مأزقنا الخاص في عمليات التفكير والفهم: التَّفْكير بطريقة (هلال/مريخ) هو القانون اَلثَّقَافِي الذي يَحْكُمُنَا، فالحكم لدينا على كل شيء ينطلق من الذَّات؛ وهي ذَاتٌ مُستَغْرِقَةً فِي تَأَمُّلٍ ضِرار، ذَاتٌ لا تريد أَنْ تَنْفَكَّ عَنْ إِسَارْ اَلشَّخْصَنَةِ وَالتَّعَلُّلِ بِالتَّآمُرِ وَالِاسْتِهْدَاف، ذات معطوفة عَلَى اَللَّامِعِيَّة، وَتَمَامُهَا كَمَال اِنْغِلَاقِها..
إن الوعي السوداني سجين الثُّنائيَّة؛ ثنائية مذهبية، فما بين ” اَنَا” لا تُبصر إلا ذَاتهَا اَلْقَلِقَةِ، و”آخر” كما تتصوره الذات، الآخر لا وجود له، الآخر هنا ليس إلا تجلّي الذات في الذات، والأمر عائدٌ إلى توهم الخصوصيّة في الذات، خصوصية (منها وإليها). ذلك أن تكويننا الثقافي غارق في الانغلاق، ومتماهي مع رفض النَّقْد الذَّاتي، لذا جرّب أن تتابع مجريات أي نقاش سياسي أو اجتماعي لتقع على طريقة لا تمت إلى الحوار بصلة بقدر ما هو نمط لعرض القناعات مُغَلَّفة وغير قابلة للمحاججة، ويبدو أن َمَرَدٌّ ذلك القصور يعود تعاظم حضور الخيال الشخصي في التفكير، الخيال المسنود بموروث مؤذي، وأشكال أخرى من الهوس بالعِرق والقبيلة ونقّاء الدم، وكل هذا رسّخ فينا الانحياز إلى الأفراد لا المقولات، فالذاكرة السودانية في كثير من تجلياتها تنتمي إلى حِكمة الخيال لا جدلية الواقع، ذاكرة تستقر فيها مفاهيم تحولت بالتراكم إلى منظومات من الاعتقاد لا بُنى للتفكر، ومن ذلك استقر فينا معنى ثنائي للمعرفة، معنى ينطلق من الأنا/الذات، وليس الأنا/العاقلة، والفرق بين الاثنين شاهق، فالذات يحركها الخيال، خَيَال مُعْد بعناية ومُرتب لصالح توفير الإجابات المُطلقة، ثم الهروب من كل شيء، ولذا يعود السودانيون بكثير من عاداتهم وصفاتهم إلى معنى(جِيْن/تاريخي) (ود البلد- ود القبائل…) ولا يضعون اعتباراً للإنسان بالمعنى الثقافي، الإنسان مجرداً من أي سابقة، وهنا يحتكم الوعي إلى سِجل المعلومات الجينيّة للفرد، ولا مجال لبناء صورة عنه تستند إلى كسبه الخاص، وهذا هو شغل (أنا)/الذات العاقلة تلك التي تتدبر في الواقع، وتبحث فيه لصالح معرفة موقعها، لا لصالح تجييره لذاكرة مختنقة بالرموز والأموات، ومحقونة بالأحكام العِرقيَّة.
