استهل طرفا الصراع في السودان الجيش وقوات الدعم السريع الشهر السادس لحربهما الدموية المدمرة بمعارك طاحنة استهدفت المدنيين ومنشآت حيوية ومعالم بارزة في العاصمة الخرطوم، فيما استمر القتال في عدد من الولايات الأخرى في دارفور وكردفان وتمددت إلى مناطق جديدة، وسط مخاوف كبيرة وتحذيرات من تقسيم البلد، حيث هدد قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) من أنه إذا أعلن الجيش السوداني لحكومة في بورتسودان شرقي البلاد، فإنه سيعلن حكومته في المناطق التي يسيطر عليها، وهو ما يطرح النموذج الليببي الذي قسم البلاد إلى شرق وغرب بحكومتين متنافرتين متصارعتين.
وانقسمت الآراء داخل السودان وخارجه حول مدى إمكانية تكرار هذا النموذج الليبي في السودان، حيث تشكك كثيرون في إمكانية تشكيل الدعم السريع حكومة، ورأى البعض أن تصريحات حميدتي هي فقط للضغط على غريمه قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان لعرقلة سعيه لتثبيت شرعيته وأوضاعه وعرقلة ما يصفه بمخططات فلول النظام السابق من الإسلاميين الذين يقاتلونه إلى جانب الجيش، وبينما رأى البعض أن تشكيل حميدتي لحكومة تضم مناطق سيطرته في الخرطوم وولايات دارفور وكردفان لا يمكن أن تتم إلا بتحييد سلاح الطيران الذي يملكه الجيش ويستهدف به على نطاق واسع مواقع تمركز قوات الدعم السريع، كما رأى هؤلاء أن فكرة تبعية مناطق واسعة لأي من الطرفين هي غير واقعية لأن كل إقليم من أقاليم السودان يوجد به خليط سكاني يصعب قيادته أو توجيهه بطريقة أحادية، فضلا عن صعوبة مسألة الاعتراف الداخلي والخارجي، وأسباب أخرى تتعلق بوجود أطراف أخرى عسكرية تسيطر على مساحات من الأرض، لكن رغم كل التعقيدات والصعوبات التي تحول دول تحقق هذا السيناريو على أرض الواقع، فإن المخاوف كبيرة الآن لدى قطاعات واسعة من السودانيين من تمزق دولتهم بفعل استمرار الحرب الوحشية التي لا تعرف الرحمة وتمددها وما نتج عنها من فظائع ومرارات وأحقاد، وما تداخل فيها من أبعاد عرقية وقبلية وإثنية ومناطقية وخارجية، تعقدها أكثر فأكثر يوما بعد آخر، وما يزيد من المخاوف والهواجس هو صمت المجتمع الدولي والإقليمي، بل وما يعتبرونه تواطؤه الذي أدى إلى استمرار الحرب الجهنمية واتساع نطاقها.
وقد سارعت قوى الحرية والتغيير بتحذير طرفي الصراع من مغبة تشكيل حكومتين في المناطق التي يسيطران عليها، قائلة إن ذلك قد يؤدي إلى تفتيت السودان، وأن هذا الاتجاه يبذر بذور تفتيت وحدة السودان، ويعمق الصراع ويوسع دائرة الحرب تمهيدا لتحويلها لحرب أهلية شاملة، وأكدت أنها ستتخذ عددا من الخطوات للتصدي لمخططات تقسيم السودان والعمل من أجل إيقافها.
ويبقى أن سيناريو التقسيم وإن كان يطرح الآن على مستوى التصريحات والأفكار والاحتمالات إلا أنه يرسل رسائل قوية جدا لكل الأطراف المعنية، لأن كل التطورات الكارثية في السودان تبدأ أفكارا تبدو في أولها مستحيلة لكنها سرعان ما تتحول إلى نار تحترق بها البلد، وأول الأطراف المعنية بهذه الرسائل هي القيادات الوطنية في كل المعسكرات السودانية من أجل التحرك لإنقاذ البلد من الضياع والسقوط ليس إلى هاوية التقسيم فحسب، وإنما في مستنقع الفوضى والتشظى واللا دولة، والرسائل موجهة أيضا إلى الأطراف المعنية والحادبة على وحدة وسلام واستقرار السودان في الإقليم، والتي سيكون أي زعزعة لاستقرار السودان ووحدته وبالا على أمنها واستقرارها ومصالحها، وأول الطريق لقطع الطريق على هذه المخططات هو وقف الحرب التي فتحت وتفتح الباب لكل الشرور والكوارث.
