مقالة د. قصي همرور (مشروعية المرافعة عن مؤسسات الدولة، ومشروعية مساءلتها معا: هذه الحرب نموذجا) تحتاج لمناقشة مطولة.
اهم فرضية فيها هي ان الخيار الصحيح في هذه الحرب هو الوقوف مع الجيش في مهمة ضرورية بل وجودية للدولة السودانية ممثلة في التخلص من الجنجويد، هذا صحيح لو كان الوقود الفكري والاخلاقي المحرك لهذه الحرب هو عقل منحاز فعلا للدولة العصرية التي تتحدث عنها المقالة واستيفاء احد شروطها وهي احتكار القوة لجيش واحد، ولكن هذا الجيش وهو يقاتل الجنجويد متحالف مع جنجويد اسلاموي تحت عناوين كتيبة البراء بن مالك والبنيان المرصوص وهيئة العمليات وغيرها، ليس هذا فقط بل ان الاستخبارات العسكرية ومن خلفها الاسلامويون في حلف مع موسى هلال مؤسس الجنجويد الأكثر اجراما والاقذر تاريخا في الانتهاكات، يعني الحرب ليست من أجل استرداد الدولة بل من أجل استرداد السلطة الكيزانية ، اي تكريس سلطة العقل الذي انتج وضعية وجود المليشيات وعلى رأسها الدعم السريع، لو انتصر الجيش وهذا افتراض غير واقعي حسب ميدان المعركة حتى الان، فإن المعركة لن تكون مع دكتاتورية عسكرية تقليدية بل ستكون مع دكتاتورية الكيزان المدججة بجنجويدها الاسلاموي الذي يخوض الحرب الان.
الأمر الاخر المثير للاستغراب حقا من فرط تكراره، هو تلك النغمة المتكررة في سيمفونيات المثقفين المؤيدين للجيش سواء بشروط او بدونها ممثلة في المحاولة اليائسة لنفي دور الكيزان المحوري في هذه الحرب بل محاولة تسفيه هذا الرأي لدرجة الحكم بعدم السلامة النفسية والعقلية لأصحابه كما فعل د.عبد الله علي ابراهيم وصديقي العزيز محمد جلال هاشم، او الاستهانة بنضج تفكيرهم لدرجة ان مواقفهم مبنية فقط على السير في الاتجاه المعاكس للكيزان كما يفعل قصي بكل اسف في مقالته ، هذه النغمة عديمة الجدوى في حجب ما نراه باعيننا المجردة من حقائق وما لدينا من معلومات صلبة عن ان هذه الحرب صراع سلطة عريان بين الكيزان والدعم السريع، وما اظن ان كتائب البراء بن مالك يستشهد جنودها في سبيل الدولة العصرية التي تتحدث عنها المقالة، ببساطة الكيزان ايدولوجيتهم قائمة على النظر للدولة الوطنية الحديثة كصنم علماني يجب تكسيره او تبديل شفرة تشغيله ، وبالفعل تم تقويض كل مؤسسات الدولة السودانية بشكل منهجي خلال الحكم الكيزاني وتركيز شديد على الجيش.
هناك امر مزعج جدا وهو تضخيم واسطرة دور الجيش في الدولة لدرجة افتراض ان الجيش ضرورة وجودية للدولة ، رغم ان هناك دولا ليس لديها جيوشا وسابقة لدولتنا في كل ميادين التقدم بسنين ضوئية.
وبما ان كاتب المقالة من أكثر المحرضين على التفكير خارج الصندوق لماذا لا يفكر في سودان بدون جيش وبدون جنجويد ! مجرد تفكير رغم عدم إمكانية تحقيقه الا انه وسيلة ضغط معنوي تظهر مدى خيبة امل السودانيين في مؤسسات عسكرية استنزفت جل مواردهم وفشلت في مجرد حمايتهم ليس من عدو خارجي لا سمح الله بل من نيران الأسلحة التي دفعوا ثمنها من عرقهم !
