معطيات :
أكمل الحزب الشيوعي السوداني سبعة عقود ونيف من عمره السياسي منذ تخلّلُقِه في رحم الحزب الشيوعي المصري، الذي أسسسه اليهودي هنري دانيال كوريل، في أوائل الأربعينيات، وحمل إسم الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني ،وضم في عضويته أوائل الشيوعيين السودانيين الذين كانوا طلاباً يدرسون في مصر،وكوّنوا فيما بعد، الحركة السودانية الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) التي كانت مرتبطة بالحزب الشيوعي المصري وإستقلت عنه رسمياً بإعلانهم ميلاد الحزب الشيوعي السوداني في 1952 بقيادة عبدالخالق محجوب.
بقدر ما جذبت النظرية الاشتراكية الماركسية الانظار وبهرت المعجبين الطامحين للتغيير الثوري، المتمردين على النظم التقليدية،أثارت أيضا إنتقادات وتأفف وسط القوى التقليدية ،بل شمرت بعض الدول سواعدها فشنت حرباً ضد المد الشيوعي وأجتهدت في وقف تغلغل الفكر الماركسي في جسد المجتمعات،فأطلقت العنان لمخابراتها تطارد الشيوعيين تنكل بهم أينما ثوقفوا، إعداماً ،تعذيباً وإخفاءً، بإعتبار ان الفكر الماركسي نبت شيطاني رجيم ،ضد قيم ومبادئ المجتمعات المسلمة، ومحاولة منه في توضيح بعض الجوانب ،قال الراحل محمد ابراهيم نقد السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني « اي نص ماركسي يتعارض مع تجربة السودان في الديمقراطية التعددية نحن لا نتقيد به ولا يلزمنا وانما يلزمنا الواقع.. فنحن نتعامل مع الواقع وفق (المنهج الماركسي) وليس وفق (النص الماركسي) وهذا توضيح مهم، وهناك فرق بين الاثنين فالمنهج الماركسي للتحليل والدراسة للنظام الرأسمالي بصفة خاصة ولا اعتقد ان هناك نظام افضل منه في هذا الجانب حتى الان، اما النصوص فهي كقراءات وقوالب لا تصلح مع اى واقع، واي حالة متعسفة لتجيير الواقع بناءً عليها او العكس لن تكون مفيدة، وما توصلنا اليه في تجربة السودان توصلنا اليه عبر المنهج الماركسي وليس استنادا على النص الماركسي سواء كان من (انجلز) او (ماركس) او (لينين) او (ستالين)» – إنتهى حديث نقد.
فهل نجح هذا الحزب في تصميم موديل سوداني يحمل في طياته برنامج (شيوعية سودانية) بقسمات وملامح سودانية بحتة ؟ كنتاج لتطبيق المنهج الماركسي وليس تنزيل حرفي للنص الماركسي كما إدعى نقد..على الرغم ان النهج في حد ذاته يتخذ النص مرجعية في التطبيق… بيد أن شواهد التاريخ السياسي لهذا الحزب تكاد تجزم بغياب مثل هذا النموذج السوداني الذي إشار إليه نقد،ربما موجود على مستوى التنظير فحسب،لان واقع الحال والتجربة الشيوعية تخالف ذلك تماماً، فإذا أخذنا تجربة نميري الاشتراكية التي إرتجلها بالتأميم ومصادرة الملكية الخاصة، لم تكن إلا نسخاً شائهاً لتجربة عبدالناصر وهو بدوره نقلها عن الاتحاد السوفيتي بدون أي دراسة أو تحليل مرتكزات الاقتصادي الاشتراكي،بل كانت قرارات ثورية محروسة بالبندقية، ولم تكن وفقا للمنهج الماركسي كما تفضل نقد، وكدليل على خطل سياسية التأميم هو النكوص السريع عنها واعتناق الرأسمالية الامبريالية كمنهج إقتصادي سارت عليه هذه الدول فيما بعد ،حتى روسيا نفسها تخلت عن الشيوعية بعد سنوات عجاف من التطبيق القسري للنظام الاشتراكي في كل مناحي الحياة حتى ثبُت فشله بعد سبعة عقود،وتبخر الاتحاد السوفيتي في طرفة عين!