إنه ووفق هذه الطريقة يظل تنميط صورة الأفراد مرهون إلى صور أولية عن طبيعة التكوّن الاجتماعي لأي شعب من الشعوب، فيصبح الإنسان كائن غير قابل للتجديد، لحظة غائرة في ضباب التاريخ، شيء غير مادي، وفي هذا إلغاء لطبيعة الفرد داخل المجتمع، إذ تُصنع المجتمعات عبر ديناميات الواقع والفرد والمجموعة، والسبب في القراءة السالبة عند السودانيين لواقعهم الاجتماعي هو المقارنة بين الذات والآخر، والمقارنة كل الذي تستطيع فعله أنها تقوم بعملية تصنيفية، وهكذا وقع الأذى من الركون إلى التقسيم والسكوت عن التداخل، وما تاريخنا الوطني إلا عبارة عن سلسلة من الثنائيات القَارَّة في العقل والوجدان، ثنائية محكومة بأنماط التفكير الذي لم يتطور، فبدلاً عن أن يصبح التفكير أداة لتجديد بُنى المعرفة تحول بفضل رسوبنا في امتحان الوعي إلى قيّدنا الخاص والذي ننتج فيه أفكاراً أسيرة لماضي يُستَدعى عند كل ملّمة.
إن التاريخ الاجتماعي السوداني لم يكتب بعد بالطريقة التي تسمح لأي باحث أن ينظر بأدواته نظرة موضوعية غير متحيزة، فإن الذي نقع عليه في غالبه تحيّزات وانصراف أكثر للمنهج الوصفي والذي من عيوبه أنه يركز على الإجابة عن أسئلة “ماذا؟” بدلاً من ما “سبب؟” موضوع البحث، فالغرض الرئيسي من المنهج الوصفي في الدراسات الاجتماعية كما هو معلوم وصف طبيعة التركيبة السكانية التي تتم دراستها بدلاً من التركيز على “السبب” في وجودها المستمر، وهذا هو الضرر من تعظيم المنهجية الوصفية في البحث، والباحث الذي يؤسس تحليله على الوصف فقط فإنه يقع في التعميمات ويعجز عن الوصول إلى حقيقة الارتباطات بين المنهج والواقع، وزعمنا أن المنهج الوصفي هو الأطغى في العمليات البحثية فيما يتعلق بالتاريخ الاجتماعي للسودانيين.
إننا نعتقد أن المدخل الصحيح لفهم طبائع التفكير العرقي عند السودانيين ينبغي أن يبدأ من البحث عن المصدر الذي تستقي منه الثقافة السودانية ثنائيتها، ولعل هذا المصدر يتعمق حضوره أكثر في مناطق غنية بالتعقيد، وبحاجة إلى مِلَاحَة جادة لفهم أسرارها، فلو اكتفينا بالتحقيب التاريخي لمعرفة مصدر الثنائية فانظر إلى مملكة سنار أو ما يسمى بـ(لقاء العرب بالفونج) وهو لقاء أنتج مقولات (الهُوِيَّة المَزِيج)، وصنع السؤال الخالد (أنحن عرب؟ أم أفارقة؟) والإجابة أننا كل ذلك وأكثر. ثم جاء الاستعمار التركي، وصنع فينا ثنائية أخرى وهي (الحكم التركي في السودان) وبدوره صاغ سؤال مشرقية السودان من أفريقيته، أو طرح وجوده في فضائين، أولهما: متوسطي مشدود إلى الشرق الأوسط، والآخر: إفريقي يتمدد في الغرب الإفريقي، ثم جاء الاستعمار (الإنجليزي/ المصري “الخديوي”) وصنع مؤسسات للحداثة محروسة بالتمييز والمغايرة، لينشأ المتعلمون في أحضان سؤال (الأصالة والمعاصرة) (الحداثة والتراث) وغيرها من مفردات معجم الثنائية السودانية، وحقيقة لا يمكننا أن نقفز عن الدور الاستعماري الذي يتحمل الوِزْر في تفشي العصبية القبلية، نعم، الاستعمار ليس مؤسسة خيرية تقدم لنا خدماتها دون أن يكون ذلك دليل لتحصين وجود المُستعمر، ولست من دعاة إلقاء اللوم في كل مشكل اجتماعي عندنا إلى دور الاستعمار، لكن أيضاً إذا أردنا الخلوص من الأزمات فإن أولى خطانا ستكون التعرف عن مكامن الأذى، والاستعمار هو الأذى كله، لقد صُمِمت