وقد بدت الساحة السودانية في حالة سباق بين مؤججي نيران الحرب وبين دعاة إطفائها ووقفها، وهناك أطراف في الفريق الأول ترى أن استمرارها في المشهد رهين باستمرار الحرب أو إنهائها لصالحها لأن أي وقف للحرب الآن يعني تسليم السلطة للمدنيين، وأخرى ترغب في حسم الحرب عسكريا، ويبدو أن هذا الهدف بعيد المنال، وبدا عموم الشعب السوداني راغبا في وقف الحرب واستعادة السلام والاستقرار رغم حملات الحشد والتأجيج والتضليل، لأنه من يدفع الثمن باهظا على كل المستويات، وحجم الفظائع والانتهاكات والجرائم التي ترتكب بحقه يوميا مروعة، ووفقا لشهود عيان هذه الجرائم أكبر من أن يتم حصرها أو التعبير عنها عنها بالكلام، وقد بدأت قطاعات من الشعب السوداني رغم ما هو عليه الآن من ضعف وكبت وقهر في التعبير عن غضبها وتذمرها من استمرار الحرب والدمار والترويع وسوق جانبي القتال للشباب والشعب إلى حتفهم، وقد بدا حراكا لا يزال في مهده في الولايات البعيدة عن المعارك ضد استمرار الحرب أو تقسيم البلد.
وبينما تسعى قوى الحرية والتغيير إلى بناء جبهة عريضة من أجل وقف الحرب واستعادة المسار المدني الديمقراطي، عبر اجتماعها الأخير مع قوى سياسية ومهنية ولجان مقاومة في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، تتشكل الآن قوة مناوئة لها أطلقت على نفسها اسم القوى الوطنية السودانية تعقد اجتماعاتها في مدينة سنكات بشرق السودان بعد اجتماع آخر عقد في العاصمة الأريترية أسمرة، وهذه الكتلة تدعم الجيش السوداني وترغب في تشكيل حكومة تكون حاضنة مدنية لها، وهذه الكتلة تتهم قوى الحرية والتغيير بأنها حليفة للدعم السريع، وتتكون القوى الوطنية من الكتلة الديمقراطية وقوى الحراك الوطني ومنظمات مجتمع مدني وأحزاب.
وقد شهدت الأيام الماضية انقسامات عديدة داخل قوى وكيانات حزبية، على خلفية الموقف من الحرب الدائرة، أبرزها الانقسام المزلزل داخل حركة العدل والمساواة، ويبدو أنه لن يكون آخر الانفسامات في القوى السودانية.
فيما يستمر الفريق البرهان في جولاته الخارجية عقب خروجه من الخرطوم إلى بورتسودان، التي شملت مصر وجنوب السودان وقطر وأريتريا وأوغندا وتركيا، في محاولة لتأكيد شرعيته وشرح مواقفه لقادة تلك الدول، وإحباط مفعول التحركات التي تقوم بها وفود قوى الحرية والتغيير أو مستشاري حميدتي، وقد أكدت الدول جميعا على موقفها الداعي لوقف الحرب والداعم للشعب السوداني.
فيما استمر التوتر بين قادة الجيش السوداني والاتحاد الأفريقي والتراشق بعد استقبال رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فكي ورئيس ديوانه الحسن ولد لبات لوفد من مستشاري قائد الدعم السريع.
وفي تطور لافت بالتزامن مع هذا الحراك السوداني، أعلن مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى السودان فولكر بيرتس استقالته من منصبه محذرا من خطر تحول الصراع في السودان إلى حرب أهلية، وجاءت الاستقالة بعد أشهر من تصنيفه شخصا غير مرغوب فيه من قبل السلطات السودانية، وقد حمل بيرتس في تقريره الأخير أمام مجلس الأمن طرفي الصراع الجيش والدعم السريع مسئولية استمرار الحرب، وقال إنه لا تظهر أي مؤشر على التهدئة ، ولا يبدو أن أي طرف قريب من تحقيق نصر عسكري حاسم، وأكد بيرتس الذي حاول أنصار الجيش تصوير استقالته كانتصار لهم في إفادته الأخيرة ضرورة تفهم طرفي النزاع بأنه لا يمكنهما التصرف في ظل إفلات كامل من العقاب، وأن عليهما تحمل تبعات الجرائم المرتكبة”.
وقال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش في تصريح مهم عقب قبول استقالة مبعوثه إلى السودان إنه “لا يعتقد أن مجلس الأمن الدولي قادر على التوحد بسهولة واتخاذ قرار بفرض حل للأزمة في السودان”.
وفي ظل كل هذا التخبط السوداني والإقليمي والدولي وكل تلك التقاطعات التي تحيط بالمشهد السوداني تبرز عدة حقائق لا يمكن تجاوزها، أولها أن فاتورة هذا الجنون المسلح في السودان سيقضى الشعب السوداني عقودا قادمة لسداد تكاليفها ومحاولة تجاوز خسارتها وآلامها الإنسانية، الحقيقة الثانية أن على العقلاء والمخلصين في السودان والإقليم والعالم الإسراع بوقف هذه الحرب الكارثية وتقديم معادلة شاملة لبناء دولة جديدة في السودان تستوعب كل أبنائها وتقوم على الحقوق والواجبات والمؤسسات وتحقيق العدل والحياة الكريمة لكل أبناء السودان، والحقيقة الثالثة أن التخاذل عن وقف الحرب وإقامة معادلة جديدة منصفة في السودان سيفتح الباب على مصراعيه لدخول السودان في نفق مظلم طويل الأجل سيدفع ثمنه السودان والإقليم والعالم.