كتبت رشا عوض كلمة أخيرة عرضت فيها لرأيي عن وقوفي مع القوات المسلحة نصرة للدولة الحديثة. ورأت فساد هذا الرأي لأن هذه القوات “كانت أداة لوأد الديمقراطية لأكثر من نصف قرن”. ولا تكون الحداثة، في رأيها، إلا بالديمقراطية. وربط رشا للحداثة بالديمقراطية خطأ بين. فالديمقراطية ليست سوى واحدة من ضروب التعاقد السياسي في الدولة الحديثة. فتكون الدولة الحديثة على حداثتها كيفما تعاقد الناس فيها على التقليد مثل أن تكون فيهم الملكية مثلاً، أو بالشعبوية والكريزما كما في عهد ناصر أو جوان بيرون في الأرجنتين، أو بالديمقراطية الليبرالية، أو حتى بالاستبداد الصرف مثل النازية. فما اجتمع الألمان على شيء مثل اجتماعهم على النازية في دولتهم الحديثة التي أطلقت فيهم سعار الجنس الخالص الراقي كمرتكز لوطنيتهم.
تعريف الدولة الحديثة في قوقول أنها منظمة سياسية تقوم عليها إدارة مركزية مستقلة بوسعها تطبيق القانون وحفظ الأمن على رقعة أرض معلومة. وتختلف عما عداها من الجماعات الاجتماعية والسياسية باحتكارها الاستخدام الشرعي للعنف والتمتع باعتراف العالم بالسيادة القانونية على أرضها. وهي مما نشأ في القرنين السادس عشر والسابع عشر وصارت بعدها الشكل الطاغي للدولة في العالم. ومتى غابت جرت الكوارث. وتولدت هذه الدولة من رحم أوريا الاقطاعية التي كانت سادت فيها قبلها ثلاثة كيانات لكل منها سلطاته وامتيازاته يلجم بها الحكام الأمراء. وكانت تلك الكيانات هي الكنيسة، والنبلاء، والفلاحون. وحظي كل منها بنظم معينة نسيقة من الحقوق مما قد تراها العين المعاصرة من مادة الدولة الحديثة. وقامت الدولة الحديثة في أوربا لتحل محل تلك الكيانات النثار التي تتداخل فيها الاختصاصات وتصطرع من فرط عيشها جنباً لجنب.
وارتبط قيام الدولة الحديثة بالحرب. فهي قد ولدت من رحمها. ودار علم بناء الدولة الحديثة حول تقليب عبارة مؤسسة لواطسون تلي تقول أن الحرب تصنع الامة والأمة تخوض الحروب. ولم يمنع ذلك من قوله أن الحرب عبثية. فمن رأي تلي، مؤسس علم بناء الدولة، أن الدولة ثمرة الحرب. فهي من صنعها. وما كنت أعلم أن هناك من فاقنا معشر الماركسيين في تعريفنا للدولة بأنها أداة عنف تطلقها الطبقات المتملكة على خلق الله حتى قرأت لليبراتنين. وعقيدتهم تدعو للجم الدولة دون التدخل في السوق الحر إلا لماماً وأن تترك حرية الفرد على سجيتها. وقال أحدهم في المعنى أن الدولة من صنع “برابرة” انحطت بحضارة مدينة القرون الوسطي، وحرمت الفرد من حريته، وحطمت عرى انبنت في الماضي على المبادرة الخاصة والتوافق الحر.
وقفت مع الجيش لحداثته التي هي احتكار السلاح نيابة عن الدولة الحديثة. ولم يكن خرقه للديمقراطية، بل وإدمانه ذلك، في اعتباري. ولم يطرأ لي عدوانه على الديمقراطية لأن الديمقراطية ليست المعيار في الحكم على حداثة الدولة. فالديمقراطية، التي جعلتها رشا كقول جهيزة تقوم عليها وإلا فلا، مجرد نظام سياسي من ضمن نظم أخرى مما يتعاقد عليه الناس، بالتراضي أو بالغلب، في الدولة الحديثة. وتكون الدولة الحديثة بدونها إلا إذا تمسكنا بقول تشرشل من أنها أسوأ النظم السياسية عدا سائر النظم الأخرى. وهذا قريب مما عرضته في اختياري الجيش دون الدعم السريع. فالجيش مر ولكن الدعم السريع أمر منه.
تجاوزت هنا للإيجاز نظرية ذائعة تقول أن الجيش لا ينقلب على الديمقراطية وإنما تقوم بذلك الأحزاب السياسية والجيش براء. كما تجاوزت حوارات في الستينات والسبعينات عن استحقاق الجيش للحكم في مثل بلادنا لأنه الكيان الحداثي الأول على نطاق القطر والبارع في الآلة الحديثة وثقافتها.
IbrahimA@missouri.edu