(1)
رحل عن هذه الفانية، مؤخَّراً، صديقي الأديب العالم، واللغويُّ البارع، البروفيسير عمر محمد الحسن شاع الدِّين، وما أفدح فقد الأديب العالم، واللغويُّ البارع، حين يُتطلَّع إليه، في هذا الزَّمان، فلا ينوجد! وكان شرَّفني، عليه رحمة الله ورضوانه، في منتصف العقد الأوَّل مِن هذه الألفيَّة، بأن أقدِّم لمؤلفه اللطيف القيِّم “قذاذاتٌ وجذاذاتٌ”، من إصدارات مركز عبد الكريم ميرغني الثَّقافي بأم درمان، وقد فعلت على الرَّحب والسِّعة، لولا أن عاملاً لا يدَ لشاع الدِّين فيه حالَ، لدى صدور الكتاب، دون ظهور الكلمة في فاتحته، الأمر الذي ربَّما صحَّ أن يُسأل عنه منفِّذ الطَّبعة، لا غيره، وعلى كلٍّ فهأنذا أعمد لنشرها، هنا، منفصلة.
الكتاب ضرب من التَّآليف الطليقة التي تزاوج بين المتعة والفائدة، وتتمكَّث عند الدَّقائق، ضاربة في مراعي تراث اللسان والأدب العربيَّين، فصيحهما وعامِّيهما، لدى مستعربة السُّودان، ومساكنيهم الناطقين بعربيَّات مختلفات، فعـددت تكليفه لي بهذه المقدِّمة من حـُسن ظنه بي، أكرمه الله، فما أحسب أن لي في مُراحه واسع الثراء هذا أكثر من حلب القعود!
أما مادَّة الكتاب نفسها فهي ذات مادَّة عموده الأسبوعيِّ الذي ظلَّ يتحف به قرَّاءه بذات العنوان، في جريدة “الصَّحافة”، طوال الفترة من 30 سبتمبر 2003م إلى 23 يناير 2007م. وظنِّي أنه ما عكف على هذا الجهد، منذ سنوات السَّبعين من القرن المنصرم، وما حمله على أن يوليه مزيداً من العناية خلال الفترة المذكورة، إلا وقوفه، بأسى، وهو أحد القلائل من أهل فرادة الحسِّ اللغويِّ البصير، على ما آل إليه حال العربيَّة في بلادنا من إهمال وتردٍّ في معاهد العلم، ومن احتطاب جزافيٍّ في غالب ما تنشر الصُّحف والمواقع الأسافيريَّة، وما تبثُّ أجهزة الإعلام المسموعة والمرئيَّة، بل ومن استخفاف بها، وتنصُّل عنها، لدى الكثير من المشتغلين بالكتابة، وبالأخص بين ناشئة الجَّماعة المستعربة، مِمَّن اتفق لهم إضافة هذه اللغة، اعتباطاً، إلى مصدر ضيمهم في التَّعليم والمعاش والثَّقافة! وها هو البروف يحسن صنعاً، الآن، بجمعه لما نشر في ذلك العمود بين دفتي كتاب؛ فالكتاب أبقى أثراً، وأعمق تأثيراً، من محض المطالعة العابرة في صحيفة يوميَّة.
