تشكل تفاعلات زيارة وفد (قوى الحرية والتغيير) السودانية الى الدوحة هذه الأيام حدثا مهما لا يمكن تجاهل دلالاته، وقد تزامنت مع ضجة وحملة اعلامية شرسة ضد هذه القوى المدنية ، عشية الزيارة وغداة لقائها رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني.
أولى رسائل الاجتماع الساخنة تقول إن قطر ساحة خضراء تحتضن بنات وأبناء السودان كافة ، ومن أي لون أو دين ،ومن دون تصنيف سياسي أو انتماء أيدولوجي ضيق الأفق .
تفاعلات الزيارة تعكس وعيا ، بدأ يتبلور داخل مكونات هذه القوى السياسية المدنية السودانية ، وفي أوساط الحكم في الدوحة ، بعدما سادت علاقات الدوحة والخرطوم حالة برود بعد نجاح الثورة الشعبية في السودان في العام ، 2019 .
انتقدت (قوى الحرية) مرات عدة في مقالات وفضائيات بعد الثورة الشعبية، لكن الحقيقة تقول أن هذه القوى المناضلة شاركت بقوة وقدمت تضحيات حتى انتصرت إرادة الشعب على الديكتاتورية في مراحل تاريخية متعاقبة ، ورغم هذا فهي ليست فوق مستوى النقد، وسأنتقدها متى ما رأيت ضرورة لذلك في اطار التحليل المهني للأحداث، لا الحقد والكراهية .
( قوى الحرية) وقوى أخرى سياسية سودانية ومهنية وحقوقية تؤمن بالنهج الديمقراطي ودولة المؤسسات والقانون، ليست نبتا شيطانيا ولا تجمعا انقلابيا ، ولا مجموعة سرقت أحلام الشعب ودبرت انقلابا أطاح نظاما ديمقراطيا في العام 1989 أو في العام 2021 ، وهي لم تفصل جنوب السودان ،ولا هي ممثلة لنظام نهب المال العام وقتل سودانيين وزجهم في المعتقلات والسجون وعذبهم وشردهم في بقاع الأرض وسرق أحلامهم وتطلعاتهم المشروعة، وهي ليست من شوه وتاجر بقيم الإسلام وتعاليمه السمحاء، التي تدعو للحرية والعدالة واحترام حقوق الانسان.
لكن هناك كثير من النقاط السلبية في أدوارها ،اذ تساهلت على سبيل المثال مع العسكريين في (المجلس العسكري) وفي (مجلس السيادة) ما ساهم في تنمرهم وانقضاضهم على ثورة الشعب السلمية .
أما حرص ( قوى الحرية ) الآن على لقاء مسؤولين قطريين في هذا التوقيت فانه يشكل خطوة إيجابية ، وهي اعتراف بثقل الدوحة وأدوارها الحيوية خليجيا ودوليا ، في إطار سعي جاد الى حشد جهود إقليمية ودولية للضغط على طرفي الحرب الحالية في السودان وهما قيادتا الجيش السوداني و(قوات الدعم السريع)، وطلب استمرار الدعم والعون الإنساني للسودانيين ضحايا الحرب ، ودعم منبر جدة للمفاوضات بشأن انهاء حرب المدن والشوارع .
خطوة ( قوى الحرية) قابلها حرص دولة قطر على استقبال الوفد بحفاوة واحترام ملحوظ ، لتعزيز التواصل مع قوى سياسية، تؤمن بالديمقراطية ولا يمكن شطبها من خارطة الفعل السوداني بانقلاب أو حرب أو مؤامرات أو حملات إعلامية.
هذا لا يلغي حق أي سودانية وسوداني في انتقاد كيفيات إدارتها للعمل السياسي، وفشلها في ضبط وانجاح أدوار حكومتيها ( حكومة دكتورعبد الله حمدوك الأولى والثانية) ويشمل ذلك العلاقات الخارجية.
في وقت مبكر دعوت في مقالات وفضائيات الحكومة الانتقالية في السودان، بعد نجاح الثورة الشعبية في العام 2019 إلى مد جسور التواصل مع قطر ، وشددت على أهمية التمسك بسياسة خارجية متوازنة، إذ كتبت مقالا في 29 فبراير 2020 بعنوان ( لماذا تتجاهلون الدوحة؟) .
دعوت الحكومة الانتقالية وهي حكومة (قوى الحرية) إلى ( تحقيق التوازن في علاقاتها مع السعودية والكويت وقطر والإمارات وسلطنة عمان والبحرين) وقلت ( افتحوا جسور التواصل مع الدوحة وعززوا جسور العلاقات مع السعودية والإمارات ) واختتمت المقال ( لماذا تتجاهلون الدوحة وتتجاهلون آلاف السودانيين هناك) .
في مقال بتاريخ 23 أغسطس 2020 دعوت حكومة قطر إلى (مراجعة سجل علاقاتها مع السودان ، للبناء على الإيجابي وتجاوز السلبيات التي شهدتها الفترة الماضية( من 1989 إلى 2019) ، وهي فترة حكم انقلابي قادته (الجبهة القومية الإسلامية) أو (الحركة الإسلامية) أو ( الكيزان ) كما يصفهم السودانيون ويقصدون ( الإخوان المسلمين).
في المقال دعوت الحكومة الانتقالية و ( قوى الحرية) إلى أن( تدرك أن مصلحة شعب السودان تكمن في إعادة بناء العلاقات استنادا إلى المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل وبناء علاقات متوازنة مع دول الخليج والعالم ويشمل ذلك قطر.
