تكررت بصياغات مختلفة عبارة “توحيد وتنظيم الجبهة المدنية لإيقاف الحرب واستعادة المسار الانتقالي المدني الديمقراطي” في خطاب القوى السياسية السودانية بعد اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل الماضي، وانطلاقا من فرضية ان المدخل المفتاحي الى تحقيق سلام مستدام وتحول ديمقراطي في السودان هو وجود “حامل مؤسسي ” مؤهل فكريا وسياسيا وتنظيميا لإنجاز هذه المهمة التاريخية ، لا بد من وضوح الرؤية حول مواصفات الجبهة المدنية المطلوبة ومعايير الانتماء إليها ورسم الحدود الفاصلة بين توسيع القاعدة السياسية والاجتماعية للسلام والديمقراطية وبين عمليات الإغراق والاختراق المنهجي للتحالفات المدنية من اجل السلام والديمقراطية من كيانات منخرطة عمليا في الحرب وتقويض مساعي الديمقراطية، ورسم هذه الحدود يستوجب رؤية واضحة حول كارثة الحرب تشخيصا ومعالجات.
الخلط بين مفهومي الوحدة والحوار
السؤال المركزي الذي يحاصر السودانيين الآن هو كيف يمكن إيقاف الحرب وتدشين مشروع سلام مستدام؟ وفي سياق الاجابة عليه تبرز بقوة فكرة الجبهة المدنية الموحدة والحوار الجاد بين الفرقاء مهما بلغت درجة اختلافاتهم، وهنا يجب التمييز بين فكرة “بناء وتنظيم جبهة مدنية كبيرة ومؤثرة للسلام والتحول الديمقراطي” على أساس حوار بين القوى السياسية المؤمنة فعلا بهذا الهدف، وبين فكرة الحوار الوطني الشامل الذي يضم كل الفاعلين المؤثرين في الساحة بمن فيهم أنصار الحرب من “الإسلاميين” وعسكر الجيش والدعم السريع وواجهاتهم المدنية.
المعطيات الموضوعية للواقع السوداني هي وجود جبهة منظمة منحازة لخيار الحرب والدكتاتورية العسكرية وتضم الإسلاميين وعناصرهم القيادية في الجيش وكتائبهم الجهادية وأذرعهم في الامن والشرطة( التنظيم الأمني العسكري الاسلاموي المرتبط عضويا بمصالح مادية ضخمة غير قابلة للحياة الا في ظل سلطة قمعية تحمي الفساد وتتستر عليه )، والشق الثاني في هذه الجبهة هو “قوات الدعم السريع” التي تقاتل الإسلامويين بشراسة في هذه الحرب لصالح مشروع مليشياوي للسيطرة على السلطة السياسية وحماية شبكة من المصالح المادية الضخمة (العابرة للحدود) التي تحتاج شأنها شأن مصالح الإسلامويين لسلطة قمعية تحمي الفساد وتتستر عليه!! ويتبع لجبهة الحرب بشقيها قوى سياسية واجتماعية واعلامية ولكليهما ارتباطات إقليمية ودولية.
وفي المقابل توجد الجبهة المناهضة للحرب (جبهة لا للحرب) التي تضم كل السودانيين والسودانيات الذين أصبحت أغلى وأعز أمانيهم ان تتوقف هذه الحرب التي حولت حياتهم الى كابوس رعب وهوان ومذلة وتشرد، وهؤلاء هم الأغلبية بلا منازع لأنهم من يدفعون الثمن أرواحا وجراحا وعذابا وفقدانا للأمان وللديار والممتلكات ، كما تضم طيفا عريضا من القوى السياسية والاجتماعية والإبداعية والمهنية المنظمة المنحازة لخيار السلام والتحول الديمقراطي وفي مقدمتها قوى الثورة من لجان مقاومة وتنظيمات نقابية ديمقراطية ومنظمات مجتمع مدني وكيانات دينية وأحزاب سياسية، ومثقفين وفنانين.
تأسيسا على هذه المعطيات، يجب ان يكون توحيد وبناء وتنظيم “الجبهة المدنية للسلام والتحول الديمقراطي” لتكون الكيان المؤسسي الذي يعبر عن القاعدة الشعبية العريضة المناهضة للحرب والانقلابات العسكرية والمؤمنة بالخيار الديمقراطي في صدارة أولويات القوى الديمقراطية.