و”القذاذات”، لغة، بضمِّ القاف، وواحدتها “قذاذة”، هي، وفق ابن منظور، ما سقط من قذ الريش ونحوه، وأيضاً القطع الصغار تقطع من أطراف الذهب. أما “الجُذاذات”، بضمِّ الجيم أو كسرها، والضمُّ أفصح، وواحدتها “جُذاذة”، فهي قِطَعُ ما كسِّر من الشئ الصُّلب، كقِطع الفِضَّة الصِغار، وتقال أيضاً لحجارة الذهب لأنها تكسَّر. وإجماليُّ المعنى واضح بدلالة العكوف إلحاحاً على التَّدقيق، وإلحافاً في التَّمحيص، أو “الكَدِّ” و”الحَكِّ”، كما في عاميَّة مستعربي السُّودان. وقد أورد شاع الدين، في سياق تعليقه على “طبقات ود ضيف الله” بتحقيق يوسف فضل حسن، قول الشيخ باسبار السُّكَّري: “عندي جبلاً كدّيته وكدَّاني”، يعني القرآن، سائقاً، في شرح العبارة، قول المحقِّق: “أي أتعبني وأتعبته”، ثمَّ ذهب إلى أن الكدَّ، لغة، هو الحكُّ الذي فيه معنى الأكل، فالحاكَّة: السِّن لأنها تحكُّ ما تأكله، وفي العامِّيَّة: كدُّ العظم، وكدُّ الدُّوم؛ ومراد الشَّيخ أنه لازم القرآن وألحَّ في طلبه؛ وفي الحكِّ، عند العامَّة، معنى الإلحاح والإلحاف، كما في قولهم: “ما تحُكْ القضيَّة شديد”! ولعلَّ المؤلف، بتصنيفه هذه المادَّة في أوَّل كتابه، قصد أن تقوم مقام فاتحته، فلكأنه أراد أن يوعز للقارئ بأن جُلَّ ما سيجد ضمن صفحاته إنما هو نتاج “حكٍّ” و”كدٍّ” شديدين للمعاني، والدَّلالات، والقِيَم اللغويَّة، والأدبيَّة، في الفصحى كما في العاميَّة.
(2)
يثير الكتاب، ضمن الكثير الذي يثير، وإن بطريق غير مباشر، علاقة “اللغة” بـ “التَّفكير” الذي لا غنى له عنها، كونه لا يجري خارجها، وما ينبغي له. ولعلَّ في هذا شيئاً من دلالات الحديث الشـريف: “رَحِـمَ اللهُ امْرَءاً أصلَحَ من لِسَانِهِ”؛ فالنبيُّ الكريم إنما يشير هنا إلى أن في صلاح اللسان بعضاً من صلاح الفكر. ولئن كانت إحدى أهمِّ النتائج الرَّئيسة التي توصَّل إليها برجسون في مقدِّمة رسالته عن الأفكار المباشرة للوعي هي أننا “إنما نفكر بالضَّرورة بالألفاظ”، فإن الإمام عبد القاهر الجّرجاني كان قد ساق ذات الفكرة، في “دلائل الإعجاز”، بقوله: “إن العلم بمواقع المعاني في النفس، علم بمواقع الألفاظ الدَّالة عليها في النُّطق”، فأنت إنما “تطلب المعنى، وإذا ظفرت بالمعنى فاللفظ معك، وإزاء ناظرك، وإنما كان يُتصوَّر أن يصعب مرام اللفظ من أجـل المعنى أن لو كنت طلبت المعنى فحصلته، احتجت إلى أن تطلب اللفظ على حدة، وذلك محال”!