هذه البلاد على أسس ” قَبَلِيَّة” حتى يسهل على المستعمر إدارتها، وقد استقر في روع المُستعمر وهي يقلب النظر داخل جغرافيا شاسعة وبالطبع مُكلفة أنه بالإمكان إحكام القبضة الاستعمارية في السودان عبر إقامة شكل من أشكال الشراكات مع السكان والأهالي، ولأن دوافع الاستعمار تتلخص في حفظ الأمن أولاً، فقد تقرر منح القبيلة في السودان دور في الإدارة أو ما بات يُعرف بـ”الإدارة الأهلية”، ومنحها صلاحات تنفيذية وهذا ما عزز حضورها ومنحها سلطة اجتماعية استقرت بالتقادم، فالقبيلة وجدت لنفسها موقعاً سياسياً وتحت حماية المسُتعمر، وهذا بالضرورة مكّن للخيال القَبَلِيّ من أن يؤسس وعي المجموعة الإثنية أو التي تدخل في حِلفِهِ جغرافياً، ففي ١٨ أكتوبر ١٩٢٦م عيّن سير جون مافي حاكمًا عامًّا للسُّودان، وقد كان قبلًا حاكمًا للإقليم الشَّمالي الغربي بالهند. وقد قال سير جون في تقريره عن سنة ١٩٢٧م إنَّه مقتنع بتوسيع الإدارة الأهليَّة وبتطبيق توصيات لجنة ملنر ١٩١٩م و١٩٢١م وقد خوَّل الأمر الصَّادر من مجلس الحاكم العام في سنة ١٩٢١م بأن يكون له تأليف «محاكم أهلية»، أي تؤلَّف من الأهالي في أي جهة، وأن يكون هناك نوعان من المحاكم: المحاكم العليا والمحاكم الصغرى..- راجع: السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية (الجزء الثاني)- 1935م – ص 149- منشورات مؤسسة “هنداوي” 2013م”.
بل لم يقتصر الأمر عند منح الأهالي سلطات قضائية لحفظ الأمن، إذ قام الاستعمار بتوسيع هذه الصلاحيات حتى يكون للقبيلة القوة في إدارة مجتمعاتها وفي ذلك مدتها بالمال والسلطة، ونقرأ كيف وُسِعّت الإدارة الأهليَّة عن طريق السماح للمشايخ الأكفاء الموثوق بهم الرقابة على ميزانيات القبائل، وألفت جمعية تعاونية مَدَّتها الحكومة بالمال تحت إشراف محكمة أهليَّة في طوكر بإدارة المال المخصص للسُّلف الزراعية للزرَّاع في دلتا البركة، وقد جعلت قبائل البجة مع الهدندوة تحت مديرية كسلا بدلًا من محافظة بورتسودان. وفي نهاية ١٩٢٩م كان هناك (72) محكمة أهليَّة في شمال السُّودان سمعت أكثر من عشرة آلاف قضية. وفي سنة ١٩٣١م صدر قرار بشأن القبائل اللادينية في الجنوب. كما صدر قرار آخر في صدد المحاكم الأهليَّة في الشَّمال حلَّ محل التَّشريع السابق” (مرجع سابق- ص 150).
نعم لقد رتب الاستعمار السودان على أساس وحدة أنوية وهي خرجت من رحم التكوينات القبلية، وبذا جُهّزت القبيلة بسلاح الإدارة والمال حتى غدت مؤسسة بالمعنى الاجتماعي، أي لها أدوار ووظائف تتجاوز حدود تكوينها الأصل، والسلطات التي مُنحت لزعماءها أثمرت في الوعي الاجتماعي العام، ولم يستطع العقل السياسي أن يتخلص من حضور القبيلة أو على الأقل أن يوجد بدائل سياسية تحل محل هذه السلطات، فحتى قانون العام 1970م والقاضي بحل الإدارة الأهلية كانت تعوزه المعرفة الثقافية بأوضاع السودانيين، لأنه ليس بكافي أن تلغي قانون وتستبدله دون أن يكون القانون الجديد قادر على تلبية مشاغل المجموعات القبلية، قادر أن يقوم بالأدوار ذاتها التي كانت توفرها قيادة الزعماء المحليون في مناطق السودان المختلفة، لذا يذهب عدد من المراقبين أن العنف الذي انفجر في دارفور يعود إلى غياب الإدارة الأهلية والتي كانت تحفظ السِلم الاجتماعي بين الرعاة والمزارعين.
