بما اسجله من ملاحظة عن نفسي اولا، وعن المجتمع السياسي والاعلامي والثقافي استطيع القول باننا جميعا بحاجة الى جلسات من (الدعم) النفسي السريع غير المحدود لبلوغ الشفاء من نوبات ومتفاعلات الصدمة التي لحقت بنا جراء الحرب حتى نتمكن من انتاج عقلي جديد يناسب ويتناسب مع اليوم التالي.
اولى خطوات العلاج تتمثل في اهمية الاعتراف باننا فشلنا في ان نتعايش في، وضمن اطار وطني منتج وايجابي المخرجات وان غالبية ما صنعناه من مؤسسات سياسية وثقافية واعلامية وتعليمية تظل غريبة عن الواقع وانسانه وان الاخلاق الوطنية في محنة وازمة تفوق الوصف، بما يعني اننا بحاجة ماسة وقصوى وعاجلة لتصميم خارطة طريق جديدة للتعايش الكلي بما تعنيه من علاج لمؤسسات الدولة في ابعادها العسكرية والامنية والعدلية وتفعيل اقتصاد الفرد والجماعة ونبذ العطالة والمكابرة والعصبية والقبلية والمحاباة ببناء ثقافة مانعة لمكافحة الفساد ما ظهر منه وما بطن من فساد رمزي وبنيوي بالأفراد والمؤسسات. والحرب وبما تعمق من جراح وضياع سياسي وحيرة نتيجة استمرارها وتماديها تكشف في المقابل عن عيوب هيكلية في المؤسسات السياسية المدنية ذات المصلحة في الحكم المدني الديمقراطي.
فالمؤسسات السياسية المدنية تساهم بنحو اخر في مد ايام الحرب في عجزها عن رؤية الاستراتيجي ومن ثم التوحد بنحو فعال ومبتكر وذكي يخرج بها من التشكيلات المتصارعة الراهنة. فرؤية الاستراتيجي كانت وتظل بعد ثورة ديسمبر المجيدة تتمثل لكل فرد وجماعة ومؤسسة سياسية حادبة على التغيير الديمقراطي في تفكيك هيمنة نظام الاخوان المسلمين وثقافته بواسطة اقتلاع المؤسسات المنتجة والداعمة والميسرة لاستمرار تلك الهيمنة.
فقد اثبتت الايام بعد حرب ان الوثيقة دستورية او الشراكة السياسية مع اللجنة الامنية لم تكن سوى الخطأ الاستراتيجي الذي وقع فيه تحالف الحرية والتغيير بأسباب شتى وتقديرات لم تخلو من قصر نظر ثوري وتكوين رأى في التسوية مخرجا ليستبعد الاستراتيجي للثورة والممثل في الاستيلاء على جهاز الدولة بأكمله دون نقيصة او نقصان. هذا كان يعني ضرورة واهمية إعمال التفكير الثوري لكافة مراحل ما بعد الثورة بتنقية الصفوف واستبعاد القوى السياسية والافراد ذوى المصلحة في التغيير السياسي على شاكلة تغيير الجهاز التنفيذي وتعيين رئيس وزراء على عجل ودون مواصفات ثورية. والاستراتيجي كان يعني العمل لأجل جنى اكبر نصيب من النقاط لصالح الثورة وليس الرضاء والقبول بجزء يسير منها. فالقبول بالجزء اليسير عنى القضاء على رأس النظام السياسي للتنظيم الاسلاموي وليس القضاء على مؤسساته العسكرية والامنية والاقتصادية والعدلية والاعلامية والثقافية. وها ذا هى المؤسسات المعبرة عن التنظيم السابق والثقافة السياسية المتصلة بطول حكمه تخرج برأسها واسلحتها و تحشد مواليها ومنتقديها القدامى معا وتشعل الحرب ومن ثم تناصر ديمومتها لتقصم ظهر الاستراتيجي الممثل في قوى الثورة الحيوية مما يعد تراجعا فادحا في حدول اعمال التغيير.
فافظع ما كشفت عنه الحرب ليس في الخسارات الفيزيائية الجسيمة في الارواح والمباني والنزوح وما ينتظر من كوارث قادمة فقط، ولكن في فضح محتوى التفكير السياسي لخصماء ومعارضي الامس لتنظيم الاخوان المسلمين الذين وقعوا فريسة داء الثنائية في الاختيار. فالحياة التي وفيما يبدو انها قد اختارت اختصارا مريبا ومجحفا في شكل ثنائيات في تربة العقول السودانية حضرت هنا وبنشاط في معالجة مواقفها من الحرب.
وبدلا من ان تذهب العقلية السياسية الى الاستراتيجي من الثورة التي هى المستهدف من هذه الحرب من الفصيلين المتنازعين تناولت الطعم السام من الحرب بالاصطفاف والضياع بين خيوطه ومساراته مما ضاعف من تقسيم المقسم وانتج هذه اللحظة من التوهان والعجز رغم المحاولات المدنية الداعمة لإيقافها. هذه الحرب وفي وجهها الاخر فرصة للحركة السياسية ذات المصلحة في سودان ديمقراطي مدني بان تراجع حساباتها وتوجه نقدها الذاتي بإعادة هيكلة تفكيرها وعلاقتها بالثورة والبحث في فرص تنمية فرصها ومواقفها من المستقبل والا سوف تنالها لعنة السودانيين للابد بعد كل ما جرى لهم من تنكيل ودمار بسبب توحش اللعبة السياسية القائمة منذ بدايات الصراع السياسي ولحظة تكوين التنظيمات السياسية السودانية ما قبل الاستقلال(وليس ما بعده) كما يشاع ويلاك من الالسن ذات النظر القاصر في قراءة الازمة التي تطورت الى حرب اخرجت لسانها لأكثر من مائة عام من الحياة المدنية في مراكز البلاد وفي عاصمتها التي جنت قرار اختصارها للسودان في التخطيط والتفكير العسكرى والامني والسياسي والاقتصادي والاعلامي والثقافي فأفسدت وفضحت تفكيرا وثقافة سياسية قاصرة ودون حجم المقدرات البشرية والمادية من ثروات البلد العظيم المغدور بمؤسساته السياسية وامراض نخبه المستوطنة.
wagdik@yahoo.com