واللغة، كنتاج لحاجة الناس لـ “تمديد” ذواتهم إلى الآخرين، حسب كريستوفر كودويل في مؤلفه “الوهم والواقع Illusion and Reality”، وللتعبير عن ذلك عبر مختلف أوجه نشاطهم الإنساني، تُعَدُّ من أهمِّ الظاهرات الاجتماعيَّة التي تولَّدت في مجرى العمل، وفى مسار تطوُّر الإنتاج الاجتماعي، كمُعبِّر معنويٍّ عن علاقاته، وكأداة لا غنى عنها لتنسيقه، وكصورة للفكر وللوجود، وبالضَّرورة كأحد أهمِّ عوامل تشكيل الوعي نفسه، باعتبارها، من زاوية النَّظر الفلسفيَّة والثَّقافيَّة التاريخيَّة، نسقاً من الإشارات والرُّموز يشكل أداة للمعرفة، ولحفظ واستعادة منتجات الثَّقافة الرُّوحيَّة والعُشرة البشريَّة. إنها، بعبارة أخرى، ظاهرة موضوعيَّة، ذات طابع جمعي، واستقلاليَّة نسبيَّة؛ فهي، وإن كانت تخضع لعمليَّات التَّغيُّر والتَّطوُّر، شأنها شأن كل الظاهرات الاجتماعيَّة التَّاريخيَّة، إلا أن ذلك لا يتحقَّق بمحض التقَّديرات الذَّاتيَّة أو الرَّغائب الخاصَّة، وإن بدا أظهر، على هذا الصَّعيد، من غيره، في معظم الأحيان، الدَّور التَّاريخي المقدَّم الذي يلعبه الشُّعراء، والأدباء، والفلاسفة، والعلماء، وفقهاء اللغة، ومجامعها العلميَّة. وهي، من ذات باب هذا الطابع الجَّمعي، عرضة لأن تفسد بالالتباس حين تنبهم الألفاظ شيئاً، أو بالاحتباس حين تستغلق هذه الألفاظ تماماً. وليس أبلغ من اختزال أحمد بـن محمـد لهذيـن الاحـتمـاليـن، فـي ذمِّـه للغـة الصَّـاحــب بن عباد، كمــا فـي روايـة أبـى حــيَّان التـوحــيـدي فـي الليـلة الرَّابـعـة مـن “الإمـتـاع والمـؤانـســة”، بقــوله: قـد “.. يستعجم المعنى كما يستعجم اللفظ، ويشرد اللفظ كما يندُّ المعنى”!
والعربيَّة، شأنها شأن سائر اللغات، في ما يتَّصل بحملها لثقافات الشُّعوب والمجموعات الإثنيَّة الناطقة بها، مرَّت، كما سبق أن قلنا في مقالتنا “عَيْعَلَةُ السَّيِّدِ المُتَعَالِم وزُخْفَيْلَم الخَادِم الفَصِيح”، بشتَّى مراحل التَّهذيب والصَّقل، منذ ما قبل الإسلام بنحو من قرنين، مروراً بنزول القرآن الكريم، وما قدَّم من نموذج معجز فيها يُعَدُّ الأهمَّ في تاريخها، فاتحاً أمامها من أبواب دقة الدَّلالة، وإحكام الصِّياغة والتَّعبير، ما مكَّن علماء عصر التَّدوين، والأعصر اللاحقة، من أن يستخلصوا من فصحاها قواعد الصَّرف، والنحو، والاشتقاق، والوضع، وضوابط العروض، وأحكام البلاغة، وأساليب البيان، حتى وصلتنا، على قول بنت الشَّاطىء في “لغتنا والحياة”، بعد أن أهملت الحوشى، والغريب، والثقيل، وما تنافر في حروف اللفظ، أو كلمات الجُّملة، وبعد أن هُذبت صيَغُها بالإعلال، والإبدال، والقلب، والإدغام، والحذف، واستقرَّت على ضوابط التَّأنيث، والتَّذكير، والإفراد، والتَّثنية، والجَّمع، وتمييز المعلوم من المجهول، والمعرفة من النَّكرة، والتصرُّف في المادَّة اللغويَّة بصيغ مطردة ذوات دلالات محدَّدة، وفى الفعل لضبط الزَّمن الماضي المطلق، والقريب، والحاضر، والمستقبل القريب، والبعيد، والمطلق، فضلاً عن تدقيق وإحكام استخدام الضَّمائر، وأسماء الإشارة، والأسماء الموصولة، للمتكلم، وللمخاطب، وللغائب، مفرداً، ومثنى، وجمعاً، وإحكام المعاني بصيغ المُشتقَّات، ونسق الألفاظ، وترتيبها في الجُّمل، وسياقات العبارات، وعلامات الإعراب، إضافة إلى التوسُّع في الدَّلالات المجازيَّة، تنمية للبنية اللغويَّة، وتلبية لحاجات الحياة والتطوُّر الحضاري.
