إن الخيار الوحيد الصحيح اخلاقيا والممكن واقعيا بالنسبة لكل القوى السياسية المدنية المنحازة للسلام والتحول الديمقراطي في السودان هو توحيد وتنظيم صفوفها واعادة بناء نفسها كمركز مستقل للفاعلية السياسية عبر الاستثمار في رأسمالها الخاص ممثلا في الصلة العضوية بالشعب وبناء المؤسسات السياسية والاعلامية والمالية الناجحة والمؤثرة بعمق في المجتمع، لو حققت ذلك فإن تعاملها مع المؤسسات العسكرية المهيمنة على البلاد بحكم الأمر الواقع سيكون منطلقا من منصة مدنية صلبة قادرة على الدفاع عن أجندة السلام والتحول الديمقراطي وبناء الدولة المدنية الديمقراطية استنادا إلى أدوات ضغطها ومصادر قوتها الشعبية، وهذا لن يتحقق الا اذا أدركت جميع التيارات المدنية ان اختلافاتها الفكرية والسياسية فيما بينها ، في هذا الظرف التاريخي العصيب، هي اختلافات ثانوية، وان اختلافها الاستراتيجي الجوهري مع القوى العسكرية التي تراهن على حكم البلاد بالقوة الغاشمة وفي سبيل ذلك اشعلت حربا ضارية حولت حياة الشعب إلى جحيم.
المدنيون الديمقراطيون الأصلاء، حداة السلام والتنمية والديمقراطية يستحيل ان يتورطوا في الاصطفاف خلف طرف في هذه الحرب سواء الجيش وكتائب الكيزان او الدعم السريع.
هناك مسافة فاصلة ثابتة على المستوى الاستراتيجي تفصل بين القوى المدنية الديمقراطية والقوى العسكرية المتحاربة ، وهناك مسافة متغيرة على المستوى التكتيكي محكومة بمدى استعداد اي طرف في المكون العسكري لمبدأ الحل السياسي التفاوضي ولنوع التنازلات التي يمكن أن يقدمها في سياق الاستيفاء التدريجي لشروط الدولة المدنية الديمقراطية، اما من يمدون ألسنتهم ساخرين من فكرة قبول التسويات مع سلطة الأمر الواقع ممثلة في هذه الجيوش الجرارة وما يرتبط بها من مصالح ومؤسسات، ويراهنون على ” التغيير الجذري” الذي يستأصل المؤسسات العسكرية القائمة ويزيل انقاضها ثم يشيد البناء الجديد ، هؤلاء لو كانوا جادين في طرحهم ولو كانوا يحترمون عقول الشعب، كان الواجب يحتم عليهم ان ينظموا جيشهم الثوري الخاص الذي يجب أن يكون من القوة والتأهيل الفني والعدة والعتاد بالقدر الذي يجعله قادرا من الناحية العملية على هزيمة الجيش والدعم السريع وكتائب الظل مجتمعين وإقامة البديل الجذري الجديد بقوة الجيش الثوري.
لكن السادة الجذريين في السودان لم يفعلوا ذلك! ماذا فعلوا؟ اصطفوا خلف الجيش الذي كانوا يخوِّنون القوى المدنية التي قبلت بالشراكة معه ويتهمونها ببيع دماء الشهداء ، واصطفوا في خندق واحد مع كتائب ظل الكيزان! وقد كانوا يشتمون القوى المدنية بأنها هادنتهم وخذلت الثوار بقبولها التفاوض مع بقاياهم ممثلة في المجلس العسكري! الآن هم يقاتلون معهم صفا واحدا!
والسؤال المنطقي هنا ما الذي كان يرغب “الجذريون” في تغييره جذريا؟ هل هو نظام الكيزان الذي كان حاكما قبل الثورة، وما تبقى من مؤسساته الامنية والعسكرية ومناطق نفوذه في القضاء والاقتصاد والخدمة المدنية بعد الثورة؟ لو كانت الإجابة بنعم ، يستحيل ان يكون الطريق الى التغيير الجذري في هذا الاتجاه يمر من خنادق علي كرتي واحمد هارون والبرهان والكباشي، لأن الحرب الدائرة حاليا ليست بين جيش السودان وجيش غازي من خارج حدود الوطن حتى تكون هناك مشروعية في مطالبة جميع السودانيين بتناسي خلافاتهم والقتال الى جانب جيشهم مهما كان رأيهم فيه، هذه الحرب هي صراع سلطة بين أبناء الوطن الواحد الذين ابتلاهم الكيزان بمصيبة تعدد الجيوش!