نعم، يمكننا وضع كل هذا الذي سبق في سياقه الطبيعي لتطور المجتمعات، وليس بمستغرب أن تعيش مجتمعات قديمة معركتها مع التحديث، والسودان ليس استثناءً، لكن المجتمع السوداني لم تجر فيه تحولات جذرية وظلت مشكلاته مُرحَلة وبصلاحيات غير نهائية. فقد ظلت القبيلة تتمتع بقوة السلطة على أفرادها ولم يستطع المثقفون/المتعلمون أن يقيموا نظاماً سياسياً وطنياً يلبي حاجات السودانيين بل ظلت الأنظمة (عسكرية/مدنية) في حالة خِصام مع البعد الثقافي للمجتمع، واعتقدت بأنه من اليسير حُكم بلد شديد التنوع مثل السودان من داخل القصر الجمهوري فقط، أو أن شكلاً من أشكال الفيدرالية النظرية يصلح لحُكم مجتمع التنوع.
إن الثنائية التي مارست أقسى أنواع العنف ضد المجتمع السوداني هي ثنائية (عرب/بحر) أو (نيل/غرب) أو (الشمال النيلي) و (الغَرّابة) وهي ثنائية تنتمي إلى ما قبل ظهور خُطة محمد أحمد في طرد الأتراك، وقبل ذلك دولة العنف الديني للخليفة عبد الله، هذه الثنائية هي خلاصة مُركزة للعنف الاجتماعي في السودان، وبمقدورنا نسبة مظاهرها إلى الفترة السنارية والتركية وقبلها إلى تاريخ الدويلات والشراكات القبلية التي ظهرت في سودان القرن الخامس عشر – الثامن عشر، فما هي الطبيعة المعرفية لهذه الثنائية والتي تعد المصدر الرئيس لكل أشكال الصراع في السودان.. هي المشهد الأكبر لأزمتنا في الهوية بين (أبناء البحر وأبناء الغرب) وإذ أردنا الخلاص؛ الخلاص من العنف في مستقبل بلادنا فإنه ينبغي العمل على إزالة هذا الورم السرطاني من الجسد الاجتماعي السوداني، وعلينا أن نطرح الأسئلة الحقيقية حول الصراع المؤجل والمكتوم بين (أبناء البحر) ويقصد بهم أبناء الشمال والوسط السوداني، و(أبناء الغرب) من كردفان ودارفور وجبال النوبة، وبالطبع شرق السودان حالة ينبغي دراستها، لكننا هنا نشتغل على ثنائية (شمال/غرب).
إن أكبر مشكلة تواجهنا لفهم حقيقة هذه الثنائية هو زيف هذا التقسيم، زيفه الثقافي، فليس بالنيل أبناء خُلّص بالعِرق، وإن جمعتهم هوية مشتركة تغذت على أشكال العيش وأنماط للحياة ومنحتهم شكلاً من أشكال الامتياز الحضري، وكذلك في دارفور وكردفان وجبال النوبة، فإن الرابط بينهم ليس رابطاً عرقياً فهم أبناء الهُجنة نفسها التي ينتمي إليها السودانيين في أقاليمهم المختلفة، بل وداخل ما يسمى بنطاق (أولا البحر) يعيش التمايز الحضري بقوة بين المجموعات القبلية، ويترتب وجود بعضها على أسس من نشاطها الاقتصادي أو تاريخها الثقافي المستخدم في تنميط حضورها الراهن، هذا الأمر ذاته في غرب السودان حيث يوجد ما يمكننا تسميته بـ(القبيلة الذهبية) ولا يخلو الفضاء الاجتماعي للغرب من تراتب مبني على ذات المفاهيم التي تصنع أي تراتبية اجتماعية تسندها تصورات وتتخلق منها حظوظ مادية.
