ليس من باب الصدف ان يحتل شعار المدنية المرتبة الاولى في مطالبات ثورة ١٩ ديسمبر. واقع الامر ان ثمة لبس مركب في تقديري قد صحب مفهوم المدنية كجوهر للمطالبة لحكم ديمقراطي منشود. ويكمن سبب ذلك اللبس في اعتبار ان ثمة دولة قائمة لها مبناها، وتقاليدها، واعرابها في جملة الواقع السوداني المتنوع المعقد، ومن ثم سيطرتها عليه.
فمن الوجاهة والدقة في الوصف تسمية تاريخ ما بعد الاستقلال بالسودان بالتاريخ التسلسلي للحكومات متعددة الاغراض والطبائع، او المختلطة احيانا بين الطبائع العسكرية والمدنية. ورغم غلبة الحكم العسكري في الفترة الممتدة من الاستقلال الى الحاضر، الا ان الحكومات المدنية بما تعنية في المعني العملي من حكومات المدنيين كمسمى مضاد للعسكريين لم تفلح في تطوير السلطة المدنية (المتقطعة) الى دولة وطنية تمثل الغطاء الحقوقي المانع للمواطنين السودانيين ليس بسبب غياب عدة معايير وشروط، ومنها الشرط القانوني الجوهري المتمثل في عدم وجود دستور دائم فقط ولكن تواضع ومحدودية فضاء المدنية نفسه كثقافة ومؤسسات . فوجود دستور دائم كان سيعني توفر الحماية القانونية لوجود الدولة ذات نفسها قبل اي وجود آخر ، وان ذلك الدستور كان من المؤمل ان يصيغ القواعد، والأخلاقيات العامة المحددة لتطورها والتزاماتها تجاه مواطنيها. ذلك كإن سيعني ثبات سياسات اخلاقية عامة لعناصر تكوينها من جيش وشرطة وقضاء وخدمة مدنية الخ. لقد ادى عدم قيام الدستور الدائم الى ولادة جملة من الدساتير المؤقتة المصنوعة لحماية الحكومات المتعاقبة وليس حماية الدولة.
هنا فقدت الدولة الافتراضية، وفي غياب الدستور الدائم اهم ركائز وجودها لتصبح مجرد وجود مجازي ولفظي يستخدمه الحكام من عسكريين ومدنيين متى رغبوا، ويتخلون عن استحقاقاته متى ارادوا. ولكن وبما اننا قد اشرنا الى ان الغياب جاء متعددا وليس مقتصرا على غياب الدستور فقط فمن المهم القول ان الاستعمار الثنائي ممثلا بصفة اوضح في الشق البريطاني كان قد ارسى لدعائم دولة تناسب اغراض حكمه وسيطرة اداراته على الواقع دون ان تتعرض تلك الدولة بدعائمها الى مراجعات وطنية سودانية عشية الاستقلال لتتخذ المعاني الوطنية في البناء الاستقلالي الذي تلى، واخضاعه لأهداف الاستقلال الاقتصادي والتعليمي والاعلامي والثقافي، وهو ما خلق تنميطا للمدنية واوقعها في حيازة المفاهيم النقلية الاجترارية وعدم اخضاعها بالتالي لإبداعية واقعية سودانية من قبل الرواد المؤسسين.
من المدرك والمتعارف عليه ان غايات الاستقلال تصب في اهداف التحرير والتحرر من الطريق الكولونيالي المنشئ لسلطاته عبر مكونات دولته. وقد انشغلت القوى السياسية السودانية في السنوات التي تلت خروج المستعمر بوضع الاحزاب والابدال او تفعيل (السودنة) كبديل للتحرير والانشغال بحرب المطالبة السياسية بالمضي على طريق التطور الاقتصادي الراسمالي وغير الراسمالي دون عناية كافية بتعبيد الطريق لاقتصاد وطني تنموي مختلط يفي بحاجات البلاد دونما زعزعة او منازعة سياسية. ودعما وتغذية للصراع السياسي وامتثالا لحالة لطغيانه ظل هذا الطريق شائها بتأثير تعاقب الحكومات العسكرية والحزبية الانفرادية والتحالفية الائتلافية.