(3)
لم تشذ العربيَّة، في حالتها السُّودانيَّة، كما في سائر حالاتها، عن القاعدة العامَّة للتَّداخل اللغوي كظاهرة مألوفة في تاريخ الحضارات. ولعلَّ من أطرف مقاربات هذه القاعدة العامَّة ما ذهب إليه جون جوزيف في كتابه “اللغة والهويَّة”، تطبيقاً على الحالة الفرنسيَّة، من أن اللغات والثَّقافات شبيهات بـ “جمهوريَّات” تسكنها كلماتٌ من جهة، وأفكارٌ من جهة أخرى! وبطبيعة الحال ليس كلُّ عنصر “أجنبي” يدخل “جمهوريَّة” ما ستمنح له “الجِّنسيَّة”، وإنما يُرحَّب فقط بمن يقدِّمون لها نفعاً كبيراً، ويَنمُون بقوَّة مثلما تنمو البذور المستزرعة في تربة فرنسيَّة، فيتحوَّلون إلى نباتات فرنسيَّة!
لقد خرجت العربيَّة من محدوديَّتها في إطار الحجاز قبل الإسلام، لتنتشر، بعده، مع القرآن والفتوحات، إلى أقاصي آسيا وحدود أوربا، فتفاعلت مع الهنديَّة والفارسيَّة والتركيَّة واليونانيَّة واللاتينيَّة، رفداً واسترفاداً، ابتداءً من النصِّ القرآني نفسه وإلى شتى حقول الطبِّ والطبيعة والفلسفة، خصوصاً أوان كانت بغداد تزخر، على أيام الرشيد وابنه المأمون، بالمترجمين من شتَّى اللغات، بما فيها من ألفاظ، وتعابير، وتراكيب، ساغتها، وصيَّرتها جزءاً منها. ومنذ القرن الثَّامن الميلادي بالمشرق، والقرنين التَّاسع والعاشر بالأندلس، أضحت العربيَّة تضاهى اللاتينيَّة في الغرب، وما انحدر عنها من لغات، إذ كانت لسان العلم في تينك المنطقتين.
على أن الجُّمود الذي حاق بالحضارة العربيَّة لعشرات القرون أورثها ما تعاني الآن من صعوبات، وضيق، وعنت، وبخاصة فيما يتَّصل بأحد أهمِّ وأخطر التَّحديات التي تجابه مستقبل التَّعليم في البلاد العربيَّة، وبالأخص التَّعليم العالي، وهى قضيَّة “التَّعريب”. فمداخل النِّظام العربي الرَّسمي لم تحقِّق، بعد، نجاحا يُؤبه له في هذا الشَّأن، برغم تواتر الاعتمادات والأرصدة، وتراكم الشِّعارات والبرامج. وما ذلك إلا لأن مهمة “التَّعريب”، فى أصلها، ليست من بين وظائف السُّلطة السِّياسيَّة، بل هي شأن يفترض أن يضطلع به العقل الجَّمعي، ويزهر، بخاصَّة، على أيدي الشُّعراء والأدباء والعلماء. إن هذا العقل لقادر، يقيناً، على ذلك، في ما لو رفعت عنه أغلال الطوارئ، والرَّقابة، والسَّنسرة، وغيرها من الشروط الاستثنائيَّة المقيِّدة لحرِّيَّاته وحقوقه. مناخ المبادأة الابداعيَّة، والحريَّة البحثيَّة، هو ما يفتقر إليه العقل العربي، قبل المعينات الماديَّة، على ما لها من أثر وخطر عظيمين.
(4)
ولئن كان علم دلالات الألفاظ Semantics من المُبتَدَعات التي ذهبت نسبتها إلى غير العرب، فإن الواقع التَّاريخي الذي لا مرية فيه هو أن علماء العربيَّة الأوائل عرضوا، باكراً، لقضيَّة “اللفظ والمعنى”: نقاد الأدب منهم، ومؤرخيه، ومفسِّري القرآن الكريم، وأهل الحديث، والبلاغيين، والمناطقة، واللغويين، وغيرهم، دَعْ الجِّيوش الجَّرَّارة من سدنة العربيَّة المحدثين الذين نهلوا من المناهج الحديثة، وانفتحوا على التراث العالمي العريض.