حضًيت الجانبين السوداني والقطري الى التقاط الفرصة الذهبية التي أتاحتها أزمة ( كورونا) ليعيدا جسور جديدة لعلاقات دبلوماسية وسياسية واقتصادية واجتماعية وإعلامية وثقافية ورياضية وقلت إن هناك ( إرثا ضخما من المحبة والاحترام بين الشعبين القطري والسوداني ، وقد لعب أبناء السودان ، من الجنسين، أدوارا ريادية في هذا الشأن).
انتقدت في المقال عدم موافقة ( المجلس العسكري) الذي تشكل بعد نجاح الثورة السودانية على أن تحط طائرة كانت تقل وزير الخارجية القطري ( رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري حاليا) الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني في مطار الخرطوم ، فالرجل سعى بقرار الأمير الشيخ تميم بن حمد وبروح طيبة إلى فتح صفحة علاقات جديدة مع السودان بعد الثورة الشعبية التي أطاحت حكم الرئيس المخلوع بثورة الشعب عمر البشير.
أشرت في مقال بتاريخ 25 مايو 2020 إلى موضوع الطائرة ، وكان بعنوان ( رسالتي إلى حميدتي والدوحة ودول خليجية وقوى الحرية والحكومة) وكتبت ( يجب على حكومتنا أن تعتذر في تواصلها مع الدوحة لحكومة قطر بشأن منع دخول طائرة وزير الخارجية القطري ) ورأيت ان ( قرار المنع أيا كانت الأسباب خاطئ ويفتقر إلى النضج السياسي ).
مسارات الأحداث وتطوراتها أكدت صواب رأيي وصدقية تحليلي لمسارات العلاقة القطرية السودانية، استنادا إلى معرفتي بتفاصيل عن مسارات العلاقة بين حكومة قطر والنظام السوداني في تلك الفترة من موقع الصحافي المتابع للأحداث ميدانيا، ومن مصادر متطابقة، وموثوق فيها.
ورغم برود العلاقات بين الجانبين السوداني والقطري بعد اسقاط النظام الديكتاتوري، فان تطورات الأحداث عكست حيوية دور الدوحة ، إذ لم تقف مكتوفة الأيادي حينما احتاج السودانيون إلى العون الإنساني، وجاء مقالي في 12 سبتمبر 2020 بعنوان (سالمة يا سودان ..قصة عناق بطلها تميم) ليؤكد قناعتي بأن سياسة قطر منفتحة على التعامل مع المستجدات السودانية ، وخصوصا أنها أعلنت احترام إرادة وتطلعات السودانيين نحو الحرية والعدالة والعيش الكريم.
قطر مدركة لأهمية تعزيز جسور التواصل مع السودانيين باختلاف رؤاهم ، وأن السودان لوحة تشكيلية تعددية ، ويبدو هذا أكثر وضوحا في سياسة الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني .
في هذا الإطار فان موقف رئيس الوزراء وزير الخارجية الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني تجاه السودان جدير بالتقدير والاحترام منذ سنوات، وهو شاب أثبت حيوية أدواره وفاعليته وقدراته اللافتة بإدارة الشؤون الدبلوماسية والسياسية في مواجهة تحديات صعبة شهدتها قطر ومنطقة الخليج والعالم خلال سنوات مضت وفي هذه المرحلة .
الشيخ محمد نجح خلال فترة قصيرة نجاحا باهرا وملموسا، إقليميا ودوليا، و يتسم أداؤه بالرصانة والوقار في أصعب المحكات ، ويُحسب هذا لقيادة تميم، الذي يتميز بالرصانة والخطاب السياسي العصري في أصعب الظروف أيضا، وكنت أشرت في مقالات إلى تميز لغة ومضمون خطابه السياسي .
(قوى الحرية ) التي زارت الدوحة تستحق التحية على وعيها بأهمية قطر ، والمأمول أن يستفيد الجانبان القطري والسوداني من دروس العلاقة الإيجابية والسلبية .. تحقيقا للمصالح المشتركة مستقبلا في سودان سينتصر بعون الله وارادة شعبه على تحديات الحرب ،ليعيد بناء وطن يليق بوعي السودانيين وخصوصا شبابه من الجنسين و(الكنداكات ) .
أما أعداء القوى السياسية السودانية المدنية الديمقراطية بشكل عام ، وهم أعداء لقوى ( الحرية والتغيير) ففي تعليقات بعضهم تفوح رائحة الكراهية والحقد والدس الرخيص، وليس منطق التحليل الرصين، والمنصف.
بعضهم لعب وضرب على وتر الخلافات الحادة بين السعودية وقطر، وقطر والإمارات ، و مصر وقطر على سبيل المثال في السنوات الماضية، وقد لعب نظام البشير وسعى – كما قلت في مقال قبل سقوط حكمه – للأكل من كل الموائد الخليجية في وقت واحد.
على هؤلاء أن يدركوا أن تلك المرحلة السيئة في تاريخ العلاقات بين قطر وبعض الدول قد طويت بإرادة قادتها ، تحقيقا لمصالح شعوبها، واحتراما لحقائق التاريخ والجغرافيا ، وأن يدركوا أن السلطات القطرية تعي ما يدور في السودان وما تروج له نفوس الأشرار وأن مناخ الدوحة الدافئ يحتضن بنات وأبناء السودان، بتعدد رؤاهم، وأن القطريين الساعين لبناء دولة مؤسسات عصرية لن يرهنوا حاضر ومستقبل علاقاتهم ومصالحهم مع دول الاقليم و العالم الكبرى لأي تيار سياسي ، أو رغبات أشخاص، خصوصا من يزرعون بذور الكراهية والحقد والعنصرية والتطرف السياسي و الديني والاعلامي.
لندن 3 سبتمبر 2023
modalmakki@hotmail.com