فمن يصطف خلف أي طرف فقد حدد موقعه من صراع السلطة الدائر، فالجذريون الذين اختاروا القتال في صفوف الجيش وكتائب الكيزان هم عمليا في خندق الثورة المضادة ، فلو انتصر الجيش والكيزان في الحرب فإن مصير هؤلاء سوف يتحدد تبعا لحقيقة جذريتهم المزعومة! بمعنى أنهم لو كانوا جذريين حقا في موقفهم من نظام الكيزان الذي اندلعت الثورة ضده، فإن مصيرهم سيكون مثل مصير حزب تودا (الحزب الشيوعي الإيراني) الذي تمت إبادته بعد نجاح الثورة الإيرانية، فالعقل الأصولي المهووس لا يفهم معنى الشراكة الوطنية ولا يقيم للأوطان وزنا لأن الوطن الحقيقي الذي يعرفونه هو الآيدولوجيا .
أما إذا كانت جذريتهم زائفة ومصنوعة على اعين الأجهزة الأمنية بهدف ضرب وحدة القوى المدنية الديمقراطية فسوف ينالون حظهم في الغنائم كشهود زور في التاريخ الوطني.
وعموما حتى لو تفهمنا – الى حد ما – موقف الجذري الذي اختار القتال بالسلاح او بالرأي في خندق الجيش والكيزان فمن الصعب جدا بل من المستحيل ان نتفهم ان يتماهى خطاب هذا الجذري الهمام تجاه القوى المدنية التي يختلف معها في الرأي مع خطاب الكيزان وكتائب الظل! فيختزل من تحدث عن دور الكيزان في اشعال الحرب في انه مصاب في صحته العقلية والنفسية وتسيطر عليه الكيزانوفوبيا!! ويختزل من تناول قضية الحرب في تعقيداتها الواقعية بعيدا عن التبسيط وثنائيات البطل والخائن في انه مناصر للمليشيا او عميل لها!
هذا أمر عجيب ومريب حقا!!
كسودانيين علينا ان لا ننسى ان الذي نزع طمأنينتنا وشردنا ومزق اجسادنا بالدانات والقذائف، وطردنا من بيوتنا مهانين صاغرين ونهب كل ما نملك ليس جيشا اجنبيا غازيا، بل ان الكارثة التي اصابتنا هي نتاج حرب بين جيشنا (أ) وجيشنا (ب) الذي خرج من رحم جيشنا (أ ) في سياق صراع سلطة بين الاستبداد الكيزاني المتحصن بجيشنا (أ ) والاستبداد المليشياوي المتحصن بجيشنا (ب).
انت كداعية تغيير مدني ديمقراطي بالوسائل السلمية إياك ان تنحشر بين (أ و ب) اي بين البصلة وقشرتها !لأن انحشارك بينهما لن تجني منه سوى رائحة البصلة! رائحة الدم والبارود والحرائق والاستبداد الأرعن! رائحة احتقار الشعب والاستخفاف بحياته وآلامه!
قف في مكانك الطبيعي وهو مناهضة الحرب التي تدفع انت فاتورتها وهي في أهدافها النهائية حرب لقمعك واستعبادك ومصادرة حريتك ونهب ثروات وطنك لا اكثر ولا اقل!
مشروع الكيزان هو ماعَلِمنا وذُقنا على مدى ثلاثين عاما من بيوت أشباح وسرقة المليارات وقتل مئات الآلاف في الحروب الأهلية في الجنوب قبل انفصاله وفي دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق!
ومشروع “الدعم السريع” رأينا مقدماته في هذه الحرب! رأينا الإبادة الجماعية في الجنينة، ورأينا بشاعة قتل الوالي خميس ابكر رحمه الله، ورأينا احتلال منازل المواطنين الأبرياء واغتصاب النساء ونهب الممتلكات.