وإذن، فقضيَّة “اللفظ والمعنى”، فى العربيَّة كما في غيرها، قضية قديمة، انقسم أهل الأدب والعلم حولها، قبل أزمان، بين أنصار “اللفظ” وأنصار “المعنى”. وقد أجهد “اللفظيون” العرب أنفسهم في الكشف عن حسن الكلام فى حسن ألفاظه وشرفها، مِمَّا أسلمهم إلى الافتتان التَّام بالألفاظ من حيث هي. وكان الجُّرجاني مِن أبرز مَن تصدّوا، في “دلائل الإعجاز”، لتفنيد حُجَجهم، مِن زاويتين: الأولى هي قضيَّة القيمة الأدبيَّة، حيث الألفاظ محض وسائط لبلوغ البيان، لا غايات في حدِّ ذاتها، والأخرى قضيَّة “الإعجاز القرآني”، إذ لو كانت الألفاظ وحدها مناط الاحتفاء، لما أمكن تمييز القرآن من غيره من النصوص العربيَّة! ومن ثمَّ يرى الجُّرجاني، صراحة، أن “إعجاز القرآن” ليس في محض الألفاظ كمادة للغة، وقد كانت معروفة للعرب، فلا يُعقل أن تكون هي مجال التَّحدِّى: “قل فأتوا بسورة مثله” (23 ؛ البقرة). ثمَّ إن الألفاظ المفردة لا يُتصور أن يقع بينها تفاضل دون أن تدخل في تراكيب، إلا في قولهم هذه مألوفة مستعملة، وتلك غريبة وحشيَّة، أو أن تكون حروف هذه أخفَّ، وامتزاجها أحسن. أما في ما عدا ذلك فإن الجُّرجاني يولي اعتباراً كبيراًَ، بحق، لمكان الألفاظ من النَّظم، وحسن ملائمة معناها لمعاني جاراتها؛ فلا فضيلة لها إلا في خلوِّها من الغرابة، ومن تنافر حروفها في النُّطق، مع الأخذ في الحسبان بأن تلك ميزة سلبيَّة ضئيلة القيمة، فلا يمكن الاحتجاج بها على “إعجاز القرآن”. فالبلاغة، والفصاحة، والإعجاز البياني، وسائر ما يجري في هذا الطريق، مِمَّا تحدى الله سبحانه وتعالى العرب به في القرآن، أوصافٌ راجعـة إلى المعاني، وإلى ما يُدَلُّ عليه بالألفاظ، دون الألفاظ ذاتها. وحتى الجَّاحظ الذي يُنسب، عادة، إلى “اللفظيين”، ردَّ الأمر في استعمال الألفاظ، وسبك الأسـلوب، إلى المعنى أو الموقف، وليس إلى اللفظ المفرد في حدِّ ذاته، مشدِّداً، في “البيان والتَّبيين”، على أن شأنَ الكلام شأنُ الصِّياغة، وأن لكلِّ ضربٍ من الحديث ضربٌ من اللفظ، فلم يُرد الألفاظ مفردة عن تراكيبها. وقد ذهب أبو سليمان المنطقي إلى ذلك أيضاً، في ما يَروي عنه أبو حيان التَّوحيدي في “الإمتاع والمؤانسة”، ضمن درس باكر، لا في جدل اللغة فحسب، بل وفي جدل سائر العلاقات، مؤكِّداً على أن دلالة الأسماء المحدَّدة على الأعيان، لا على صفات الأعيان، أو ما يكون من الأعيان، أو ما يكون في الأعيان؛ وأنها لمعتبرة بما يضاف إليها، وأن هذه الإضافة حاكمة على الألفاظ، مثلها مثل سائر الأشياء الأخرى، حسيَّة كانت أو عقليَّة، “.. فالإضافة لازمة، والنِّسبة قائمة، والمشابهة موجودة، ولولا إضافة بعضنا إلى بعض ما اجتمعنا ولا افترقنا، ولولا الإضافـة بيننا، الغـالبة علينا، ما تفاهـمنا ولا تعاونَّا .. لأن الإضافة ظلٌّ، والشخص بالظلِّ يأتلف، وبالظلِّ يختلف .. ويزيدك بياناً أن العدم والوجود شاملان لنا، سائران فينا، فبالوجود نتصادق، وبالعدم نتفارق”. وهكذا فإن اللفظ عند أبي سليمان يكاد لا يفصح عن دلالة محدَّدة، وفق هذا الدياليكتيك الباكر، إلا من خلال علاقاته مع الألفاظ الأخرى في سياق معنوي مبين.
