لا أبالغ إذا وصفتْ ما تفعله جامعة الخرطوم هذه الايام بالمعجزة، حيث استطاعت رغم ظروف الحرب والنزوح واللجوء والمعاناة الكبيرة، المادية والمعنوية والنفسية، من عقد امتحانات التخرج لطلاب كليتي الهندسة والآداب، والامتحانات النهائية لطلاب السنة الأولي (الدفعة القديمة) لطلاب كلية الاقتصاد، بنسبة حضور في الكليات الثلاث تقترب من 100 %، مع حفظ حقوق الذين لم يتمكنوا من الجلوس للإمتحانات، وهى بالتأكيد قصة نجاح لا بد أن تُكتب وتُوثق للتاريخ في حق الذين صنعوا هذه المعجزة من منسوبي الجامعة بدءا بالمدير البروفيسور (عماد الدين عرديب) وحتى قاعدة الهرم الجامعي الذهبي، بالاضافة الى الذين قدموا يد العون والمساعدة في الجامعات والمؤسسات الأخرى داخل وخارج السودان.
دعونا نبدأ بالجهد الذي قامت به أمانة الشؤون العلمية بالجامعة وادارات الكليات المعنية بإجراء بحث استقصائي علمي دقيق لاماكن وجود الطلاب واعدادهم واستعدادهم للجلوس للإمتحانات والامكانيات المتاحة والعقبات المحتملة ..إلخ، كانت نتيجته إيجابية، ومن ثم تم تحديد اربعة مراكز لاقامة الامتحانات، ثلاثة داخل السودان، في جامعة الجزيرة، وجامعة القضارف، وجامعة واداي النيل بعطبرة بالتعاون مع إدارات هذه الجامعات التي قدمت يد العون بكل اريحية وبدون مقابل، ومركز خارج السودان بالعاصمة المصرية (القاهرة) في بيت السودان (بحى السيدة زينب) تحت الاشراف المباشر لادارة الجامعة وسفارة السودان بالقاهرة التي لم تبخل بشئ وهوديدن السودانيين الاصيلين، وقد تكون فرصة جيدة للحديث عن شكاوي وصلتني من السودانيين بالقاهرة عن الضيق الشديد لصالات الخدمة المباشرة للجمهور بالسفارة وقلة عدد الموظفين، الأمر الذي يتسبب في إزدحام شديد، ادى لحدوث بعض حالات الاغماء وسط كبار السن خاصة مع إرتفاع درجات الحرارة هذه الأيام، واقترح للاخوة بالسفارة إقامة صيوانات وزيادة عدد الموظفين والاجهزة لتقديم الخدمات لاكبر عدد من المواطنين في ظروف افضل واريح.
بعد أن اعدت الجامعة كل شئ وتأكدت من ارتفاع نسبة نجاح التجربة، اعلنت قبل وقت كاف بكل الوسائل المتاحة عن قيام الامتحانات التي بدأت في الثالث عشر من أغسطس (2023) وكانت المفاجأة جلوس 495 طالب وطالبة في المراكز الاربع من جملة 525 هم اجمالي عدد الطلاب، أى بنسبة 95 % تقريبا، وهى نسبة كبيرة لا تتحقق حتى في الظروف العادية، وربما كان السبب روح التحدي للظروف الصعبة والشوق الكبير للطلاب لاستكمال الدراسة والتخرج بعد فترة تأخر طالت، وهو ما يدعوني لمخاطبة القائمين على الامر في البلاد (الحكومة المكلفة) ووزارة التعليم العالي ممثلة في شخص الصديق القديم و(الدفعة) بروفيسور محمد حسن دهب للنظر في إمكانية إستئناف الدراسة بأسرع ما يتيسر حسب الظروف والإمكانيات.
مرت ايام الامتحانات بسلاسة ونظام فائقين، بجهد كبير من كل القائمين عليها، تطوعا بدون أجر، ولقد وصلت امتحانات كليتي الهندسة والاقتصاد الى نهايتها أمس (20 أغسطس) ومن المتوقع ان تكتمل امتحانات كلية الآداب في السادس والعشرين من الشهر (حسب الجدول الذي أجازه مجلس عمداء الجامعة في إجتماع إسفيري)، وسيجري تصحيح الاوراق إلكترونيا بعد تصويرها وإرسالها لأساتذة المواد، ومن ثم اعتمادها بواسطة لجان أكاديمية مصغرة لمجالس الكليات واعلانها، تمهيدا لاصدار شهادات التخرج إلكترونيا (وربما ورقيا إذا تيسرت الظروف)، وهى مناسبة اتحدث فيها عن ضرورة تطوير وتحديث العملية الاكاديمية بمجملها و(رقمنتها) بمافي ذلك التدريس والتصحيح والمناهج والتواصل بين الأساتذة والطلاب عبر سيرفرات (خوادم) خاصة بكل جامعة، يتمكن كل أستاذ وطالب من الدخول إليها بكلمة مرور خاصة بكل واحد (باس ويرد) وهى الطريقة التي تستخدمها معظم الجامعات في العالم، ولا يعني ذلك الاستغناء عن الطريقة التقليدية التي تمثل ركنا أساسيا للتدريس والعمل الأكاديمي.
ما قامت به جامعة الخرطوم معجزة حقيقية في ظروف الحرب القاسية، ولا غرو في ذلك فهي الجميلة ومستحيلة، كما انه خبر مفرح تسرب إلينا وسط الاحزان والدموع والدمار وآلام الحرب العبثية التي نعيشها كل يوم من اجل سلطة زائلة ومجد زائف .. شكرا جامعة الخرطوم، وشكرا لكل من أسهم في هذا الانجاز الكبير.