طلب قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان في كلمته أثناء زيارته لمصر أن يقيم الآخرون الحرب التي يخوضها في السودان تقييماً موضوعياً، ولا شك أنه أراد منهم أن يسموها “تمرداً” بالمعنى العسكري الحرفي للمصطلح كما سماها هو نفسه.
لن يجد البرهان هذه الموضوعية حتى من السودانيين ممن قالوا “لا للحرب” الذين يأخذون عليه، وعلى دولة الإنقاذ من قبله، أنهما جعلا “الدعم السريع” بقانونه في 2017 وتعديله في 2019 جيشاً ثانياً غير خاضع لقيادة القوات المسلحة حتى يصح إطلاق “تمرد” على حربه منذ الـ15 من أبريل (نيسان) الماضي.
في المقابل فقول “الدعم السريع” إن ما قامت به القوات المسلحة في التاريخ نفسه “انقلاب” قول مرسل، فمن غير المعقول أن تنقلب القوات المسلحة على وضع هي طرف أصيل فيه وبوسعها تغييره بغير حاجة إلى الحرب، غير أنه ربما اتفق مع صورة “الدعم السريع” للحرب جمهرة سودانية غفيرة ترى فيها تدبيراً فلولياً “حزب المؤتمر الوطني” انقلابياً للعودة للحكم فوق ما تبقى من ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018.
وتسمع في صفة الحرب الدائرة في السودان أنها ضد “مرتزقة” في عداد قوات “الدعم السريع” سار عليهم اسم “عرب الشتات” من دول الساحل الأفريقي مثل تشاد والنيجر وبوركينا فاسو.
ولا يرى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أنها حرب أهلية بعد، ولكنها قد تصبح كذلك بتواتر التصعيد العرقي، كما تسمع في الجانب التكتيكي منها أنها “حرب مدن”، وهذا وصف اقتصر على ميدانها، حيث يدور قتال في أحياء المدينة، ولكنه فارق تعريفها.
حرب المدن هي مقاومة أو ثورة تجد تعاطف طائفة من سكان المدينة يوفرون الغطاء لكادرها، وليس من أصولها طرد المدنيين من دورهم كما تفعل “الدعم السريع” ونهبها واحتلالها لأغراض قنص العدو، أو تحويلها لثكنات أو إدارات للاعتقال والتخزين، وبدا أننا في حاجة إلى تعريف للنزاع الدائر في السودان حيال ما رأينا من تضارب في تسمياتها.
ولنبدأ بالسؤال هل هي حرب في تعريف الحرب المتواضع عليه؟
هو تعريف حرص أكثر ما حرص على تمييز المقاتل عن المدني حداً ناظراً للحرب العالمية الأولى التي أربكت الخط الفاصل بينهما، فالحرب نزاع مسلح بين دول أو مجتمعات أو قوى شبه عسكرية من ثوار ومرتزقة وميليشيات، والمدني مصون من ويلاتها حتى تقع الحرب الموصوفة بالشاملة التي لا تقتصر على الأهداف العسكرية المأذون بها في الحرب، بل قد تكبد المدنيين غير المقاتلين خسائر فادحة.
فمن أبواب مثل هذه الحرب الشاملة فرض الحصار على مدن، أو سياسة الأرض المحروقة، أو العقوبة الجماعية على سكان يعتقد طرف ما في الحرب أنهم أعداء فيقلتهم ويهجرهم.
فهل ما يجري في السودان حرب؟
لم نتوقف عند خصائص نزاع السودان على ضوء تعريف الحرب قبل أن نسارع إلى وصفها بالحرب، فنتكلم عن طرفين فيها طالحين، حيث قال سفير الولايات المتحدة لدى الخرطوم جون غودفري أخيراً أنه ثبت أنهما غير صالحين لحكم السودان، وواضح أن الحرب التي يتكلم عنها هنا هي ما يرى أنها تدور في الخرطوم، ولكنه متى تحدث عن تلك التي تدور في دارفور تجاوز حتى وصفها بالحرب إلى القول إنها “جنوسايد” كامل الدسم، بل تدين أطراف في الإدارة الأميركية “الدعم السريع” لارتكابه تلك الجريمة، ولا يطرأ لهم مع ذلك الربط بين حرب الخرطوم ودارفور.