ويذهب بعض المحدثين، كخلدون الشَّمعة في “المنهج والمصطلح”، إلى التَّنبيه لأهميَّة التَّفريق بين مستويات ثلاثة للتعامل مع أيِّ نصٍّ لغوي: المستوى “اللفظي” الذي يُقصِر التَّعامل مع الكلمة بما لا يتجاوز حدود الضَّبط المعجـمي؛ والمستوى “الاصطلاحي” حسب المعرفة التي يُراد من النصِّ تقديمها، ويقوم على الانتصار للتعريف الافتراضي للكلمة، أي المجاز، وهي قضيَّة عرض لها قديماً أبو هلال العسكري في “الفروق في اللغة”، حيث ميَّز بين “الاسم العُرفي”، ويعني به “اللفظ المجرَّد”، و”الاسم الشَّرعي”، ويقصد به “المصطلح”. أما المستوى الثالث، وفق الشَّمعة، فهو “الشِّعاري” الذي يُخضع الكلمة لمنظور الجَّماعة السِّياسيَّة، أو العقديَّة، أو الإعلان التجاري .. الخ.
(5)
سياحة شاع الدين الطليقة الشَّائقة هذه بين الألفاظ والتَّعبيرات، وما تُحدِّث عنه من نشاط اقتصادي، وإنتاج معيشي، وفكر أدبي، وممارسات شعبيَّة، لمِمَّا يغوي بمثل استطراداتنا هذه وأكثر. فبهذه السِّياحة يُحسن شاع الدين إلى لغة قومه، مستعربي السُّودان، وثقافتهم، على خطى نفر من كرام علمائهم وأدبائهم وباحـثيهـم، كالإمــام المهـدي وخـليفته “المنشـورات”، وعـبد الله عبد الرحـمـن الأمـيـن “العـربيَّة في السُّـودان”، وعـبد الله الطيِّب “تفسير القرآن” و”الأحاجي”، وعون الشريف قاسم “قاموس اللهجات العربيَّة في السودان”، وغيرهم؛ وجُله إحسان جديرة به هذه اللغة “الأفريقيَّة” الأكثر تأهيلاً لتكون أداة تواصل lingua franca بين مفردات أمَّة كأمَّتنا، لم تعبر طور التَّكوين، بعد، ولأن تضحى حاملاً لثقافة المشروع الدِّيموقراطي للوحدة المتنوِّعة، إن تمَّ التخلُّص من عيوب الاستعلاء التَّاريخي البغيض! ولعلَّ من دلائل تمام هذا التأهُّل أن العربيَّة ظلت تتفاعل مع غيرها من اللغات الوطنيَّة في بلادنا، برغم أدواء السِّياسات الرَّسميَّة، فما انفكَّت تتشقق، شعبيَّاً، إلى لهجات عربيَّات كثر، كعربي أم درمان، وعربي جوبا، وغيرهما شرقاً وغرباً.
وبعد، فما هذا كله سوى بعض غيضٍ من فيضِ مِمَّا يغوي بالتَّفكير فيه كتاب شاع الدين الفريد، والذي يُعدُّ إضافة متميِّزة إلى ما تحتويه خزائننا الجياد من علم ومعرفة لا غنى عنهما، وأدب وفكر تتساوق فيهما المتعة والفائدة معا،
ألا رحمه الله رحمة واسعة، ورضي عنه، وغفر له، وأكرم نزله، ورفع مقامه في الفراديس العُلى.
ك. الجزولي
kgizouli@gmail.com