طيلة سياق الصراع ظل اثر المساهمة البريطانية في كافة المكونات الإدارية التنفيذية تؤول الى الدولة خاصتها المفعلة رغم الاستقلال وليست خاصة السودانيين، وهى وان قادتها حكومة عسكرية او مدنية تظل دولة علمانية التكوين بمعنى مدنية التكوين اذ ترمز مدنية الدولة في الغرب لعلمانيتها دون اشارة الى سلطة مدنية بعينها باعتبار ان المدنية هى العلمانية. وبسبب سوء ظن العديد من الاحزاب السودانية التقليدية بالعلمانية ( وفق القصدية السياسية بوضعها في مقابل ومواجهة الدولة الدينية) تم توجيه عدد من الضربات لمعاني الدولة المدنية في خاصية الديمقراطية منذ ان تم تسليم حكم البلاد للعسكريين من حكومة السيد عبد الله خليل١٩٥٨. فمنذ ذلك التاريخ تبدا نضالات السودانيين في انتزاع الصفة المدنية الديمقراطية للحكم عبر ثورة أكتوبر ١٩٦٤ وانتفاضة ابريل ١٩٨٥ وثورة ديسمبر ٢٠١٨. غير ان المعني من مطالبات الثورات في النماذج الثلاثة لإعادة الحكم للمدنيين ظل التشكيل المدني للحكومات وليس الابداع الثقافي المدني للحياة السياسية. اما المطلب الاخير الصادر بأمر ثورة ديسمبر بالمدنية وشعارات المطالبة بالتغيير فقد جاء كنتيجة مباشرة للهدم النوعي والتخريب المنظم الذي تعرضت له دولة ما بعد الاستعمار (الدولة العلمانية من وجهة نظر دينية) غير المتعوب عليها سودانيا من الحكومات المتعاقبة لتصبح فريسة لانتهاكات الحاكم الفرد المستبد الى حكم الاخوان المسلمين الذين وضعوا التخلص منها هدفا كما اقر بذلك زعيمهم الدكتور حسن الترابي ذات لقاء تلفزيوني بقناة الجزيرة. غير ان المطالبة بمدنية الدولة في ثورة ١٩ ديسمبر ورغم الزخم الشعبي المؤيد والمساند لنفى تركة الانقاذ الثقافية السياسية لم تجد او تتوفر على التصور الابداعي الباذخ لترسيخ مفهوم مؤثر وفاعل للمدنية هذه المرة لأسباب تتعلق بنمطية المبنى النظري للمدنية من جهة الحاضنة السياسية لما بعد الثورة الممثلة في تحالف الحرية والتغيير وكذلك الجهاز التنفيذي للحكومتين الانتقاليتين وبسبب الصراع ايضا مع اللجنة الامنية لنظام الانقاذ التي عكفت على الابقاء على روح الانقاذ الممثلة في ثقافتها السياسية والمحافظة على وجودها عبر السلطة الامنية والعسكرية والقوانين والملكيات الاقتصادية وبالتالي تحويل حالة الثورة عندها الى مجرد زعيق خارج مبنى الفعل السياسي ومعناه. وليس بمستغرب ان يقود عدم العمل بتطبيق المدنية بقوانينها واخلاقياتها ومستحقاتها الجمة الى شيوع تضادها الثقافي كمفاهيم وتصورات حتى واصل مشروع الانحطاط العام الذي تفحرت الثورة ضده، فصار يتمدد في شؤون الحكم والحياة لينتهي الامر بحرب ضروس وضعت اوزارها بسبب تفاقم صراع الطفيلية الاسلاموية و منتجها الكليبوتوقراطية وبحيث لا نزال نشهد على تداعيات هذه الحرب الآثمة وندفع تكاليفها الباهظة من تحطيم للعاصمة القومية، وهدم للمرافق والمنازل ونهب للممتلكات واعتداء وتعدي على الاعراض. في هذا الظرف العصيب من تاريخ السودان تنخرط العديد ممن جرى اطلاق مسمى القوى المدنية عنوانا لها في العمل الجاد والدؤوب لإيقاف الحرب اولا واستعادة الحكم المدني باستبعاد الغريمين العسكريين المتحاربين من الادارة السياسية للسودان مستقبلا. ودون شك ان في ذلك العمل ضرورة واهمية قصوى ليس فقط لأجل ايقاف الحرب ولكن لأجل ارساء دعائم الدولة المدنية (العلمانية)المتفق في تفسيرها قاموسيا بانها الدولة التي تقوم على تلبية حاجات الانسان في المساواة على اساس المواطنة وحماية وجوده بسيادة القانون الذي يحفظ للمواطنين كرامتهم وانسانيتهم. وعدم التمييز بين الاعراق والاثنيات والديانات وان الجميع بتنوعهم العرقي والثقافي والديني سواسية امام القانون.
