هذه الغربة التي أورثتنا القلق، وجعلت بيننا وبين النوم جفاء، زادت من تعبنا ورهقنا، لأنه لا أصعب على الإنسان من أن يكون على تواصل مع آخرين كثر في كل الأوقات، وذلك أنّ كمية الأخبار المحزنة والمحبطة التي ترد من هنا وهناك أضعاف تلك التي تدخل شيئًا من السرور إلى النفس. قلقت بعد الفجر، وبحركة لا إرادية امتدّت يدي إلى الجوال، الذي عندما لامسته جاءني شعور بأنه سيحمل لي نبأً غير سار، مما جعلني أتردد، فأعدته إلى مكانه مرة أخرى، وحاولت معاودة النوم، لكن بلا فائدة، فحاولت التشاغل وعدم ممارسة ذلك المسح السريع الذي أقوم به لوسائل التواصل، مع أن أمسك ذلك اللعين، الذي في قربه وبعده كل العذاب. بعد مغالبة وبسرعة خاطفة ضغطت على الزر، فانفتح العالم أمامي، وبين الصحو والغفوة وقعت عيناي على كلمة واحدة في قروب الصحفيين بالواتساب “مفجع”. لا حول ولا قوة إلا بالله، بالتأكيد لم يكن الأمر كذلك، فقد قرأت الخبر كاملاً بمسح سريع، ولكنني أريد تكذيبه. “خبر مفجع وفاة الزميلة حليمة عبدالرحمن”، هذا هو الخبر الذي أردت تكذيبه مع أنني رأيته رأي العين، وكان متوقعًا، لأن حليمة العزيزة كانت تتعذب منذ زمن بعيد، ولكن ألا تكون في هذا الفضاء أمر يصعب تصديقه لمن عرفها. حليمة التي إذ اتصلت عليها لتسأل عن أخبارها، تأخذك بعيدًا بحكاويها الجميلة المفعمة بالسخرية، وبالفهم العميق للحياة، حتى لا تعكر الجو، وتخرب المزاج. قد تكون المبادر بالاتصال لتسأل عن حالها، ولكنها تفرض أجندتها.. تسأل عن ذلك العوير، لماذا فعل هذا؟ ولماذا كان ذلك قراره، طبعًا هذا العوير لن يكون صديق مشترك بينكما، ولكنه مسؤول، والمسألة التي ترمي إليه حليمة وطنية، تحتاج إلى محاضرة أو ندوة لاستيعابها، ولكنها تأتيك محملة بالمعلومة والتحليل معًا، لتعرف الساس والراس. لم تكن تعطي لنفسها الفرصة لتفكر في مرضها، فقد كان وجع الوطن أهم وأولى.. ما هذه الطاقة الجبارة أم خالد، وما هذه العزيمة، فأنتِ كنت مثالاً لظلم أولئك الذين غلّبوا أهل الثقة على أهل العلم والخبرة، فتركوك تغالبين الظروف بينما العاطلون عن العلم والفهم ينعمون بخيرات البلد، ومع ذلك كنت تتحدثين عن المرارات باستمتاع من يعرف كيف تصير الأمور عندما توكل إلى من لا يستحق. كنت تستعدين لجولات الكيماوي وتتحدثين عنها كما لو كانت معركة بسيطة واثقة من أنك ستنتصرين، وهذا ما كان يعطينا الإحساس بأن القاضية قادمة بإذن الله، ثم بعزيمتك الجبارة الملهمة. كل شيء فيك يا أم خالد كان جميلاً حتى خصامك – الذي قلَّ أن يحدث – كان يأتي مغلفًا في سلوفان، فلا تجريح، ولا صرة وجه، وإنما كلمات رقيقة محملة بالمودة، والعشم. سنفتقدك جلستكِ وسطنا، وعندما نطالبك بالذهاب إلى حيث الحريم، تقولين بطريقتك الساخرة: “بري” عمري ما حسبت نفسي معاهم، لتأخذيننا إلى الجبل، وما كنت تقومين به من أعمال الرجال. سيذكر لك بورداب الرياض أنك تناولتِ أخطر موضوع يشغل العالم اليوم “المثلية”، ووضعت لبوستك عنوان “لوطنة العالم”، كان عنوانًا مثيرًا يدل على احترافيتكِ ومهنيتكِ العالية، وقراءتك للمستقبل، ومع أن هناك من حاول الاستظراف، والبعد بالحوار عن مقصدك، إلا أنك كنت تلقمين كل من يحيد عن المسار الذي حددتيه حجرًا بحزم وأدب معًا. حقيقة سيفتقدكِ كل من قرب منك، أو عرفك عبر وسائل التواصل، فما زال أهل قريتي “عمارة” يتذكرون إسهاماتك الثرة في منتداهم، عندما كانت المنتديات تتسيد الموقف. جئنا لنطمئن عليك مجموعة من الصالحية والصحفيين والملتقى، وعندما علمت بمرض البروفيسور عزالدين عمر موسى طلبت أن تأتي معنا لمعاودته، فكان ذلك الحوار الذكي بينكما، وأنتما على طرفي نقيض، جامعًا بين الحدة واللطف، وحياء الصغير وأدبه في حضرة الكبير، مهما اختلف معه. كان ذكاؤك الاجتماعي مفتاح شخصيتك، وسودانيتك العالية عنوانك، الذي يجذب الجميع لتميز المفردة، وسرعة البديهة، والأريحية المفرطة. رحمك الله أختي العزيزة، وجعل الله مرضك كفارة، وأثاب رفيق الرحلة الأخ العزيز مصدق الصاوي عن تلك المعاناة الشديدة، التي كانت تهون عليه، لأنها من أجل يهوى أن تواصل معه درب الحياة، ولكنها إرادة الله، وقضاؤه، فلا راد لقضائه. الحمد لله أن يكون لكما خلف صالح سيجعل حتمًا ذكركما في الدنيا عطرًا كما تركتيه، وسيصلون بإذن الله بروح أمهم الملهمة، وعزيمة أبيهم وإيمانه إلى أعلى المراتب، وسيكون زمانهم بإذن لأهل العلم والخبرة كما ظللت تتمنين. أحر تعازي لكل الأهل والزملاء مني ومن الزملاء في جمعية الصحفيين السودانيين بالسعودية التي قامت بجهد أمثالكِ من الشرفاء، والتعازي لكل من ساقته أقداره الطيبة ليعرفك أم خالد “السودانية كاملة الدسم”. رحمك الله رحمة واسعة.