أيام معدودة وتكمل حرب السودان شهرها الخامس، وما زلنا منشغلين في السجال الذي أوصل البلد إلى هذا الوضع البائس. كل طرف يرمي بالمسؤولية على الآخر، والكل غارق حتى اللحظة في سجال مَن أطلق الرصاصة الأولى، والانقسامات ولغة الإقصاء تستفحل بينما معاناة السودانيين تشتد. لا أحد من الأطراف المتصارعة يريد أن يعترف بأن الكل يتحمل المسؤولية في إشعال هذه الحرب وأسهم في الظروف التي قادت إليها.
السودان في هذا المفترق لا يحتاج إلى المزيد من الجدل البيزنطي، ولكي تتحرك الأمور إلى الأمام للخروج بالبلد من هذا النفق المظلم، لا بد من تجاوز هذه المساجلات، والبحث عن حلول تنهي الحرب أولاً، وتسهل عودة الحياة بشكل شبه طبيعي في هذه الظروف الحالكة، لتتركز الجهود بعد ذلك في العمل على كيفية تحقيق توافق وطني عبر مؤتمر جامع يضع خريطة طريق للانتقال الديمقراطي، وكيف يُحكم السودان، وكيف يحل مشاكله المزمنة.
لا بد من الإقرار بأن الفترة الانتقالية السابقة فشلت لأنها جمعت في مكوناتها تناقضات كثيرة، ولم تجد حلولاً للخلافات التي عصفت بها، وبالتالي فإن الحديث عن استئنافها وكأن شيئاً لم يكن، يبدو ضرباً من الخيال، لأن الحرب غيّرت المعادلات وعمّقت الخلافات. السودان يحتاج إلى مسار جديد يجنّبه مزالق الفترة الماضية، حتى لا نعيد إنتاج الفشل.
لتحقيق هذا المسار لا بد للأطراف المتصارعة أن تتخلى عن طموحاتها في حصص السلطة خلال أي فترة انتقالية جديدة. فلا المكون العسكري يستطيع أن يستأثر بالسلطة ويجد القبول الكافي لتحقيق أي استقرار، ولا المكون المدني سيكون قادراً على إقناع الناس بأنه يستطيع قيادة فترة انتقالية ثانية في ظل الخلافات والتناقضات والصراعات المستمرة، إضافة إلى أنه فقد الكثير من رصيده السابق بسبب ملابسات الحرب وما أحدثته من استقطاب وفرز في الآراء والمواقف.
لا أحد يستطيع الادعاء بأنه يملك شرعية أو تفويضاً شعبياً للحكم وقيادة البلد في فترة انتقالية جديدة. ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 أسقطت نظام عمر البشير وحزب المؤتمر الوطني، لكنها لم تمنح تفويضاً مطلقاً في الحكم لأي جهة. كان المأمول أن تشكل حكومة مدنية من المستقلين تقود البلد في فترة انتقالية قصيرة تهيئ للانتقال الديمقراطي وانتخاب حكومة بتفويض شعبي وشرعية انتخابية. ومن دون الخوض في تفاصيل باتت معروفة للناس، فقد أدت مماحكات السياسيين وخلافات المدنيين والعسكريين إلى وأد الثورة وأحلامها وشعاراتها، وقادت البلاد إلى المهلكة الراهنة.
لهذا نحتاج اليوم إلى بداية مختلفة، ومسار جديد يعيد ترتيب الأولويات والأدوار. الانتقال الديمقراطي مهم ولكنه ليس بالضرورة أولوية المواطن في هذه الظروف. فالناس يريدون نهاية الحرب واستعادة الأمن الذي يكفل لهم العودة إلى منازلهم، واستئناف مظاهر الحياة المتعطلة، والبدء في إعادة إعمار ما دمّرته الحرب، وهو كثير بكل المعايير. هذه يفترض أن تكون نقطة الانطلاق لأي فترة انتقالية جديدة ستحتاج بالضرورة إلى توافق بين الأطراف المختلفة المعنية. هذا التوافق لا يمكن أن يحققه إلا السودانيون أنفسهم إذا وضعوا مصلحة البلد فوق أي مصالح أخرى حزبية أو ذاتية.