سياسياً، يبدو أن الحزب الشيوعي خلال مسيرته الطويلة أصابه ،ما أصاب الأحزاب السودانية التي يصفها في أدبياته بالاحزاب الرجعية البرجوازية الطفيلية، وتساوى معها في تخبط منهجي وفشل في إرساء سلطة ديمقراطية تعددية مستقرة ،وكان شريكا في إثم الانقلابات على الديمقراطية التي ينادي بها..! كما انه لم يفلح في عقد مؤتمراته العامة إلا ستة مرات على مدى سبعة عقود اخرها كان في 2016,صحيح هناك مبررات أمنية حالت دون الانتظام في عقدها،غير انها غير منطقية كجزء من الازمة،ولم يسلم من التشظي والإنقسامات كغيره من الأحزاب البرجوازية التي لم تمارس ديمقراطية حقيقية داخلها… لقد جربت هذه الأحزاب كل الوسائل الناعمة والخشنة من أجل الوصول إلى السلطة كهدف وهى تفتقر للبرامج النهضوية الشاملة للدولة، ولم يسلم الحزب من فيروس التنافس الخبيث والسعي لافشال غريمه السياسي، لقد نجح الحزب الشيوعي في إجهاض الديمقراطية الثانية بإنقلابه المايوي في 1969 الذي سرعان ما حل عليه كارثة ماحقة وضربة قاصمة عندما قام نميري بإعدام رفاقه الشيوعيين الذين أصلوه إلى كرسي الحكم بعد انقلاب هاشم العطا ، تلك الكارثة التي حاقت بالحزب اقعدته ردحاً من الزمن مطارداً أو قابعاً في المعتقلات. ول هارباً من ول منهم إلى الدول الغربية الامبريالية فعاشوا حياة مستنعمة بعيداً عن خشونة البلورتاريا وفنطازيا الصدام الثوري،فعاشوا “حياة الفرح المعبأ في الزجاج” كما كان يقول اخي عبدالباري شرف الدين – عليه رحمة الله .
شهد الحزب الشيوعي عدد من الهزات في صفوفه وتركت آثارها بائنة بينونة كبرى ومازالت مثار جدل في جلسات الرفاق،أولها كانت هجرة بعض الكوادر من أقصى اليسار إلى اليمين الاصولي وتحديدا إلى الحركة الاسلامية الغريم التقليدي للشيوعيين،التي إنضم إليها أمثال يس عمر الامام،احمد سليمان المحامي، امين حسن عمر،عبدالباسط سبدرات وغيرهم،اما الهزة الثانية كانت هجرتهم إلى الدول الغربية التي شكلت لهم ملاذاً إمبرياليا آمناً انساهم مشقة الكفاح الثوري بعدما سرت في شراينهم دماء البرجوازية الغربية وأمتلأت جيوبهم من خيرات الإمبريالية،ومنهم من لفظه الحزب لخلافات شخصية أو جوهرية مثيل الشفيع خضر وغيره ،بينما هناك من ترك الشيوعية والتحق بالطرق الصوفيه وكثيرين من اجبرتهم ضغوطات الحياة و المسئوليات الأسرية ومتطلباتها إضطرتهم دخول السوق ففترت فيهم العزيمة الثورية والالتزام التنظيمي.
وأقبل بعض ( الرفاق) على بعضهم يتلاومون في جلساتهم ويرمون تهمة البرجزة كلما رأوا مظاهر نعمة على احدهم أو فتر فيه العنفوان الثوري.
كل هذه المعطيات مؤشر قوي تحتم على الأحزاب بما فيها الحزب الشيوعي مراجعة دفاتره الثورية وإجراء اصلاحات شاملة تراعي خصوصية المجتمع والبيئة السودانية ،لقد نصح كثير من الناصحين الحزب الشيوعي بضرورة تغيير اسمه لانه صار قريناً للإلحاد والمجون الشئ الذي اجهتدت في ترسيخه التيارات الاسلامية الراديكالية لشئ في نفس يعقوب!
لايمكن تحقيق الدولة المدنية الديمقراطية في ظل خراب المؤسسات الحزبية وافتقارها لبرامج نهضة وطنية شاملة وعلى جميع الأحزاب التخلي عن الانقلابات كوسيلة للوصول إلى السلطة،فضلا عن ذلك عليها تطبيق الديمقراطية داخل مؤسساتها الحزبية بكل شفافية وفق معايير الممارسة الحزبية في الدولة المدنية.
msharafadin@hotmail.com