أتفهم تماما اختلاف زوايا النظر الى حرب الخامس عشر من أبريل بحكم تعقيداتها العصية على التبسيط والاختزال في ثنائيات حدية قاطعة، ولذلك نحتاج لحوار عقلاني حول الاختلافات ولا سيما بين الحادبين فعلا على المصلحة الوطنية.
برر كثير من المثقفين- من خارج دوائر الاسلام السياسي المعروفة – تأييدهم للجيش استنادا الى فرضية أنه حريص على الدولة الوطنية ويقاتل في سبيل بقائها الذي تهدده المليشيا التي يتناقض وجودها بنيويا مع كيان الدولة، وجميعهم اتفقوا على الخلل الهيكلي في الجيش وعدوانه على حقوق المواطنين وحرياتهم طيلة تاريخه، ولكنهم يراهنون على إمكانية إصلاحه بعد ان ينتصر على المليشيا انتصارا حاسما!
الدكتور محمد جلال هاشم يوزع أوصاف الخيانة والغباء الايدولوجي والكيزانوفوفيا على كل من لم يصطف خلف الجيش الذي ما زال هو شخصيا يصفه بعدم الوطنية وفي ذات الوقت يفترض انه ضرورة وجودية للدولة الوطنية!
الدكتور قصي همرور لخص موقفه الداعم للجيش في مقالة بعنوان “مشروعية المرافعة عن مؤسسات الدولة ومشروعية مساءلتها معا هذه الحرب نموذجا” وقد كان قصي في سياق المرافعة عن فكرة التغيير الجذري ساخرا من الحديث عن امكانية اصلاح الدولة لأن الدولة منهارة وما نشهده منها مجرد آثار لدولة لم تعد حاضرة! ولكن قصي لم يشرح لنا بالضبط ما الذي حدث بعد هذه الحرب ليغير موقفه العدمي من الدولة التي تحولت وعلى نحو مفاجئ من دولة منهارة تماما الى دولة تستحق ان يقاتل المواطنون في سبيل بقائها خلف ذات المؤسسة المعطوبة عطبا هيكليا (الجيش) وبقيادة ذات العقل السياسي المسؤول عن انهيارها!!
والسؤال إذا كانت لديك سيارة معطوبة تماما ولديك مشوار طويل والطريق وعر، فهل تبدأ بإصلاح السيارة اولا ام تركب السيارة التي تعلم عطبها وتقودها في الطريق الوعر باقصى سرعة الى وجهتك!! ماذا تتوقع إذا فعلت ذلك سوى حادث أليم او على الاقل عدم الوصول الى الوجهة المبتغاة!!
الدكتور عبد الله علي ابراهيم وعلى شاشة قناة الجزيرة جعل من مناصرة الجيش معيارا للانحياز للحداثة بصفته مؤسسة حداثية! علما بأن هذا الجيش كان أداة لوأد الديمقراطية لأكثر من نصف قرن! وبدون الديمقراطية وحقوق الإنسان تصبح الحداثة منزوعة الروح!
الدكتور معتصم الأقرع برع وابدع في المعزوفة التي تطرب الكيزان وخلاصتها ان الامتناع عن تأييد الجيش ما هو إلا تأييد ضمني للمليشيا، وان من يربطون الحرب باجندة الكيزان مهاويس وعاجزين عن انتاج أي أفكار او مواقف منتجة وطنيا وتنحصر معارفهم في ترديد مساوئ التنظيم الاخواني، ولا ينسى الاقرع في أي نقاش نزع المشروعية السياسية بالكامل عن قوى الحرية والتغيير والاسراف في تحميلها مسؤلية الخراب الوطني!
يا إلهي! ما الذي دهى كل هؤلاء الدكاترة!!
فلو فهمنا تأييد الجيش على أساس المخاوف المشروعة جدا من سيطرة المليشيا، فمن الصعب جدا ان نفهم سبب التماهي مع خطاب الكيزان العدائي ضد القوى المدنية المناهضة للحرب وعدم تفهم مخاوفها المشروعة كذلك من دكتاتورية دموية كيزانية والاخطر تقسيم البلاد الذي يلوح في الأفق! ان كل المثقفين الذين أعلنوا تأييدهم للجيش زعموا ان هناك معركة مؤجلة من اجل الديمقراطية تنظرهم مع هذا الجيش فهل من الحصافة ان يخسروا حلفاءهم المستقبليين في معركة الديمقراطية؟ هل من اللائق ان يساهم المثقفون في وضع الاساس النظري لتجريم الرأي الاخر وتخوينه بالشكل الذي نراه الآن، وفي معركة صراع سلطة داخلي لا معركة تحرر وطني من غزو أجنبي ؟!