لكن الأمر لا يقف عند هذه النقطة، فقد استطاع التعليم بصورة من الصور أن يكون رافعة اجتماعية ويضم سودانيين من مُختلف الأقاليم الثقافية، ويجعلهم أعضاءً في نادي (الصفوة) المدينية، لكننا حينما نقول إنها معركة مؤجلة ومسكوت عنها، فذلك لأنها تكشف عن نفسها بصورة سافرة عند أول صِدام بين الطرفين، وفي قناعتي وإن كان البحث في المعرفة لا يعتمد النوايا وأسرار النفس، إلا أنني لن أعدم من يتفق معي على استقرار هذا التقسيم في نفوس السودانيين من شمال ووسط، وغرب، استقرار مسكوت عنه، ومحمّي بالصمت المُركب، والمقولات المعروضة في سياق الاتهام المتبادل أن أبناء شمال ووسط السودان يعتقدون أن أبناء الغرب أقل شأناً منهم وذلك في مستوى الوعي والوجود الثقافي، وهذا حكم أقل ما يوصف بأنه تعميمي ويريد تخليد المعركة دون النظر في التحولات التي جرت وتجري في السياق الاجتماعي الذي ينتمي إليه أبناء الشمال والوسط، وإن كانت هناك شواهد على هذا التمييز السلبي من قِبل جماعات تنتمي إلى شمال ووسط السودان، فإننا لن نعدم وجود مشابهات لها وسط مجموعات تنتمي إلى غرب السودان، إذن فالطرفان يمارسان لعبة التمييز كلٌ بما يحمله من تصور عن الذات والآخر، بل لعلنا نجد أن المجموعات التي تنتمي إلى أقاليم شمال ووسط السودان تنطق في موقفها السلبي ضد الآخرين من ذاكرة تاريخية حرجة، والمجموعات التي تنتمي إلى غرب السودان تنهل من المنهل ذاته. إن الأهم من ذلك كله أن الذي يغذي هذا الشعور يتقلص بصورة متعاظمة لسكان المدينة، إذ تشكل المدينة حالة من حالات التضامن الاجتماعي والتي تتخفف فيها هذه الحمولة من العصبيات القبلية، ولذا فإنه لا يمكن وصف إقليم ثقافي (شمال أو غرب) جملة واحدة بأنه يحمل موقف ثابت ومتجاوز للزمن وغير عابئ بأي تحولات تجعل من موقفه حالة تاريخية أكثر منها موقف وجودي، ثم أن المؤسسات الإنتاجية والتعليمية جَمْعّت السودانيين من كل لون وسحنة واستطاعت أن تقلص من هذه الفوارق الإثنية بل ووحدت بينهم بصورة ملفتة.