غض الطرف هذا مفهوم إلى حد كبير لأن قتال “الدعم السريع” لأهل دارفور والمساليت في الجنينة بشكل خاص، مما يعود إلى عقدين من الزمان بلغ أسماع العالم حتى المحكمة الجنائية الدولية، وأصبح في نظره جريمة حرب كاملة الدسم، أما حرب الخرطوم فحادث لا يزال لم يستوعب العالم بعد أنها ربما دارت ضد المدنيين بالقدر نفسه الذي دارت به ضد العسكريين. فاستباح “الدعم السريع” بيوت الناس ومقار الخدمات الطبية والتعليمية كأهداف عسكرية عادية.
ترويج “الدعم السريع” لبرامجه عن مشروعه المدني الديمقراطي لسودان ما بعد الحرب مجرد غطاء لعقيدة مستسرة في جنده وجدت من يعبر عنها بقوله إن البيوت في الخرطوم ليست لساكنيها الذين احتالوا عليها لتمكنهم من الحكم في سودان 56، أي الصفوات الشمالية التي حكمت البلاد منذ الاستقلال في 1956، فاحتلالهم لها عمل لا غضاضة منه فحسب، بل هو استرداد لمنهوبات وقعت لملاكها من موقع السلطة.
بل تجد من قال إن من ضمن إغراءات التحاقهم بـ”الدعم السريع” هو تغنيم قيادته لهم مال المدينة بأخذ ما تقع عليه يدهم عنوة، وما فرغ الدعامي (مجند الدعم السريع) من أخذ ما خف حمله أو قيادته وثقلت قيمته مثل الذهب والسيارات ترك الباب مفتوحاً، في مدينة تعطل فيها عمل الشرطة بالكلية، لعصابات ومواطنين عاديين لنهب الأثاثات والمعدات والأجهزة بأنواعها والملابس وغيرها.
تعرض هذه المنهوبات حالياً في أسواق باسم “سوق دقلو” على اسم أسرة قائد قوات “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو في كثير من ضواحي الخرطوم وشمال ولاية الجزيرة بحسب بتقارير صحافية منشورة في 22 أغسطس (آب) 2023، حيث قال صاحب محل أجهزة إلكترونية وكهربائية بسوقها المعروفة على شارع الحرية في وسط مدينة الخرطوم إن الدعامة أخلوا مخزنه ومعرضه من كل شيء، وجاء من وزارة الداخلية أنها تلقت بلاغات إلكترونية بفقد 15702 سيارة، كما قال وكيل شركة سيارت “تويوتا” أن “الدعم السريع” نهبت نحو ألف سيارة من معرضه.
يقال في الإنجليزية إن الكارثة ليست بلا منهج، وظهر فيديو لقادة “الدعم السريع” في مقدمته أحدهم يعرض برنامجهم لإقالة عثرة السودان بالمدنية والديمقراطية، أما في خلفه فترى قائداً آخر يتحدث بالهاتف، ولن يفهم المحادثة التي جرت بينه والطرف الآخر إلا مطلع على نظم “الهمبتة” في أصلها في البادية ثم الحضر لاحقاً، و”الهمبتة” عادة ما جرى تمثيلها بصعاليك العرب، ومن عادة أهلها (الهمباتة) نهب إبل الرجل واسع الرزق ثم مساومته من طريق وكيل معروف لدفع الفدية عنها لهم ليستردها.
وخضعت السيارات في المدن أخيراً لهذه “الهمبتة”، ومتى أرخيت أذنك للقائد في خلفية الفيديو سمعت مساومة تفصيلية مع وكيل ما لرد سيارات استولى عليها لأصحابها في مواضع بعينها لقاء مبلغ في عداد المليار بالجنيه السوداني.
ولا ينسى الناس لقائد “الدعم السريع” قوله بعد فض قواته لاعتصام ثوار ديسمبر 2018 حول القيادة العامة للقوات المسلحة في يونيو (حزيران) 2019 إنه لو لم يفرغ من ذلك الفض في ليلته واستمر لثلاث ليالٍ أخرى لخلت عمائر الخرطوم من أهلها لتسكنها القطط، وليس من صورة تتواتر على الوسائط لخرائب الخرطوم المفرغة من أهلها هذه الأيام لا يستعيد الناس فيها تلك “النبوءة” التي لم يمر أربعة أعوام وقد تنزلت حقيقة.
هل حدث أن وقع مثل هذا التجريد لمدينة من قبل لنحسن وصف ما وقع للخرطوم؟
نواصل
IbrahimA@missouri.edu