت كل شيء قابل للتأويل الباطني، وبات العالم الحقيقي مجرد صورة من صور أفلاطون المثالية حول الحقيقة، والحال كذلك فإننا أمام شخصية تعيش خارج العالم وتنغمس أكثر في الخرافة، وعالمها الحقيقي ليس دنيا الناس بل دنيا الشيخ وأسراره، قدراته السحرية، دنيا الزعيم السياسي المؤسطر والذي لا يعيش في زمنه الثقافي بل يظل أتباعه يستثمرون في صورته المصنوعة بعناية دون أن يقدموا للواقع شيء، ظل هذا في كل جماعاتنا السياسية لذا جرب أن تبحث في خطابات القوى السياسية الحديثة والتقليدية فإنك واجد أن معظمها يعمل على توظيف الرمز الديني أو النضالي لإثبات حقوقها في العمل السياسي، وهذه الجماعات ظلت تجيب عن أسئلة الواقع بإجابات الماضي المنسوبة إلى أسطورة الحزب السياسي (حسين الهندي – عبد الخالق محجوب – حسن الترابي – محمود محمد طه- عبد المجيد إمام – البرعي – المهدي، حتى من خارج الحدود- عبد الناصر – عفلق…إلخ) إنه عقل يؤمن بالخرافة ولا يعيش في الواقع، بل وأنظر كيف ظلت سلطة الشيخ تتمدد وسط المثقفين، من جماعة الخريجين الذين عادوا إلى حضن الطائفية ليس فقط لفقرهم الجماهيري بل للاستفادة من سلطان الزعماء على الجماهير، والنتيجة بطبيعة الحال أن ولاء المثقفين في مؤتمر الخريجين للطائفية حتّم عليهم أن يندرجوا تحت هذا الوعي المفارق للحقيقة، لأن جدارة السيد علي الميرغني أو السيد عبد الرحمن أو الهندي أنهم يملكون زِمام الجماهير، بماذا يملكونها؟ يملكونها بالتأويل والمفارقة والتفسير المؤسلب للواقع، فهؤلاء (السادة) ومفردة سادة دلالتها ليست مجازية، بل هم سادة على مجموع من المسلمين المغلوبين على أمرهم والذي لا يرجون من هذه الدنيا إلا الستر، أما (الرفاه والنهضة والتطور…) فهذه مقولات لا تنتمي إلى وعيهم ذلك أن نعيمهم مؤجل إلى يوم القيامة، والحال كذلك فإن وجود الشخصية السودانية داخل سجن هؤلاء حَدّ من قدراتها الاستقلالية، ومنع عنها أية إمكان لتطوير الواقع، لأنه حتى لو أراد المتعلمون أن يقيموا مشروعاً للنهضة فكيف ذلك وهم من استكانوا للزعيم الروحي يمدهم مداً بالجماهير المُعَلَّبَة، وهي جماهير غاية وجودها الاجتماعي ينتهي في مقولات مرسخة في اللاوعي مثل: (خربانة أم بناياً قش- أو – أخرها كوم تراب!) طيب، كيف يمكن توظيف طاقة هؤلاء وهم لا يريدون من الدنيا شيء؟، فهي دار خراب، وأنه لا معنى لأي تطور اقتصادي أو أية تنمية في هذه الدنيا، هذا وعي خَرِب، ومن يتصدى لتوظيفه وهو على هذه الشاكلة من إنكار الدنيا وتعظيم الآخرة لن يستطيع أن يصنع دولة، ولن يكون قادراً على تسيير عمليات للتنمية في وسط جماهير تعيش حالة من التسليم الأعمى للقدر، التسليم السلبي القاتل لروح المقاومة والنافي لمادية الحياة، وليت الأمر اقتصر على هذه الجماهير، بل امتد الأمر إلى المؤسسات الاجتماعية التي ينبغي أن تكون قد تخلصت ولو مؤقتاً من مثل هذه المقولات القاتلة للحياة، تذكر معي كيف ظلت الشخصية الروحية تمارس دورها السياسي منذ السلطنة الزرقاء وحتى الاستقلال وفي الحكومات العسكرية والحزبية، وقبلهم كان الأزهري عند إعلان الاستقلال يفتتح خطابه بـ: (اللهم ياذا الجلال يا مالك الملك..) والسؤال ملك من؟، ليس في الأمر مُلك إنما وظيفة، (حول خطاب الأزهري راجع كتابنا: ديكور العويل في معنى السيرة- 2014م- هيئة الخرطوم للصحافة والنشر)، بل لقد كان رئيس وزراء يستخدم مناماته في تفسير الواقع وإدارة شؤون البلاد، وليس بالضرورة أن يفعل ذلك علناً، والجميع سواء، فحتى الأحزاب اليسارية تعيش عرفانها الخاص، وفي داخلها هيكل مقدس يتحكم فيه أفراداً بعينهم وكل مؤهلاتهم لذلك هو أسبقية زمنية أو نضال مُرحّلْ، إن الجميع في فضاءنا السياسي محكمون بالعرفانية السياسية يتساوى في ذلك يمين ويسار، بل كشفت لنا (ديسمبر) أن الرهان الذي وضعه البعض على تيارات جديدة في السياسة السودانية لم يخلو من طرائق تفكير رغائبية، والرغائبية هي البنت المدللة للعرفان السياسي، إذ تريد تغيير الواقع عبر إنكاره لا العمل على إصلاحه.
ولذا فإن أي مشروع للنهضة السياسية المؤهِلة لتثبيت التنمية بين السودانيين سيكون عاجزاً عن تحقيق أهدافه، والسبب أن فعل للنهضة يعتمد في الأساس على الذات الفردية، أي على استجابتها الاجتماعية ضمن إرادة عامة تتقصد الحصول على قدر كبير من الموضوعية والعقلانية، ولأننا مجتمع ليس فيه حضور ذاتي للفرد، بل إن الفردية فيه مدغمة في إطار جمعي يتحكم في الوعي والسلوك بصورة قهرية، لذا فإن الواجب الذي ينتظرنا لإصلاح فضاءنا السياسي والاقتصادي أن نبدأ العمل لأجل تخليص الفردية السودانية من قبضة: الوعي السلبي (العرفاني) والقهر الاجتماعي (القبلي/الأسري/الإثني) والمخيال السياسي المقلوب (الوراثة الروحية، والكاريزما الشخصية/الخيال المؤسطر للقادة). ودون العمل على تفكيك هذه الثلاثية لن يصبح بإمكاننا القضاء على الفساد الاجتماعي الذي أقعدنا عن تلبية نداء السودانيين في الإصلاح والتنمية.
إننا لن نستطيع الحصول على وطن دون القضاء على هذه الشراكة بين المثقف والمؤسسات القبلية والروحية والتي هي شراكة أحالت الفضاء السياسي إلى محمية فساد اجتماعي جوهره تأجيل الحقيقة لأجل الوهم، والأوطان لا تبنى بالأوهام والأساطير، بل بالعمل والحقيقة.
ghassanworld@gmail.com