كررنا كثيرا أن جوهر فترات الانتقال في السودان يتلخص في كونها تتيح لجميع السودانيين، بمختلف رؤاهم السياسية والفكرية، التوافق على مشروع يعبّد مداخل وطرق تحقيق حلم كسر الحلقة الشريرة المتحكمة في السودان منذ فجر استقلاله، ويضع البلاد على منصة تأسيس جديدة، ترسي دعائم بناء دولة وطنية حداثية.
ولكن، وللأسف، تمكن الفشل من كل فترات الانتقال التي مر بها السودان وانتهت بكارثة ضحيتها الأولى الشعب والوطن. اثنتان من تلك التجارب الفاشلة انتهت بتسلط أنظمة عسكرية شمولية على البلاد في عامي 1958 و1969. وتجربة فاشلة ثالثة وُئدت في عام 1989 بتسلط الإنقاذ، التي رفعت الإسلام شعارا وآيديولوجية، لكنها في الواقع مكّنت الفساد والاستبداد، واستباحت الوطن لصالح المصلحة الحزبية والشخصية. وخلال فترة حكم الإنقاذ كانت التجربة الانتقالية الرابعة، 2011، والتي فشلت في الحفاظ على البلد موحدا. أما الفترة الانتقالية الخامسة عقب ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، فمن الواضح أن النخب والقيادات الفاعلة، في الحكم أو الساعين له، مدنيين أو عسكريين، كانوا يديرون السياسة وكأن بصيرتهم عميت، أو كأنهم تغيبوا عن دروس تاريخ السودان الحديث، فلم يتعلموا أو يفهموا من فترات الانتقال الأربع السابقة دروس الفشل ونتائجها الكارثية. فعلى الرغم من أن الفصل الثاني من الوثيقة الدستورية لعام 2019، حدد بدقة المهام المطلوب إنجازها خلال الفترة الانتقالية الخامسة، وكان كل المطلوب من الحكومة الانتقالية، تحويل هذه المهام، بعد إضافة التفاصيل الضرورية، إلى مصفوفة جاهزة للتنفيذ وفق جدول زمني محدد، فإن الحكومة الانتقالية لم تنجح، هي وحاضنتها السياسية، في صياغة هذه المصفوفة، فضاعت الأولويات، وسادت الربكة وتدنى الأداء، كما فشلت قوى الحرية والتغيير في تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي.
كل ذلك بسبب جملة من العوامل منها استمرار النزاعات بين المكونين المدني والعسكري واستمرارها داخل كل مكون، ضعف الإرادة والكفاءة وسط القيادة، مما أدى إلى نتائج خطيرة أهمها السماح لعناصر النظام المخلوع لالتقاط أنفاسها وشن الثورة المضادة عبر آليات الدولة العميقة. والأهم والأخطر من ذلك كله، التجاهل أو عدم الوعي بأن متراكم الفشل والخيبات في الفترات الانتقالية سيدفع بالبلاد وأهلها إلى الكارثة الكبرى، كارثة الحرب اللعينة التي تستعر اليوم وتدمر وتحرق البلاد وأهلها. ويكفي النظر إلى حال وأوضاع السودان اليوم بعد ثمانية وستين عاما منذ استقلاله، مقارنة مع الدول الإفريقية التي نالت استقلالها بعده بسنوات، وكيف أن هذه الدول، ومعظمها ذات موارد ضعيفة مقارنة مع السودان، تخطته وبمسافات بعيدة، تاركة إياه في حفرة التخلف والنزاعات الدامية.