تأسيسا على ما سبق فان على مناصري المدنية، ولمصلحة المدنية ودولتها القادمة لا محالة التغلب هذه المرة، وفي اثناء عملهم ونضالهم الجاري حاليا بشتى اصقاع المعمورة بمكافحة الاستهانة بالمدنية من مدخلها العلمي والثقافي والاخلاقي بان يعملوا كذلك على تحسين مفهوم المدنية نفسه وتعميقه بوصف ان المدنية ليست مطالبة سياسية نتمكن من إنجازها باستعادة الحكم المدني( تشكيل حكومة مدنية والسلام) واضفاء صفة المدنية للدولة وكفى، بقدر ماهي ثقافة نجريها بتحويل انفسنا لصانعين لقيمها بتغيير نظم وثقافة الانتاج الاقتصادي والسياسي في علاقته بالمعرفي والعلمي بهيكلة وضعية التعليم والثقافة والعمل على ربطهما بمهام التنمية الكلية. اي نبذ المفهوم السياسي الافندوي السائد الذي يهتم بتحسين الاوضاع القانونية والمادية للفرد وفق حوافز عينية ورمزية يتلقاها من الدولة ( عند نشوء مؤسساتها) او من صاحب العمل بتحسين المحتوى من العمل نفسه وبذل اسواقه لصالح المجموع عن طريق ترقية وجوده المدني المتواتر.
اختم باننا قد نكون في مواجهة اعاصير الانحطاط المحتمل اثارتها مستقبلا من مؤسسات العنف كالقوات المسلحة او المليشيات (التي لن تذوب كفص ملح بمجرد تشكيل حكومة مدنية وتجلس القرفصاء كمراقب للأحوال) اذا لم نقم لبناء ثقافة واخلاق المدنية ونشرها على اوسع نطاق بنشر فضيلة التفكير العلمي لدى الافراد الذين سيكونون عماد مجتمعات المعرفة والاقتصادات الذكية. حينها سنخفض من تراث العنف، وسنكسب مجتمعات البداوة الفوقية والتحتية لأقصى حد، وستموت تدريجيا ثقافة القبيلة، والعرق، والدين، والتحيز عن طريق التورط في التنمية المتسلسلة الدائمة بغلبة نظام العقول على نظام التفاهة الذي ربما يتطور الى اعادة الحروب مرات ومرات اذا لم نتحصن بتحسين تصور المدنية وسبل ترسيخها بان تتحول الى سلوك يومي لنا يضعنا امام تحديات التنمية الكلية والوحدة الوطنية المنتجة بدلا عن الغائبة.
كل ذلك يعني الانخراط في عمل جديد غايته الانتاج بتغيير معادلة الانتاج الاقتصادي بتعديل انواعه واشكاله الزراعية والصناعية والعمل في مجال الصناعات التحويلية المعتمدة على الخام الزراعي والحيواني لأغراض الكفاية الذاتية والتصدير وتكوين طبقة وسطى فعلية براغماتية وعملية لتطبيق اهداف التنمية الذكية. ذلك لن يتم دون التسلح المعمق بمفاهيم وثقافة التطور (النمر)بالا تعيد التعريف للدولة كغنيمة وانما كشركة وشراكة قومية بين سائر المواطنين السودانيين على مختلف انتماءاتهم العرقية والثقافية والدينية وبان نبذل الغالي والنفيس لدعم تلك الشراكة وليس الاخذ منها والتضحية بمواطنيها لأغراض النخب العسكرية والمدنية حزبية كانت او مستقلة والتي، وفي الوصف التحليلي للازمة المحتملة للمدنية القادمة ربما تعود الى اعادة انتاجها لأسباب تتقدمها ظاهرة الضيق والنبذ للمفاهيم العلمية النظرية باعتبارها تابعا وليست فاعلا كما يروج عدد من الناشطين في داخل تجمعات توحيد القوى المدنية حاليا دون ادنى حساسية ووعى بان مثل تلك المواقف اليمينية المضادة لإبداعية المدنية شكلت وبصفة حارة الاستدعاء للانقلاب على المدنية نفسها.