والأمر كذلك مستقر في ذاكرة أهل غرب السودان بأن أبناء الوسط والشمال أقلية لا تستحق كل هذا الذي يحصلون عليه من مكاسب ومواقع في الدولة والمجتمع، وأن الذين نالوه من مكاسب لا يعود إلى تفردهم بل إلى موقعهم العرقي والثقافي في السودان، وحقيقة لابد من الاعتراف بأن المجتمعات حتى الحديثة منها لم تتلخص بعد من التمييز على أساس العرق والجنس، ولكنها أقامت قوانين صارمة استطاعت أن تحد بصورة جيدة من تمظهرات لهذا التمييز السلبي بين المجموعات الثقافية، ولذا فإن حاجتنا ماسة إلى الاشتغال على الإصلاح الثقافي والقانوني، واستثمار شواهد التعاون الاجتماعي بين السودانيين وتعظيم علائقهم الاقتصادية والانتاجية لأن هذا كفيل بتخفيف حدة الصراع الثقافي بينهم، ففي حال استطاع العقل السياسي أن يضع تصورات حقيقية وممكنة لإعادة صناعة السوق في السودان، وأقام مؤسسات للتنمية في المدن الكبرى ووفر فيها فرص عمل متساوية بين السودانيين فإنه سيقطع أكثر من نصف الطريق ناحية إقامة نظام سياسي يُعبر عن كل السودانيين.
لكن السؤال، هل هذه الثنائية بين (النيل والغرب) ثنائية عنصرية؟ أم هي شكل من أشكال اللاتوازن الاجتماعي بين السودانيين جميعاً؟ وما هذه الثنائية إلا مظهراً سطحياً لأزمة أكبر، والسؤال كذلك، هل أبناء غرب السودان هم جماعة ثقافية واحدة؟ أي أنهم متساوون في الامتياز الهوياتي كونهم يعيشون داخل إقليم واحد؟ أم أن هناك ثنائيات مخفية يعيشها غرب السودان نفسه؟ ثم هل أهل شمال ووسط السودان هم أقلية ثقافية تعيش حالة من التعالي العرقي والاجتماعي على بقية السودانيين؟ هكذا ضربة لازب.. هذه أسئلة يجدر بنا البحث فيها ليس فقط طمعاً في الإجابة عنها بشكل نهائي، وهذا ليس بشغل المعرفة، ولكن بحثاً في حقيقتها المعرفية قبل كل شيء..
أي مراقب لواقعنا الاجتماعي يعرف أن الشعور بالتفوق لدى البعض شعور زائف، ومجافي للواقع، إذ لا نملك أية دلائل على وجود معالم للتطور المادي والمعرفي تسمح بأن يدّعي أحدنا امتيازه على الآخرين، إن الشعور بالتميّز مظهر من مظاهر الوهم، والمؤلفات التي اشتغلت على تحليل التاريخ الاجتماعي على كثرتها اهتمت بالأبعاد السياسية لأزمة الهوية، وكذلك الأبعاد الدينية، وهذه طريقة تغلق الباب أمام محاولات الإصلاح الجذرية في المجتمعات لأنها تنصرف إلى سطح الظاهرة لا إلى بنيتها الداخلية، وبالطبع لا أحد يُنكر أثر وأهمية البعدين الديني والسياسي في فهم الظواهر الاجتماعية، لكن الذي ينبغي الإشارة إليه هو أن التاريخ الديني لأي جماعة بشرية لا يخضع فقط للذاكرة والأخبار والمرويات، وهذه قضية أخرى.. ولنعد لموضوعنا إن هذه الثنائية (بحر وعرب – نيل وغرب) سردية تتسلق كل أوجاعنا السودانية وتعيش فينا بصورة غير مؤقتة، ويحتفظ كل منا برصيده من الآخر، وهذا الرصيد محفوظ لصالح الاستخدام السياسي المُغرض، والعريضة الموجهة لمحكمة الهوية من قِبل الطرفين تتلخص في مفردات (التعالي العرقي – الامتياز الطبقي “رغم عدم انطباقها على المشكل المقترح”- الحقد الاجتماعي..) وتنكشف حالات الصدام بين الطرفين في محطات بعينها، ولنبدأ بالتُهم الموجهة للطرف الأول (أبناء النيل) بأنهم يتأففون من تزويج بناتهم إلى من تعود أصولهم إلى غرب السودان، وهذه حقيقة اجتماعية تنتمي إلى مزاج ثقافي قديم، ونضعها هنا في سياق تحكم الإرث