من أين أبدأ ياحلوم .. ففي كل موقف معك قصة . من أين أبدأ ، وما أقول وقد ذرفت الأسافير الدموع، وأمتلأت وسائط التواصل بكلمات المفجوعين برحيلك، هل اتحدث عن شخصيتك ذات الحضور الآسر أينما حللت تتركين بصمة بحكاية أو نكتة ، هل أشير إلى خصالك ” التي كنت أظنها في المبتدأ زائدة حبتين في الشدة والقسوة” ولكن مع تعرفي عليك من زوايا عديدة اتضحت طبائعك التي أظن أني فهمتها، ولزيادة فهمي كانت توقعاتي لما ستقدمين عليه لا تخيب . هل أذكر قدرات العقلية والفكرية والصحفية، ومهنيتك، وصلابة مواقفك، وشجاعتك في الدفاع الموقف الذي تثقين في أحقيته بالدفاع . ربما تعرفت على حليمة متأخراً ، بعد ما ملآت الساحات في السودان جدلاً مهنياً، وشاركت في بحوث ميدانية نوعية عن المرأة، وطافت بالسوان طوافاً علمياً متقصية أحوال المرأة في الريف، وراصدة لتباينات العادات حول مسائل حساسة جداً ، وزارت سجون النساء وتعرفت أوضاعهن والمشاكل التي تضعهن خلف الأسوار. تعرفت على حليمة عندما اغتربت ولحقت بعديد من الصحفيين في السعودية. ولكن على الرغم من التعرف المتأخر نسبياً، إلا انني اعتقد أن معرفتي بها تعمقت ، لأننا عملنا في موقع واحد ( برنامج الخليج العربي للتنمية ” أجفند”) ، حيث عملت هي مديرة تحرير لموقع الأمير طلال بن عبد العزيز، وكنت أنا في إدارة الإعلام.. وخلال فترات كنا في مكتب واحد ( مصاقرين بعض طول اليوم ). الزمالة الطويلة في العمل كشفت لي خصال حليمة بدون تزويق . فهي دائما على سجيتها، ولا تتعبك إذا أردت أن تستجلي رأيها ، لا توارب ، ولا تداري ، بل تديك من الآخر، وغالباً لا تميل لأنصاف الحلول ، تسجل موقفها بوضوح.
وتعرفت على حليمة أكثر خلال العمل معاً في نشاطات جمعية الصحفيين السودانيين، وقد تولت هي إدارة موقع الجمعية الإليكتروني وتغذيته وتحديثه بالمواد الصحفية المواكبة. فقد كانت محبة لمهنتها، وعينها على الإبداع والابتكار. لا غرابة في أن حليمة واجهت المرض اللعين بشجاعة نادرة، وهذه الشجاعة هي امتداد لأسلوب حياتها في الصمود وعدم الاستسلام للظروف ، فعلى سبيل المثال أعرف أنها صممت على حضور دورات صحفية في أمريكا وجنوب أفريقيا، وفعلاً ذهبت وشاركت وأحرزت نتائج متقدمة، رتبت سفرها للجهتين رغم الظروف القاسية التي أعرف أنها مرت بها. لم تستسلم ، وعندما عادت لم تشكُ ولم تتبرم ، ولكنها بروح السخرية التي تميزها حكت عن المواقف والمطبات التي وقعت فيها جراء الظروف التي أحاطت بمشاركاتها. فحليمة ساخرة جداً، وتسخر من نفسها وتبالي. الشجاعة التي لم تفارقها حتى قبيل ساعات من مواراتها الثرى في بلبيس بمحافظة الشرقية في مصر ، هي ديدن حليمة في أدائها المهني، وتخيرها القضايا التي تتصدى لها. أذكر ، وربما كثير من رواد سودانيزأونلاين ، في عصرها الذهبي، يذكرون أن حليمة نشرت مقالة جريئة جداً، استغربها كثيرون، وسبقت بها الأقلام، بل المراكز التي تتناول ذات القضية اليوم. حليمة كتبت عن ” المثلية” ، قبل أن تصبح ” سيداو” حديث العالم. واختارت لمقالتها الطويلة عنواناً صادماً ينم عن الشجاعة في كشف المستور، فقد عنونت المقالة بـ ” لوطنة العالم “. عرضتها علي وضحكنا سوياً . أثارت المقالة ساحة سودانيز أنلاين وأحدث أصداء، وعدها كثيرون