شدني الخبر المنشور بالوسائط حول كيفية خروج البرهان من القيادة أو كما يحلو للبعض من البدروم.. فاستعنت بمحرك البحث قوقل Google بعد أن أرهقني وأرهقته في البحث عن صحيفة بإسم نيويورك نيوز. لم أعثر على صحيفة بهذا الإسم وإنما على نيويورك ديلي نيوز New York Daily News المؤسسة في العام ١٩١٩م… بغض النظر عن وجود أو عدم وجود صحيفة بإسم نيويورك نيوز يجب النظر الي فحوى الخبر وتسلسل الأحداث التي تلته مباشرة… فقد أورد الخبر ما نصه 🙁 أن قوة من مشاة البحرية الأمريكية قامت بإجلاء الجنرال البرهان من مبنى قيادة الجيش حيث ، أخطر البنتاغون قيادة الدعم السريع بدخول قوة أمريكية قوامها ٢٥ جندي الي الخرطوم قبل ساعات من التنفيذ.) ويواصل الخبر نقله 🙁 أفرغت إحدى الطائرتين مدرعتين تحركتا من سوبا الي القيادة العامة وهما يحملان اعلام أمريكية كبيرة أخذت الجنرال البرهان الي نقطة هبوط الطائرين ومنها الي قاعدة وادي سيدنا العسكرية)
بغض النظر عن ركاكة الصياغة وعدم احترافيتها وتهافتها العجول، فإن منطق الأحداث التي جرت بعد هذا تشير الي تكذيب الخبر وتؤكد أن من صاغه لم يفلح في حبك خيوط قصته… فالواضح أن كل الخبر يهدف لتأكيد نقطة أساسية وهي أن مغادرة البرهان للقيادة ما كان لها أن تتم لولا موافقة الدعم السريع. وهذا بالتأكيد محاولة لإيصال رسالة مفادها أن البرهان ومن ثَم الجيش ليس بوسعهم التحرك دون “موافقة الدعم السريع”. وفي ذلك تأكيد خفي وظاهر بأن اليد العليا في الساحة بيد الدعم السريع.. غير أن تسلسل الأحداث اللاحقة لم يسعف صانع الخبر بحيث تداخلت عليه الخيوط بشكل لم تسعفه من إخراج خبر يتكأ على منطق مقنع.. فقد زار البرهان مدينة عطبرة التي تجول في عدة مواقع فيها ثم بورتسودان دونما حراسة من أي جهة خارجية غير الجيش. وفجأة ودون مقدمات يجد القارئ والمتابع أن دور المارينز الأمريكي والطائرتين والمدرعتين بل وحتى الأسطول الثالث نفسه قد إنتهى… وبذلك يتعرى الخبر من أي هدف غير الذي تم توضيحه أعلاه، غير أن هنالك نقطة يجدر ملاحظتها وهي أن القصة في السياق الكلي تبدو “مُهلهَلة” ومقطعة الأوصال ولا تقوم على منطق داخلي متماسك يسند سياقها الكلي.. فكيف للأمريكان أن يقوموا بعمل مثل هذا دون أن يوصلوه لنهاياته التي تسربت فيما بعد بأن البرهان سيذهب للسعودية لتوقيع إتفاق ينهي الحرب. فإذا كان هذا هو حقيقة فحوى الخبر، إذن لإستيقظت جموع السودانيين وكل المتابعين للشأن السوداني على نبأ مفاده أن البرهان وصل مباشرة وبرعاية الأمريكان الذين تجشموا مشاق إخراجه لمدينة جدة ليحضر مراسم توقيع إتفاق وقف الحرب أو ليوقع مجبرا.
إن ظهور البرهان اللاحق تحت “راكوبة” ست شاي يحتسي القهوة ويأكل الزلابية وهذه الأخيرة فقط تنسف الخبر من أساسه بما حواه من تهويمات وتمويهات تصب في مجملها ليس فقط في رفع الروح المعنوية للدعم السريع، وإنما لتغييب دور الجيش في هذه العملية من أولها لآخرها وهذا أمر لا يقره المنطق الداخلي للقصة ولا تسلسل الأحداث بعدها.. لتكون قصة إخراج البرهان أو بالأحرى خروجه بدل أن تكون هزيمة فعلية للدعم السريع وما تواتر من حصار القيادة العامة تتحول لنوع من النصر بقدرة قادر ( أو بقدرة صانع الخبر).
على كلٍ تشير القراءات من ناحية ثانية الي أن ثمة مستفيد آخر من هذا الخبر وهي القوى السياسية المتلهفة لقبول منطق التسوية عبر إرغام قائد الجيش أولا على الخروج ” بعد اذن الدعم السريع ” وثانيا ليوقع على تسوية يبيع فيها بقايا النظام السابق الذين اصطفوا مع الجيش ليتركهم البرهان عند التوقيع منبوذين في عراء السياسة، لتأتي مراسم توقيع تدعم “التحول الديمقراطي” هكذا بدون أي مقدمات بعد نفي دور الفاعلين بخاصة الجيش السوداني بمجرد إستثارة خيال سينمائي ضامر يظهر فيه من الأسطول الثالث فجأة وتتحرك منه مروحيتان كبيرتان تلفظان مدرعتين تحملان اعلام أمريكية كبيرة في ضاحية سوبا لتنهي حرباً خربت سوبا وكل السودان.
د. محمد عبد الحميد