وقائع وحيثيات
كيف يكون معيار الوطنية هو الاصطفاف خلف الجيش الذي سيطر الكيزان على مفاصله القيادية واشتغلوا بصورة منهجية على تغيير شفرة تشغيله ليتحول من حارس لحدود الوطن ومدافع عن مصالحه العليا إلى حارس لحدود مصالح التنظيم ، ومصنع لإنتاج المليشيات الموالية له، ومظلة سياسية تنمو تحتها المشاريع الانفصالية، وهناك حيثيات واضحة ووقائع حية تدلل على ذلك منها:
اولا: احتضان المؤسسة العسكرية والامنية للتنظيمات الانفصالية ودعمها ماديا والاستثمار فيها، أثناء حرب الجنوب تحالفت هذه المؤسسة مع الانفصاليين الجنوبيين وقوت شوكتهم لإضعاف جون قرنق الوحدوي، كما احتضنت منبر السلام العادل الذي من مؤسسيه ضباط جيش وامن واستخبارات لماذا؟ لان الكيزان يفضلون انفصال الجنوب على تغيير نظام الحكم في الخرطوم ! الصحيفة التي كان يبدأ بها منسوبو الجيش والشرطة والامن يومهم هي صحيفة الانتباهة الانفصالية!!
ثانيا: بعد ان انفصل الجنوب تنعدم تماما مؤشرات التوبة من تقطيع اوصال الوطن بل زادت حدتها وخرج مؤسسوها الجدد من رحم الأجهزة الأمنية والعسكرية وعلى رأسهم الكارثة المسماة ” دولة البحر والنهر” ، وقبل ذلك في بدايات حرب دارفور الم يسمح الجيش للجنجويد باستقدام قوات من خارج الحدود لقتال الحركات المسلحة ؟ الم يشرف ذات الجيش على توطين قادمين من خارج الحدود في اراضي سكان دارفور من القبائل المصنفة كحاضنة للتمرد حينها ، وكان شريكا في كل الأعمال التي مزقت النسيج الاجتماعي وجعلت مجموعات واسعة من السودانيين تكفر بالوحدة الوطنية؟ ألم تكن الفترة الأكثر شراسة في تاريخ الجنجويد (2003 – 2006 ) بقيادة موسى هلال وقد شهدت من فظائع المجازر الجماعية والاغتصاب واحراق القرى وتهجير سكانها، وكل ذلك كان تحت سمع وبصر بل وبمشاركة ومباركة الجيش الذي يعزف مناصروه الآن اسطوانة انتهاكات الجنجويد وكأنما تاريخ الانتهاكات في السودان بدأ في 15 أبريل ! لماذا لم نسمع صوتا ضد الجنجويد في سنوات حريق دارفور وفي سنوات قصف الانتنوف للمدنيين في جنوب كردفان من كتائب الظل الإعلامية الكيزانية التي أصبحت الآن بقدرة قادر تعتلي منصة الدفاع عن حقوق الإنسان بل وتتحدث عنها باستاذية! ومع من؟ مع الذين كان مقص الرقيب الأمني الكيزاني على الصحف ينزع مقالاتهم التي تدين جرائم الجنجويد! ويفتح ضدهم البلاغات تحت مواد إثارة الكراهية ضد الدولة ويغلق صحفهم!
الاستخفاف بالمصالح الوطنية العليا
ثالثا: من النماذج القريبة جدا لاستخفاف الجيش بالمصالح الوطنية العليا وتغليب الانحياز للكيزان أثناء الفترة الانتقالية ذلك التواطؤ المريب مع إغلاق ميناء بورتسودان والطريق القومي الناقل لصادرات وواردات البلاد باستخدام الناظر ترك ومن خلفه فلول المؤتمر الوطني، كما ظلت الاستخبارات العسكرية تحمي صناع الفتن القبلية في شرق السودان وتعبث باستقرار إقليم له أهمية استراتيجية قصوى للوطن لمجرد خدمة أجندة الكيزان في إفشال الفترة الانتقالية، بل ان حلفاء الجيش وصنائع الاستخبارات العسكرية كانوا يتحدثون بكل جرأة عن تقرير المصير في شرق السودان! والاستخبارات العسكرية التي تنشط في اعتقال شباب لجان المقاومة واعضاء الحرية والتغيير والصحفيين لمجرد انهم ضد السلطة الانقلابية لم نسمع بأنها اعتقلت رؤوس الفتنة المجاهرين بدعوات تقسيم الوطن أرضا وشعبا بل هي الراعي الرسمي لهم بالمال والسلاح والحماية! فهل هذا جيش السودان ام جيش الكيزان؟ وهل هذا جيش يمكن التعويل عليه في الحفاظ على الدولة الوطنية؟ اللهم الا اذا كانت وطنية نسبة الى “المؤتمر الوطني”! او هي جمهورية الأحجار الكريمة(حجر الطير وحجر العسل) على حد تعبير استاذنا الحاج وراق! لان معطيات الواقع الماثل أمامنا الان تشهد بأن ما يعرف بمثلث حمدي (دنقلا ، كوستي، سنار) احتلت قوات الدعم السريع مركز ثقله ممثلا في الخرطوم وبقية نقاط المثلث في مرمى النيران! الأمر الذي جعل الكيزان يتخذون من شرق السودان قاعدة لهم ومن بورسودان وليس مدني عاصمة يسعون لتشكيل حكومة فيها كخطوة في الطريق الى دولة البحر والنهر المتخيلة (مجرد خيال) لأن الراجح ان “البحر الأحمر” الذي تمر عبره عشر التجارة العالمية لا يمكن ان يحتمل وجود دولة اصولية حبلى بالمليشيات المتطرفة وستكون مرتعا للإرهاب الاسلاموي ، مثل هذه الدولة لو قامت فسوف تستدعي بقوة تدخلات عسكرية ضدها من دول الجوار الاقليمي! وكما هرب الكيزان من مثلث حمدي سوف يهربون من البحر الاحمر عائدين أدراجهم ليس الى المثلث بكامله بل الى جزء يسير منه! وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم!