ايها المواطن المدني ليتك تسحب عن هذه الحرب المشروعية السياسية والاخلاقية ولا تجتهد في نسج سردية وطنية لها حتى تقلل من احتمال توسعها وتمددها الذي سيمزق البلاد، لان الجيش غير مؤهل فنيا لحسم الحرب واستعادة عاصمة البلاد وبسط نفوذه على كامل تراب الوطن ، وهاهو قائده يهرب إلى بورسودان بواسطة دولة اجنبية، والكيزان يرغبون في تشكيل حكومة هناك تكريسا لتقسيم البلاد! حتى لو نجح الكيزان في تحويل الخرطوم إلى حلب او الفلوجة بواسطة طيران مصري او مُسيَّرات إيرانية فهذا لن يكون نصرا لك انت أيها المواطن المدني لان الكلفة في هذه الحالة قتلى بمئات الالاف(غالبيتهم مدنيون ابرياك مثلك)، وعاصمة غير صالحة للحياة وسوف تشتعل الحرب في مناطق أخرى، وهي بالفعل مشتعلة في دارفور وشمال وجنوب كردفان وسيناريو التقسيم حاضر بكثافة في خطاب مشعلي هذه الحرب!
نصرك الوحيد الممكن يا مواطن يا مدني هو ان تتوقف هذه الحرب الآن قبل الغد! نصر المواطن السوداني هو ان تصمت المدافع وتتوقف الطائرات عن القصف ويتوقف الرصاص الطائش والدانات والقذائف العمياء … ان يتوقف المواطن عن سداد فواتير إجبارية من دمه ولحمه وماله وعرضه وطمأنينته في صراع سلطة بين مشروعين استبداديين خرج أحدهما من رحم الآخر! وإياك ان تشتري فكرة المثقفين النافعين للكيزان التي تريد إقناعك ان تاريخ الانتهاكات في السودان بدأ يوم 15 ابريل 2023 وان الجيش والكيزان يقاتلون من أجل حمايتك من الانتهاكات!
انت الان يا مواطن تقف وحيدا في مواجهة الانتهاكات والجيش فشل تماما في حمايتك بل فشل في حماية مقاره الاستراتيجية كالمدرعات والتصنيع الحربي والاحتياطي المركزي والاستراتيجية ومداخل ومخارج العاصمة وعدد من المطارات !
الجيش قصر تقصيرا بائنا في حماية مواطني الخرطوم أما أثناء الحرب في دارفور فقد كان الجيش ظهيرا للجنجويد وشريكا لهم في انتهاكات ابشع من التي تتعرض لها انت في الخرطوم وفي جنوب كردفان قصف الجيش المواطنين بالانتنوف وبالبراميل المتفجرة!
إياك ان تشتري اسطوانة الانتهاكات، ولو اشتريتها فإن من المنطق ان تكون الانتهاكات أقوى سبب للمطالبة بإيقاف الحرب لا التحريض على استمرارها كما يفعل كثير من المعتوهين!
أما إذا كنت تعتقد ان التغيير يحتاج لعمل مسلح، وان الحرب حتمية، فاحذر ان تراهن على قوة مسلحة مملوكة لغيرك مثل كتائب ظل الكيزان والجيش الذي يسيطر عليه الكيزان لان نتيجة ذلك هي استعادة الانقاذ في سيرتها الاولى، او تراهن على قوات الدعم السريع المملوكة لاسرة تتطلع لأن تكون عائلة حاكمة ، فالدعم السريع حتى لو تحالف مع قوى مدنية مجردة من أدوات الضغط السياسي ومعزولة عن قوة الجماهير، حتما ستكون من شروط التحالف ان تكون هذه القوى المدنية مقطوعة اليد و اللسان تجاه القضايا الآتية : ولاية وزارة المالية على المال العام ،وولاية وزارة الدفاع على جيش البلاد الواحد، وولاية وزارة الخارجية على علاقات البلاد الخارجية، بمعنى قوى مدنية لا تملك من امر الحكم شيئا مذكورا، ولا دور لها سوى توفير الغطاء المدني للحاكم الحقيقي المدجج بالسلاح.