بناء مثل هذا الكيان المؤسسي الذي تتحالف تحت مظلته القوى الديمقراطية الحقيقية المناهضة للحرب له أهمية كبرى في حاضر البلاد ومستقبلها، إذ أن العمل السياسي والدبلوماسي والإعلامي من أجل وقف الحرب يجب ان ينطلق من منصة مؤهلة أخلاقيا وفكريا وسياسيا للعب هذا الدور، وبالتالي لا يمكن استيعاب مكونات “جبهة الحرب والانقلابات” في “جبهة مدنية للسلام والتحول الديمقراطي” تحت ذرائع توحيد الصف الوطني او حماية البلاد من التمزق والتدخل الأجنبي او منع الإقصاء لتيسير مهمة الوصول الى السلام.
هذه الذرائع مبنية على فرضية خاطئة وهي ان رفض استيعاب الإسلامويين في الجبهة المدنية للسلام والتحول الديمقراطي معناه رفض الحوار معهم بشكل مطلق وتجاهل وجودهم وتأثيرهم على الواقع!!
حتى يكون الحوار مع مكونات “جبهة الحرب والانقلابات” وعلى رأسهم الاسلامويين منتجا وذا جدوى، يجب ان ينطلق من منصة سياسية قوية ومنظمة ومؤثرة ذات وزن شعبي يؤهلها للضغط عليهم في اتجاه التخلي عن الاجندة الحربية والشمولية لصالح السلام والديمقراطية، وفي هذه الحالة يكون الحوار اقرب للتفاوض بين جبهتين مختلفتين في الاجندة اختلافا جذريا.
أما زراعة الاسلامويين في جبهة مدنية ساعية للسلام في الوقت الذي تنخرط فيه كتائبهم في القتال، وآلتهم الاعلامية تعمل ليل نهار على تأجيج نيران الحرب والدعوة لتوسيعها وبث خطاب الكراهية والتخوين، وقياداتهم السياسية تحيك المؤامرات وتضع العراقيل أمام أي محاولة لإيقاف الحرب عبر التفاوض فهذا ضرب من ضروب الخداع والتضليل، بل وقوع في فخ الأجندة الحربية والانقلابية عبر اختراق أصحاب الاجندة الحربية والشمولية لجبة المدنيين الديمقراطيين، وكذلك هو عملية غسيل مجانية للكيزان الذين لم يتزحزحوا حتى هذه اللحظة قيد أنملة عن نهجهم المعادي للسلام والديمقراطية والرافض بشدة لمجرد الحديث عن الإصلاح الأمني والعسكري بل تجريم وتخوين هذا المطلب، وما زال مسلكهم السياسي وخطابهم الاعلامي يخلو تماما من أي تراجعات او مراجعات او حتى مجرد نبرة اعتذارية طفيفة عن الجرائم الكبرى التي ارتكبوها في حق شعب لم يؤذيهم ودولة لم تعاملهم في كل تاريخها بمثل ما عوملت به حركة الاخوان المسلمين في المنطقة من قمع ومجازر جماعية ونهج استئصالي!
مخطئ من ظن ان الكيزان يمكن ان يتراجعوا عن مواقفهم بالحكمة والموعظة السياسية الحسنة وإفساح المجالس لهم بالمجان وسط القوى المدنية والقبول بوكلائهم المصنوعين على أعين المخابرات المصرية كالكتلة الديمقراطية وأمثالها وغض الطرف عن كونهم تنظيم مسلح متعدد المليشيات ومنخرط في الحرب! الكيزان لن يتغيروا إلا تحت الضغوط السياسية!
منهج القوى المدنية في التعامل مع كل من “الحركة الإسلامية”، و”الجيش السوداني” و”قوات الدعم السريع” يجب ان يكون قائما على أساس ان كل هذه المؤسسات لن تقبل بالتحول الديمقراطي إلا تحت الضغوط الشعبية المكثفة التي تقودها جبهة مدنية منظمة ، فكل هذه المؤسسات لها مصالح ضخمة تتناقض بنيويا مع النظام الديمقراطي ولن تقبل به الا اذا تشكل واقع سياسي اقنعها بأن تكلفة خيار الدكتاتورية العسكرية باهظة بالقدر الذي يجعلهم يقبلون بتوفيق اوضاعهم مع الخيار الديمقراطي، ومن ثم فإن نجاح مشروع السلام والتحول الديمقراطي رهين لمدى قوة المؤسسات التي تتبنى هذا الخيار ومدى قدرتها على ان تكون عنصرا مستقلا في معادلة توازن القوى، وذلك عبر تعظيم رأسمالها السياسي الخاص ممثلا في الالتحام العضوي بالجماهير وامتلاك المؤسسات السياسية والإعلامية الفاعلة والتحالفات الدولية الذكية التي بوصلتها حماية المصالح الوطنية العليا وعلى رأسها السلام المقترن بالتحول الديمقراطي كمدخل وحيد معقول للاستقرار والتنمية في السودان.