تناولاً خارجاً عن المألوف، واستهجنها آخرون . قالت لي إن بعض معارفها عاتبوها ، وأخوها هاتفها ، وسألها : “حليمة انتي جنيتي “. ما كان مثار دهشة واستغراب بات حديثاً عادياً، وبعض الدول تطالب بتقنينه وشرعنته. ومن نماذج شجاعة حليمة في مهنتها ، وإصرار على البحث عن غير المطروق من القضايا، القصة الصحفية الطويلة التي حكت فيها ” تزوير امتحانات الخارجية السودانية” ، وبالواضح كشفت كيف أنهم قلبوا النتائج رأساً على عقب، وأخرجوها ، قالت ” شاتوها” وهي الجديرة بالبريمو. وهذه القصة نشرتها في ” الراكوبة” ، التي ظلت فيها لفترة طويلة كاتبة مقالة راتبة. ومن شجاعتها، وقوة إيمانها ، لم تنصدم حليمة عندما أعلمها الأطباء حقيقة مرضها. تابعت جميع الفحوصات الابتدائية في السودان، وهي مدركة للتفاصيل، حيث بحثت في أدبيات مختلف المراكز الطبية المتخصصة في المرض اللعين. وأذكر قبيل سفرها إلى القاهرة بيوم قمنا بزيارتها سوياً، الدكتورعبد الرحمن الأمين ، وإسماعيل محمد علي ، وصديق الشم، وشخصي. كانت أمسية “موردابية” وحليمة هي حليمة لم تشعرنا أبداً أنها ذاهبة في رحلة علاجية محفوفة بالمخاطر .. بل لم تتطرق لموضوع الرحلة. وفي القاهرة رزتها كثيراً في حلمية الزيتون ، قبل أن ترحل إلى الفيصل في الجيزة. كلما زرناها نجدها وسط الأسرة ممسكة بخيط السخرية والبحبحة والحبور ، كأن الألم الذي بين ضلوعها لا يعنيها. رغم العبء الثقيل كانت تناقش الأطباء مناقشة الطبيب المتخصص، وعندما تسألها عن مسار العلاج تشرح مختلف المراحل شرح العارف، بل تحكي التطورات المحتملة ومقدار المخاطر. هكذا كانت حليمة قوية صابرة. آخر تواصل معها كان قبل أمس ، يوم الثلاثاء 5 سبتمبر 2023 ، قبل رحيلها بيوم واحد. عندما تحدثت شعرت أنها تتحامل وتضغط على نفسها. ولكنها دردشت معي وضحكنا. قالت لي يافيصل الكليتين خلاص وقفوا . قلت لها ، هنالك حاجة اسمها الغسيل التنشيطي يعيد الكلية للعمل . قالت لا لا ، أنا أعرف كل شيء. وشرحت لي مستوى الكرياتين ، وأن وضعها غير طبيعي .. اختصرت المحادثة لأعود إليها غداً ، لأنها كانت على موعد مع الغسيل الكلوي. وعندما جاء ” الغد ” باغت الخبر فجراً كل أصدقاء حليمة ومحبيها. تعرفت على أسرة حليمة .. زوجها الحبوب الودود ، مصدق الصاوي، مهندس المعدات الطبية، الرجل الرزين، والابن خالد ، خريج الصحافة من ماليزيا، الذي يعمل حالياً في صحيفة إنجليزية في الدوحة، والابن مصطفى الذي يعمل بالسعودية، والابنة رويدة، وهي آخر العنقود. وتقديري أن رويداً هي الأكثر شبها بحليمة ( خصالها، وشخصيتها ، وعدم الميل للمجاملة).
يحضرني كنا ذات مرة في المكتب لإنهاء بعض الأعمال، أيام كانت العطلة الأسبوعية الخميس، جاءت حليمة ومعها الصغيرة رويدا ، وبينما هي تلعب ونحن ننكب على العمل وحليمة تشير إلى بعض النقاط على شاشة الكمبيوتر ، قلت لها : يا ولية مش كدة . سريعاً رويدا انتبهت وتركت ما منشغلة به، وقالت هوووي .. ما تقول ليها يا ولية ، هي حليمة.. متنا من الضحك . وقلت لها دي طالعة عليك بالضبط. قالت صحيح. وإلى الآن كلما زرتهم كنت أسأل رويدا : تذكري يوم قلت لي هووووي .. وتقول: يوم ما نسيته. رحم الله حليمة ، وحفظ الله أسرتها وأعانها على فقد هذه السيدة الجسورة.