فتحنا أعيننا بعد استقلال بلادنا عن بريطانيا بسنوات قليلة. كنّا نردد في طابور الصباح – ونحن صبية في المدارس – نشيد العلم (السلام الجمهوري). تصدح حناجرنا البريئة : (نحن جند الله .. جند الوطن) ونختم بحماس: (هذه الأرض لنا)! وتمضي سنوات العمر، لنعرف ونحن على عتبة الشيخوخة أنّ وطننا ظل في حرب مع نفسه منذ العام 1955م – قبيل رفع العلم بشهور قلائل- حتى لحظة كتابة هذه السطور. ثمان وستون سنة لم تتوقف حيالها الحرب سوى عشر سنوات (إتفاقية أديس أبابا -1972-1982). أي إنّ هناك ثمانية وخمسين عاماً أمضاها جيش البلاد في حرب على مواطنيه. جيش لم يخض طيلة الثمانية والستين عاماً حرباً واحدة ضد عدو أجنبي. ليس لأن جيراننا مسالمين وليس لديهم مطامع في حدودنا كما هو شأن كل بلاد العالم. لكن لأنّ المؤسسة التي تولت بناء جيش البلاد ، بقيت أبعد ما تكون عن روح الوطن الواحد. لذا فإن الكلية الحربية عندنا تفرخ ضباطاً ليس في ثقافتهم العسكرية غير اثنتين: أولاهما حمل البندقية التي تقتل المواطن دون النظر لما يجهر به من مظالم (يسمونه متمرداً). والثانية: متى يحل دور هذا الضابط في الإنقلاب القادم والإستيلاء على السلطة؟
لذا فقد فاز السودان بالرقم القياسي في الإنقلابات العسكرية بين أمم أفريقيا. فكانت محصلة هذه الحروب والإنقلابات العسكرية ميلاد دولة فاشلة بكل ما تحمل الكلمة من معنى. فقد بقيت خوذات العسكر وغابت التنمية والإدارة الناجحة للدولة.
من الغريب أن يقوم البعض هذه الأيام بتقسيم الناس لصفين : الذين مع الحرب – مع ما تبقى من جيش بقيادة ضباط الأخوان المسلمين – أو أنك مع الدعم السريع – صنيعتهم التي انقلبت عليهم! وأنت إذن عميل ومرتزق!
فلنعد قليلاً إلى الوراء لنرى بعض ما قام به جيش السودان منذ إنشائه وما قدمه لدافع الضرائب الذي يدفع رواتب جنوده وضباطه ويدفع الملايين بالعملة الصعبة لجلب سلاحه. نقوم بجرد الحساب فالحساب ولد !!
لم تسأل حكومة المركز الوليدة بعد الإستقلال نفسها لماذا طالب مواطنو الجنوب بالإنصاف – حكم فيدرالي – تقديراً لخصوصية الجنوب الإثنية والثقافية ! حينها قامت حرب أنيانيا الأولى 1955م بتمرد كتيبة توريت ، والتي لم تتوقف إلا باتفاقية أديس أبابا 1972، لتنقلب عليها حكومة المركز العسكرية وتمزق الإتفاقية بعد عشر سنوات على إنجازها.. فتندلع الحرب في الجنوب من جديد، فتؤدي لفصله عند استيلاء الأخوان المسلمين على الحكم من على ظهر دبابة وتحويل الحرب الأهلية إلى حرب دينية جهادية في جنوب السودان.. والباقي تاريخ لا نحتاج لتكراره.
(في أول خطوة قام بها رئيس وزراء حكومة انتفاضة أكتوبر 1964 المنتخبة محمد أحمد محجوب أن أعطى إنذاراً لتمرد الجنوبيين مهلة أسبوعين ليخضعوا حيالها للسلطة المركزية في الخرطوم. ثم أمر الجيش بعدها بالتصرف بحزم ضد المتمردين ومناصريهم. وقد تم تنفيذ تلك الأوامر حرفياً: حيث قام الجيش السوداني بمجازر لم يسبق لها مثيل ضد المدنيين والمتعلمين على السواء في مدينتي واو وجوبا.” وفي ليلة 8 يوليو 1965 قام الجيش بإحراق 3000 (ثلاثة آلاف كوخ) في جوبا وقتل فوق الألف مواطن. وفي يوم 11 أغسطس 1965 قام الجيش بغارة على حفل زواج مشترك بمدينة واو في منزل السلطان ريان – أحد المشاركين في مؤتمر جوبا التاريخي عام 1947م. وتأتي أهمية ذلك الهجوم بأن الدعوة إلى حفل الزواج قد شملت نخبة من المتعلمين من أبناء الجنوب بالمدينة. وقد أفاد تقرير قاضي بالمحكمة العليا بالخرطوم فيما بعد أن هناك أدلة كثيرة على تورط الحكومة بصورة سافرة وغير إنسانية في الحادث.)- Mohammed Omer Basheer: Southern Sudan, Background to Conflict, p.27
وقد استمر عنف الجيش ومجازره في الجنوب بعد أن تولى الصادق المهدي رئاسة الوزراء خلفاً لمحمد احمد محجوب. حيث زار الصادق مدينة بور وهناك وقف على مقابر الجنود الذين ماتوا في الحرب ليذرف الدمع على قبر ملازم شاب. يقول د. منصور خالد في كتابه (الحكومة التي يستحقون The Government They Deserve) : ” ما إن غادر الصادق المدينة ، حتى بدأ الجيش الذي هزّته دموع رئيس الوزراء أمام قبر الضابط الشاب – حتى بدأ غاراته والتنكيل بزعماء الدينكا ومن بينهم 24 سلطاناً، كان البعض منهم في حراسة الشرطة.” وحين تناولت الصحيفة الوحيدة الحادث في السودان – وهي صحيفة “اليقظة The Vigilant ” التي يحررها آنذاك بونا ملوال، أمر رئيس الوزراء الصادق المهدي بمقاضاتها. (منصور خالد – نفس المصدر ، ص 231-232).