في تقديري أن مبادرة جدة ومبادرة الاتحاد الأفريقي والإيقاد غابت عنها الرؤية التي يجب أن تنطلق منها وتهتدي بها في عملية التفاوض بين طرفي الاقتتال
لن يختلف اثنان في أن القضية المركزية التي يجب أن تشكل جوهر الخطاب والحراك الراهن لأي من الفاعلين السودانيين أو الإقليميين أو الدوليين، هي قضية وقف الحرب المدمرة في السودان، التي امتدت نيرانها لتحرق الخرطوم في 15 أبريل/نيسان الماضي. وكما كررنا كثيرا، فإن الأولوية دائما وأبدا ستظل هي التقدم باقتراحات ملموسة حول الكيفية التي تحقق ذلك، بما في ذلك إجتراح وتنفيذ الآليات الفعالة لوقف الاقتتال، على أن يسند هذه الآليات ويدعمها، اتفاق القوى المدنية والسياسية السودانية على مشروع سياسي لمنع تجدد الحرب. ومن الواضح أن كل المبادرات التي تصدت لوقف الحرب، سواء في منبر جدة أو الاتحاد الأفريقي أو الإيقاد، عجزت حتى اللحظة عن امتلاك المفتاح الذي في استطاعته فتح باب الولوج لفك عقدة هذه القضية المركزية. في تقديري، أن مبادرة جدة ومبادرة الاتحاد الأفريقي والإيقاد، غابت عنها الرؤية التي يجب أن تنطلق منها وتهتدي بها في عملية التفاوض بين طرفي الاقتتال. وكنت، وما زلت، أعتقد بضرورة الاستفادة من التجارب السابقة الشبيهة، وتحديدا تجربة توسط مجموعة دول الإيقاد في الحرب بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل د. جون قرنق، والتي أفضت إلى توقف القتال والتوقيع على اتفاق السلام الشامل في العام 2005، مستندة إلى إعلان المبادئ الصادر عن المجموعة في 20 مايو/أيار 1994، والذي كان بمثابة الرؤية لبدء التفاوض بين الطرفين.
ومع الأخذ في الاعتبار الاختلافات والمتغيرات في الواقع بين تلك الفترة واليوم، وأن الحرب تقترب من شهرها السادس دون أن تلوح في الأفق أي إشارات إيجابية من أي من المنابر الإقليمية المشار إليها، جدة أو الاتحاد الأفريقي أو الإيقاد أو غيرها، أرى أن تتوافق هذه المنابر مع القوى المدنية والسياسية السودانية حول إعلان مبادئ يحكم عملية التفاوض وآليات وقف الاقتتال بين الطرفين المتقاتلين. أشير إلى أن إعلان مبادئ الإيقاد الصادر عام 1994 لم يتم بمشاركة القوى المدنية والسياسية السودانية، وإنما صاغته دول الإيقاد وقدمته جاهزا إلى الحركة الشعبية ووقعت عليه في العام 1994، كما قدمته إلى حكومة السودان ووقعت عليه في العام 1997 دون أي تعديل بعد أن تمنعت قليلا في البداية.
وأرى أن عدم مشاركة القوى المدنية والسياسية السودانية في مناقشة وصياغة إعلان مبادئ الإيقاد آنذاك، ثم حصر العملية التفاوضية فقط في الحركة الشعبية وحكومة الإنقاذ، ألقى بظلال سالبة على مجريات ونتائج محادثات السلام آنذاك. صحيح أن القتال بين الطرفين توقف لكن الحرب لم تتوقف في باقي أطراف السودان، بل إزدادت اشتعالا، كما لم يتحقق التحول الديمقراطي حسب ما طرحته نتائج المحادثات، وانتهى الأمر بانشطار السودان الموحد إلى دولتين مستقلتين عن بعضهما.
أخيرا، أعتقد أن آلية التفاوض بين الطرفين لوقف الاقتتال، في منبر جدة أو أي منبر آخر، ستظل عاجزة عن تحقيق هدفها ما لم تستند الى إعلان المبادئ الذي أشرنا إليه أعلاه. وأشدد على أن التوصل إليه يتم بمشاركة القوى المدنية والسياسية السودانية، وما لم تستصحب مشاركة دول بعينها، خاصة مصر والإمارات.
القدس العربي