ان منتجي الانفاس المتلاحقة واللاهثة للمدنية الرخيصة ( المدنية على نمط التشكيل الحكومي وليس بناء ثقافة المجتمعات والدولة) يظلون اوضح اعداء التغيير الديمقراطي الذي ينشد الاستقرار المدني. فهؤلاء يتسابقون ايضا لاتخاذ الدولة كغنيمة وفصل علاقاتها بالبنى الشعبية والمصالح الوطنية وان لبسوا ثياب المناضلين لاستعادة (الحكم المدني). ان اوضح ما يواجه المستقبل المدني للدولة والحياة يتمثل في غول الفساد كبنية نفسية وثقافية اكتملت اركانها عبر عقود من الحكم العسكري والمدني الجائر الذي حول فيه الناس الى اعداء للحق العام وسكت عن افشاء الاخلاق الوطنية بالسكوت عن تربيتها واغراق التعليم بالمناهج الضارة لتطور الفرد واعاقة العقول بالمدخلات المعلوماتية غير المفيدة لإنشاء اسواق التنمية والتنافس على اساس التفوق بالمعرفة.
ان من المعيب تصور ان خلق النهضة المدنية ككلمة سر التطور الذي ينتظره السودانيون بعد هذه الحرب الفاحشة اللئيمة دون لجم التفسخ السياسي وعدم ضبط المصطلحات والعمليات والمؤسسات بشروط المدنية والثقافة الديمقراطية والشفافية والمحاسبة، وان تضطلع الاستنارة البرامجية بداخلها بأفضل المواقع والغايات. فالمؤسسات المدنية من منظمات، واحزاب سياسية تعد الضامن لبقاء الدولة المدنية ومتانة بنائها بما تبديه من مسؤولية وطنية تجاه ثقافة المدنية ليس تحت مبرر اعتلاء سدة السلطة بل بسلمية التنافس عليها على اسس العقلانية والركون الى ذهنية التسليم بنتائج العلم والمعرفة السلطة وليس اللعب بالألفاظ بدعم ثقافة القطيع، والقبلية، والتعصب، والعصبية. هنا لا بد من توجيه النقد لمرجعية ديمقراطية ويستمنستر، والتي وبحكم التجارب الفاشلة، وإن جاز التعبير تستحق الوصف بانها صاحبة القدح المعلى في خراب التجربة الوطنية منذ الاستقلال. فديموقراطية وستمنستر تعد من انتاج ونتاج مئات السنين من التطور الاجتماعي والثقافي البريطاني وربما الاوروبي وكذلك احزابها وبقية مؤسساتها المدنية وبالتالي يغدو مجرد تلبسيها على الواقع الاجتماعي السياسي المتورط لا يزال في التكوين القبلي والجهوي للفرد وما يفرزه من علاقات سلبية كالمحاماة والتحيز والتعصب والفساد المالي والرمزي امر ضار اولا بفكرة الدولة المدنية وثقافتها المطلوبة من عنفوان التطور وفوران العمليات الانتاجية والصراع الاجتماعي الذي بنتج من كل ذلك بتغذية الواقع بمظاهر التنافس الحميد لخلق التنمية والتطور وليس المباهاة لمجرد الحيازة على حكم سياسي مدني فقط لن يغدو في افضل الاحوال سوى الخديعة الاحدث لتفرق الوطن والوطنية بالتأكيد على القدرة الفائقة للسودانيين على غش انفسهم في كل مرة.
wagdik@yahoo.com