أخطر مافي المقالة هو دعوتها لاستمرار الحرب إلى أن يتم القضاء على الجنجويد.
استمرار الحرب بكل المعطيات الواقعية الماثلة لن يقضي على الجنجويد، بمعنى لن يحل قوات الدعم السريع بالقوة ويجعلها تختفي من الوجود ، والسبب ليس فقط الوضع الميداني الشاخص أمامنا، بل السبب الأكثر عمقا هو ان منصة انطلاق المعركة ضد الدعم السريع منصة معطوبة سياسيا واخلاقيا ومعزولة شعبيا ، منصة علي كرتي وإخوانه!
رغم انني من أكثر الناس نفورا من الحروب ، وكنت اتمنى معالجة وضعية تعدد الجيوش في السودان بصورة سلمية، ولكن حسابات العقل حول طبيعة الجيوش الموجودة وخصوصا الدعم السريع كانت تضع من بين الاحتمالات ان يفرض خيار المواجهة المسلحة مع الدعم السريع نفسه ذات يوم، ولكن هذا الخيار المكروه والصعب يستحيل ان نقبل بتجرع مراراته وندفع فواتيره الغالية دماء ودموعا ودمارا كالذي نشهده الان الا في سياق مشروع سياسي محترم، ومؤهل فنيا واخلاقيا لخوض معركة تحقيق الجيش الواحد صيانة للدولة الوطنية المدنية الديمقراطية.
ولكن السياق الذي نحن فيه الان، سياق الكيزان وكتائب ظلهم ومافيات اجرامهم وفسادهم ومحاولة عودة حكمهم المشؤوم للسلطة ، هو سياق فاقد تماما لمؤهلات النصر سواء بالمعنى العسكري او السياسي، او الاخلاقي وهذا هو الاهم.
ليس في ايدينا كقوى كفاح سلمي وباحثين عن السلام والديمقراطية والعدالة في بلادنا شيئا نفعله إزاء هذه الحرب سوى العمل على ايقافها بأسرع ما تيسر ، والاداة الوحيدة التي في ايدينا لفعل ذلك هي حجب اي مشروعية سياسية او اخلاقية او وطنية عن الحرب ككل ، وتوصيفها بدقة لمنع التضليل الذي يستقطب لها مقاتلين جدد ويوسع دائرتها ، توصيفها كصراع سلطة عريان بين النظام البائد ومليشيا كانت عصاه التي يتوكأ عليها في مسيرة طغيانه ويهش بها على غنمه! اي علينا نحن الذين لم ير فينا ذلك النظام سوى أغنام يسوقها كرها واكراها بالعصا إلى حيث تكون مصالحه ، ولان العصا هنا ليست عصا موسى المباركة تمردت على صاحبها الذي هو من سلالة فرعون وتحولت إلى حية لا لتلقف اعداءه بل لتلتف حول عنقه وتلقف سلطانه!
ما دخلنا نحن كشعب سوداني في مسرح عبث كهذا حتى ندفع دماءنا ثمنا لاستمراره!
حاول مثقفون كثر ان ينسجوا للجيش حلة (بضم الحاء) يرتديها وهو يخوض هذه الحرب على أمل أن يخلص البلاد من الجنجويد، وحاول آخرون نسج حلة أخرى للدعم السريع محاولين تصوير معركته كدفاع عن الديمقراطية وفي الحالتين كانت الحلة هي ذات ما نسجه النساج لذلك الفرعون في أساطير الاولين وجعله يخرج إلى قومه عاريا وهو في كامل الخيلاء والعزة ولم يجهر احد بحقيقة عري الفرعون في ذلك الزمان سوى طفل صغير ! ذلك الطفل نحسبه ساكنا في اعماقنا على مر العصور، مهما كبرنا فذاك الطفل لن يكبر!