هناك قطاع واسع ممن يرون ألا تمتد الفترة الانتقالية أكثر من عامين إلى 3 أعوام، ومن واقع التجربة الماضية، فإن الخيار الأفضل أن تكون الحكومة مدنية من التكنوقراط المستقلين من أصحاب الخبرة الإدارية في مجالاتهم، لتسيير الأمور وتكون أولويتها الاقتصاد وإعادة الإعمار، على أن تكون رئاستها لشخصية وطنية توافقية.
يتولى الجيش في هذه الفترة مسؤولية الأمن والدفاع من خلال المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ومن مهماته أيضاً تنفيذ مسألة دمج قوات الحركات المسلحة وفقاً للضوابط والإجراءات وخلال أمد زمني لا يتجاوز أمد الفترة الانتقالية.
المرحلة الانتقالية الجديدة تتطلب حل مجلس السيادة، بعد أن تجاوزته الأحداث، وعصفت به تناقضات المواقف من الحرب. ويمكن تشكيل مجلس مستشارين من خمسة أو سبعة أشخاص، يضم مدنيين وعسكريين متقاعدين، يكون عوضاً عن مجلس السيادة وتكون مهمته تقديم المشورة للحكومة الانتقالية في الموضوعات السياسية والاقتصادية والأمنية والعلاقات الخارجية. وجود هذا المجلس سيرد على مسألة انفراد الجيش بالقرار في هذه الظروف الصعبة والمفصلية، وسيساعد في توسيع المشاركة والرؤية.
فترة انتقالية في ظل هذه الظروف تحتاج أيضاً لمفوضيات بمسؤوليات محددة تساعد الحكومة وتعمل تحت إشرافها، منها على سبيل المثال لا الحصر:
– مفوضية شؤون الإغاثة والعمل الإنساني تشرف على تنسيق وتوزيع الإغاثة سواء كانت غذائية أو دوائية أو ما يتصل بها، وتضمن إيصالها إلى المتضررين.
– مفوضية لشؤون إعادة الإعمار يشمل عملها تأهيل البنى التحتية المتضررة، واستعادة الخدمات الأساسية، وبحث موضوعات تعويض المتضررين.
– مفوضية الشؤون الصحية وإعادة تشغيل وتأهيل القطاع الصحي المنهار.
– مفوضية التعليم ومهمتها تنسيق إعادة ترميم وتأهيل المؤسسات التعليمية المتضررة للاستعجال باستئناف التعليم في مختلف مراحله.
– مفوضية السلام ومهمتها مراجعة اتفاقية جوبا ورفع التوصيات بشأنها للحكومة الانتقالية ومجلس المستشارين.
– مفوضية الدستور وتضم خبراء قانونيين لوضع مشروع دستور يعرض لاحقاً على البرلمان المنتخب، واستفتاء شعبي.
– مفوضية الانتخابات لوضع قانون الانتخابات والنظر في لوائح الناخبين والاستعانة بجهات دولية لترتيبات انتخابات ديمقراطية نزيهة وشفافة بنهاية الفترة الانتقالية.
الفترة الانتقالية تتطلب أيضاً انخراط القوى المدنية والسياسية في حوار وطني شامل لتحقيق التوافق المطلوب للبدء في بحث التأسيس لسودان جديد، وكيف يحكم، وكيف يتجنّب كل الخيبات والمزالق والمظالم والصراعات التي أفضت به إلى هذه النقطة الحالكة.
هناك مقترحات وأوراق عدة متداولة يمكن الاستفادة منها لبلورة رؤية لحكومة انتقالية وتحقيق التوافق الوطني الذي يضع البلد على سكة الاستقرار. لكن المهم والعاجل الآن أنه لا يمكن ربط انتهاء الحرب بالبدء في إعادة تشغيل الدولة السودانية، وإعادة المرافق العامة، والخدمات الأساسية، وتشكيل حكومة لتسيير شؤون البلد. فخسائر وتداعيات استمرار انهيار الأوضاع المعيشية، والصحية، والتعليمية، والخدماتية، لا تقل فداحة عن خسائر الحرب ذاتها.
عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.