القبلي في الوعي، لأن هذا الأمر لا ينطبق على أبناء الشمال والوسط فقط، بل في كل جغرافيا تتتسيّدها القبيلة تقف حواجز المصاهرة بين السودانيين، فالقبيلة تنبني مواقفها على أساس مصلحة الجماعة، مصلحتها الاقتصادية والاجتماعية، وفي سبيل الحفاظ على رصيدها من الموارد فإنها تقوم بعملية تدوير لهذه الموارد عبر (البنت لابن عمها). ليس لأن ابن العم يشبهها في قيّمه ومواقفه وسلوكه تماماً، بل الخفّي في القصة أنه وبهذه الزيجة ستزيد حصائل الثروة (مادية ومعنوية) ويتم يحافظ على عدم تسرب هذه الموارد إلى مجموعات أخرى قبيلة أو ثقافية، بالطبع هذا يحدث في ظل سيادة القبيلة كمؤسسة اجتماعية، وينتفي هذا الموقف في المدينة التي يقوم رابطها على أسس أخرى ليس من بينها العِرق، ولذا فإن تصاهر السودانيين بالزواج يحدث في المدينة بصورة أوضح من الريف، لكن ولأننا لا زلنا نعيش القبيلة حتى في المدينة فإن المزاج العِرقي لا يزال يمارس هيمنة على مجمل فاعليتنا الاجتماعية، ويحدث هذا الأمر في كل المجتمعات التي لم تتجاوز بعد سلطة القبيلة.
وباعتراف صريح ينبغي أن يُقِر السوداني المحكوم بالقبيلة أن عَقد الزيجات من خارج القبيلة أو الجماعة الثقافية مواجهٌ بتعقيدات تنتمي إلى الخلفية العرقية والإثنية لمن يراد مصاهرتهم، هذا يحدث في غرب ووسط وشمال وشرق السودان، ولذا محاولة اتهام طرف دون آخر بهذه “العائقة الاجتماعية” التي تقف أمام محاولات التمازج الوطني تهمة يعوزها الدليل وتحتاج إلى الاعتراف بأنه فعل نقوم به كلنا في وجه بعضنا البعض، لأن متاعب هذا النوع من المصاهرة، والمصاهرة من صَهَرَ، وتقول المعاجم العربية: صَهَرَ الشَّحْمَ بِالنَّارِ: أَذابَهُ. أي حوّله إلى كتلة واحدة. نقول بأن الذي يقف حائلاً دون عمليات المصاهرة بين السودانيين جميعاً يعود إلى هيمنة الموروث وتقليدية البنى الاجتماعية التي لم تتطور بالصورة التي تجعلها تتخلص من ذاكرتها الحرجة تجاه نفسها والآخرين، فالمجتمعات التي تعيش فيها القبيلة أطول تعاني متاعب في الاتصال والتواصل، أي أن قنوات العلاقات بين قبيل وآخر تحتكم إلى قوانين لا تنتمي مباشرة إلى الموضوع، بمعنى أن رفض المصاهرة بين الشمال والغرب لا يربط إلا بسبب عرقي مقيت، وهذا السبب يقوم قانونه على (وهم) النقاء العرقي عند بعض المجموعات الثقافية، وهذا النقاء هو حصيلة تراكم الهوية بالعرق لا الثقافة، لأن معامل العرق لا يصلح لبناء معرفة جادة بالهوية الفردية أو الجماعية، وذلك لأن العرق ليس اختياراً، ولا يمكنه أن يعيش في حالة يباس دون الاتصال بالأعراق الأخرى، وبالتالي يستطيع أن يعيش فترات أطول داخل أي مجتمع، بمعنى أن الهوية العرقية (وهم) لأنها تقوم على مفهوم خاطئ للذات، مفهوم يفترض أن اللون؛ لون البِشرة، وجعادة الشعر، وطول الأنف، وغلاظة الشِفاه هي محددات ثقافية وفي الأصل هي محددات عرقية تنتسب إلى دراسات الاستعمار حول الشعوب، وهي تلك التي تربط بين العرق والوعي، وقد عادت العلوم الاجتماعية اليوم لتسخر من مفهوم (الهوية العرقية) فمصطلح العرق “مفيد جدًا” لأنه لا أحد يعرف بالضبط ما يعنيه، وأنه من الصعوبة تحليل ونشاط المجتمعات على أساس عرقي، كما أن مفهوم المجتمع “الإثني” يتلاشى عندما يحاول المرء تصوره بدقة – (راجع: نهاية العرق (بالفرنسية)- كريستل مولر- الصفحات (15).
