يظن البعض من الذين يظهرون على شاشات الفضائيات بأنهم قد بلغوا منتهى المُرام بذلك الظهور… وأن تكراراه من حين لآخر شهادة “شطارة وفصاحة” ما جادت الطبيعة بها لغيرهم. فبتلك المظنة يغفل أهل الظهور عن بديهة بسيطة وهي أن جمهور المشاهدين والمتابعين لهم من الفطنة والحكمة ما يستطيعون به أن يميزوا غث القول من سمينه.. وأن الظهور في وسائل الإعلام لا يخضع في الغالب لمعايير دقيقة من ضرورة الالتزام بالموضوعية وتحري منطقها مهما كان طبيعة الموضوع. فشبكة العلاقات الشخصية الخاصة قد تجعل من زيد أو عبيد نجم ظهور من على منابر القنوات الفضائية.. أو أن مجرد خلع لقب على الذات قد يؤهل أحدهم ليطل من على تلك المنابر فيغتصب اذن السامعين إغتصاباً لا يمكن أن تُرمم بعده..غير أن جمهور المشاهدين لديهم حساسية خاصة تجاه كلما يُطرح أمامهم وَفَق تقديرهم لمستوى الطرح من أهل الظهور الاعلامي عميقاً كان أم سطحياً. أصيلاً كان أم جزافياً.. خاصة وسط السودانيين فهم فوق أنهم أهل بصائر حادة تمكنهم من قيم الغث والسمين. وهنا تكفي المرء إشارة لؤلئك الذين ظلوا يظهرون على شاشات الفضائيات بوصفهم “خبراء استراتيجيين” حيث صاروا في فترة وجيزة محل للتهكم والاستخفاف والتندر والسخرية الكاريكاتيرية.
دأبت ومنذ فترة قناة الجزيرة على استضافه الصحفي الأستاذ خالد الإعيسر والذي كثيراً ما يثير قضايا يجد المرء نفسه متفق مع بعضها ومختلف مع جزء آخر منها… بيد أنه أخذ يعطي لظهوره صفة “المخلِص” من فصيل سياسي بعينه.. فقد تمت استضافته بتاريخ 31 أغسطس 2023م في مقابلة قصيرة مع ضيف آخر.. فأخذ الإعيسر نفسه بطريقة تبدو مشتقة من أصل إسمه تُعسِر عليه الطريق على توصيل ما يروم أن يوصله وتُشق الفهم على المتابعين… حيث تم قُبيل لقائه استضافة الأستاذ بابكر فيصل ممثلاً لقوى الحرية والتغيير… حيث أدلى الأخير بكل ما يريد أن يقوله حول رؤية تحالفه لمجمل ما يجري في السودان. وغادر الشاشة تاركاً الحكم للمتابع أن يتفق أو يختلف معه.. غير أن الاعيسر أخذ يشير للقاء بابكر بصورة اضطرت معها المذيعة للتدخل مذكرة إياه بأن الضيف السابق قد غادر ولم يعد على المنبر بحيث احرجته حرجاً بالغاً حتى أُضطر هو الآخر للقول :(جميل أن توضيحك وصلني) فإن لم يكن دافع الإعيسر هو الاندفاع وعدم التروي والتفكير في القول لما أُضطرت المذيعة أن توقفه، ولما أُضطر هو بالقول أن التوضيح وصله..
فإذا كانت القنوات تأخذ من يظهرون على منابرها بالسقطات مثل هذي، لما سنحت له الفرصة بالظهور مجددا.. وقد يبدو أن الإعيسر تحركه أغراض شخصية تجبره جبرا على التعليق على أشياء تجعله مع العُسر عصياً على الفهم. فيخلط الأمور بين السؤال المطروح وموقف الحرية والتغيير وما يريده هو شخصيا بل ويتجرأ ليحدد ما هو المنطلق المنهجي من غير المنهجي… ثم يذهب للتأكيد دونما حاجة بقوله (أنا لست إسلاميا وإنما أدافع عن حقائق) فما هي يا تُرى تلك الحقائق التي يدافع عنها الإعيسر… هذا ما سيوضحه بنفسه بعد قليل من خلال اللقاء.. غير أن تأكيد أو عدم تأكيد الهوية الايدولوجية لم يكن مطلوب منه. فالمذيعة لم تطالبه به ولا سياق الحديث في اللقاء كان يقتضي ذلك. ثم بعد برهة قليلة يذهب ليطالب الحرية والتغيير لتخرج بيان بعد تصريح البرهان بأنه يريد أن يخرج من الحياة السياسية كمؤسسة عسكرية بالقول: (يجب على الحرية والتغيير اصدار بيان مقتضب قصير يبدأ من بسم الله الرحمن الرحيم إن كانوا يكتبونها أو لا) هنا واضح أن الإعيسر قد تملكته حالة من الرضا بالظهور الإعلامي يصل مستوى الغرور وشئ من النزق عادة ما تعتري أهل الهوس الديني من الاسلاميين جعلته يتحدث بلغة تجريم مبطنة في سياق الحديث أقحم فيها البسملة بغير مبرر.. هنا إن كان قد صنف نفسه عدو لقوى الحرية والتغيير فذلك شأنه وقناعاته، وهو حر فيها ولا تثريب عليه، أما كأن يلجأ لمناورات أركان النقاش ليعطي المتابع انطباعاً أن الحرية والتغيير لا تهتم بكتابة البسلمة فذلك شأن لا يفيد أطروحته التي كان يريد أن يوصلها وتقصيه خارج نطاق الموضوعية .. عموماً ومهما يكن من أمر، فقد أكد أنه يدافع عن الحقائق وذكر ما نصه بالقول:(عندما كان المعتصمون يُضربون أمام القيادة العامة كان يدافع عنهم الجيش السوداني) هذا الحديث لا يمكن أن يصدر عن شخص يدعي أنه تابع مجريات الاعتصام أمام مقر الجيش. ففي الواقع لم يتم ضرب المعتصمين، وإنما تم ذبحتهم بأشبع صورة أمام أعين الجيش الذي لم يحرك ساكنا في الدفاع عنهم. بل الكل يتذكر كيف أُوصِدت بوابات القيادة العامة في وجه المعتصمين حين نزلت بهم المقتلة التي قادها الدعم السربع (الجنجويد) بتحالف غير خفي مع الجيش.. وهذا ما تؤكده شواهد عديدة أهمها مقولة ” وحدث ما حدث” . وذلك موقف ومهما تقاربت المواقف مع الجيش في الحرب الراهنة، يظل عليه كمؤسسة أن يتحمل المسؤولية في المشاركة في سفك دماء أؤلئك الشباب العُزل وأن ينتصر لهم من قياداته الحالية.
فإذا صدّق المشاهدون الإعيسر بأنه ليس إسلاميا – وليس في ذلك عيب بالطبع حتى يُنكر على الملأ- فهل يمكن أن يصدقوه بأنه يدافع عن حقائق؟!
د. محمد عبد الحميد