رابعا: أثناء هذه الحرب الدائرة لخمسة أشهر اتضح جليا ان الجيش غير قادر على حسمها عسكريا، وذلك لخلل بنيوي وهو الافتقار للعدد الكافي من المشاة، فيبدو ان الجيش كان يعتمد بشكل كبير على “الدعم السريع” في توفير الجنود المقاتلين على الارض، ولهذا السبب سقطت المواقع الاستراتيجية في الخرطوم الواحد تلو الاخر لعدم وجود قوات على الارض تعترضها وتعطل تقدمها وتحول دون وصولها الى اهدافها بنصب الكمائن والاستنزاف، واعتمد الجيش بشكل كامل على سلاح الطيران الذي لا يمكن ان يحسم الحرب وحده بدليل انه لم يوقف تقدم قوات الدعم السريع حتى الى داخل سلاح المدرعات والزخيرة ولم يوقف الهجوم المستمر على سلاح المهندسين، بالإضافة الى المواقع التي سقطت في زمن قياسي كالاحتياطي المركزي والتصنيع الحربي ومصفاة البترول واجزاء من القيادة العامة ومقار جهاز الامن وغير ذلك من المواقع.
استنادا الى الواقع الميداني والسياق السياسي تسقط تماما فرضية الحفاظ على الدولة الوطنية عبر الاصطفاف خلف الجيش في هذه الحرب حتى يتم دحر المليشيا عسكريا والقضاء عليها تماما، لأن الجيش كما تظهر الوقائع الشاخصة أمامنا غير قادر على ذلك من الناحية الفنية العسكرية، اما من الناحية السياسية فإن الخطاب المصاحب للحرب والمصنوع بواسطة الكيزان هو خطاب مدمر للوحدة الوطنية ومكرس للانقسام الإثني والجهوي، فعندما يتردد بمنتهى عدم المسؤولية ان “قوات الدعم السريع” كيان اجنبي وغازي للسودان ومنبت وطنيا ولا حاضنة اجتماعية له، وعلى هذا الاساس يجب طردها ليس من المواقع العسكرية الي تحتلها او من السلطة السياسية، بل يجب استئصالها من الوطن لان كل منسوبيها غير سودانيين ولا يشبهون اهل السودان ! ولهذا الهدف يجب ان يحمل المدنيون السلاح لحماية الشماليين من “الغرابة” ،مثل هذا الخطاب العنصري الأهوج سوف يدفع دفعا الى اصطفافات قبلية وجهوية خلف “الدعم السريع” لان الحقيقة الموضوعية المجردة هي ان هناك حاضنة اجتماعية سودانية له ممثلة في قبائل كبيرة في دارفور لن تقبل بنزع سودانيتها بهذه البساطة! مثل هذا الخطاب حتما سيوفر للدعم السريع خط امداد مفتوح بالمقاتلين، الأمر الذي سيقود الى حرب طويلة ستؤدي الى تقسيم البلاد، وللأسف لن يكون تقسيما بين السودانيين بل سيمد كل طامع يده لينهش له نصيبا من هذا الوطن الذي تحول الى مشروع غنيمة مستباحة لأن نخبه السياسية فشلت في صياغة معادلة عقلانية للتعايش المشترك في اطار دولة وطنية ديمقراطية.
الحفاظ على الدولة السودانية بحدودها الحالية يقتضي الإسراع في إيقاف هذه الحرب على أساس اتفاق سياسي يشتري بموجبه السودانيون بقاء دولتهم المهددة وجوديا لو طال أمد هذه الحرب.