والحقيقة أن الهوية تقوم على السمات الثقافية (اللغة، والتاريخ، والتراث)، لكن ورغم هذه الحقيقة العلمية إلا أن الأمر لدينا معكوس، كيف؟ إن التاريخ الاجتماعي الذي يعيش فينا بصورة قهرية صنع لنا جدارات عالية، ونمّط من صورنا أمام بعضنا البعض، فالآخر عند كل جماعة قبلية مكان الاحتراس والمخاوف، ولو راجعنا أمثالنا الشعبية وهي تعبير عن ذاتنا المندسة في جَنبات الوعي، لعلنا واجدون صوراً من صور التمييز السلبي المستند على إرث عرقي تستخدم فيه قّيِم ترتبط باللون والأصل الإثني، هذا الأمر تستخدمه كل المجموعات القَبلية، وليس حكراً على قبيلة بعينها، وهنا لست بحاجة إلى إيرادها حتى لا نروج لها، لكن للكافة العلم بأن قاموسنا من الذاكرة الشعبية محتشد بالعصبية القبلية وبالتمييز العرقي ويربط بين الأصل الإثني للشخص وسلوكه، وبطبيعة الحال يقف هذا دليلاً قاطعاً على أننا لا زلنا مجتمع بارد، لم يخض بعد مراحله من التطور تجاه التحديث والمعاصرة، ويحدث ذلك بسبب انغماسنا المُر في ذواتنا، بل نقول إن السوداني والذي يتشكى كثيراً من (عنصرية ما) تقابله خارج الحدود لا يود الاعتراف بأن أنفاسه مثقلة بالعصبية للدرجة التي يبنغي أن يخجل من الشكوى، كما أن معالجة أي مشكلة اجتماعية تحتاج منا الكشف عن مصادر تغذيتها والتي تبقيها حيّة في النفوس والسلوك، ومسألة المصاهرة بين أبناء الشمال والشرق والغرب، فالأمر في جوهره يتصل بالحاضنة الثقافية التي نَستلّ منها صورة الذات والآخر، وليس بسبب “عنصرية” اجتماعية تعيش فينا، ولذا فإن دعوتنا أن نتخلص من جملة الأوهام التي تُشكل وعينا، تخلص يقوم على الاعتراف والعلم لا المواجهة بالتُهم، وأولى اعترافاتنا أننا مجتمع لا يحتكم إلى المعرفة بقدر العُرف، مجتمع لا يريد مواجهة ذاتها ويتهّرب من أسئلة الحق والواجب، ولذلك يظل مسعانا يتصل بقبولنا هذا الاختلاف لكن مع العمل على تطوير المجتمع عبر الكتابة والبحث والدراسة، أن نعيد تركيب المناهج بالصورة التي تكشف عن محددات تضامننا الاجتماعي وليس تعزيز الفوارق، فلا مصلحة لأحد في هذه الجغرافيا الغنية بالإنسان والموارد أن يظل أبناؤه في اقتتال على تخريبه لا إعماره، تخريب يستند على مشكلات زائفة ولكنها تجد التوظيف المؤذي، حقيقة إن السودان بلد يستحق منا أفضل مما نفعل، لنفعل ما يجعلنا نستحق هذا البلد.