(علي بن أبو طالب “ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذُلُّوا)
كتب الباقر العفيف مقالة قال هي الأولى في سلسلة منتظرة حمّل فيها الإسلاميين وزر الحرب القائمة التي أرادوا منها “القضاء على ثورة ديسمبر قضاء مبرماً، وإزالة أي أثر لها، ومحوها من الذاكرة”. فأضرموها، في قوله، بغير علم الجيش نفسه بطريقتهم التي لا تتحسب للنتائج.
ألبس الباقر الشؤم للإسلاميين في هذا السياق فرماهم بجرم قامت الدلائل المشاهدة والصريحة بأنه من فعل غيرهم. فقال إنهم أرادوا بحربهم القائمة القضاء على الثورة التي سبق لهم محاولة قتلها في مهدها في ميدان اعتصام القيادة. وزاد بأنهم “قضوا على الحياة في “المدينة الفاضلة” التي أقامها الشباب في ميدان الاعتصام، حيث قتلوا شبابها، واغتصبوا كنداكاتها، وأحرقوا خيمها، وأزالوا جدارياتها، وتركوها هباء منثورا، تذروه الرياح، فلكأنها لم تكن تفيض بالحياة وتنبجس في يوم ما”.
ثم عرج العفيف على استغلال الإسلاميين لحميدتي. فهو عندهم مثل فرشة عتبة الباب يقشون عليه أحذيتهم المضرجة بالدم. فمن ذلك أنهم هم من ارتكب مذبحة اعتصام القيادة كما تقدم في حين “ينسبها الرأي العام” لحميدتي. وقرأ العفيف مسرح الجريمة ليخلص إلى براءة الدعم السريع منها. قال: “فالبداهة تقول إن إلقاء الجثث في النيل، بعد ربطها بكتل خرسانية، في محاولة لإخفاء معالم الجريمة، ليست مما يُعرف من ممارسات الجنجويد. فهؤلاء يقتلون ويحرقون ويمضون إلى حال سبيلهم. أما الكيزان فيستخدمون أساليب المافيا والجريمة المنظمة في محاولة محو آثارهم بعد كل جريمة. كذلك يستخدم الكيزان الحيل الإعلامية لخداع الشعوب وتضليلها، مثل إطلاقهم الفيديوهات التي تظهر الجنجويد في ميدان الاعتصام، وهم يدوسون بأحذيتهم على رؤوس الثوار، بينما الجثث متناثرة في الميدان، فاعتبرهم الجمهور المسؤولين عن القتل (أي الجنجويد) بالرغم عن أنهم كانوا مسلحين بالعصي”. ثم ما لبث في موضع آخر أن عيّن العفيف المتهمين حقاً وهم “نفس الزولين”، أي الجيش والدعم السريع، الذين ارتكبا جريمة فض الاعتصام متحالفين ثم صارت بينهما العداوة والبغضاء والحرب.
أحصى العفيف “حرنتين” (من حرن الحمار أي شاكس وامتنع عن السير) لحميدتي دون استغلال الإسلاميين له في ارتكاب الجرائم بحق الشعب. وكانت الحرنة الثانية هي حين تمسك بالاتفاق الإطاري في وجه معارضتهم الشديدة له حتى قالوا إنه لن يمر إلا من فوق جثثنا. فقال إن حميدتي سار كل الشوط مع الإسلاميين في الكيد للثورة لقاء صمت الإسلاميين عن تمدده مالياً وعسكرياً بهدف أن يصير صنواً لهم في الشوكة ويصير بوسعه أن يرفض استغلاله لمآربهم. فأدرك “بطبيعة الحال” (وهي لغة العفيف) حقيقة انقلاب أكتوبر 2021 كانقلاب من صنع الفلول والكيزان. فخشي أن يتخلص الإسلاميون منه إن عادوا للحكم من جديد. فحرن “بعد أن وجد مخرجا في الاتفاق الإطاري، فتمسك به في حين تراجع عنه البرهان مدفوعا بالكيزان”.
ويتبرع العفيف باللطف لحميدتي بغير وازع. فحرن حميدتي حرنته الأولى حين طلب منه الرئيس المخلوع البشير أن يقمع ثوار ديسمبر حتى لو قتل ثلثهم بترخيص من فتوى استخرجها الشيخ عبد الحي يوسف. فلم يستجب واستعصم بدارفور. وغير معلوم لماذا حرن “ولكن من المؤكد أنه رأى بأم عينيه أن طريق الخوض في الدماء هذا قد انتهى برئيسه ليصبح متهماً أمام محكمة الجنايات الدولية”. ولا أعرف من أين لحميدتي ذلك الترفع عن خوض الدماء حتى يمتنع عنه لصيت رئيسه السيء بين الدول والناس؟ فمن خاض في الدماء في دارفور حتى الركب غير حميدتي بأمر البشير ونوال من؟ ثم أن حديث الفتوى بقتل الثلث نفسه ربما كان مما سوق به حميدتي نفسه لنظام جديد في الخرطوم أراد أن يكون جزء منه بعد أن علم علم اليقين غروب شمس البشير. فقد نفى عبد الحي الواقعة مراراً وقال إنها نسبت لغيره ثم تحولوا بها له في حين كان قد حدث هو البشير في اجتماعه بالعلماء وقته عن حرمة الدماء في تسجيل معروف.
ومن باب اللطف بالدعم السريع الحاح العفيف على أن هناك من يرتكب الجرائم باسمهم. فما جاء بذكر لارتكابه لجرائم حتى خفف الوطء عليه بقوله أن هناك أيضاً من يتنكر في زيهم ويفحش في الفساد. فقال عن الحرب أنها مما يستخدم فيها “خطاب الكراهية، والتناقضات القبلية، والغبائن التاريخية، من عينة أولاد الغرب وأولاد البحر، ويجري فيها التركيز الشديد على جرائم القتل والاغتصابات والنهب والإذلال التي ترتكب بواسطة الجنجويد أو من يتزيّى بزيهم، حتى يعبئوا الشعب في الشمال والوسط خلفهم”. فزي الدعم السريع، في قول العفيف، مبذول لمنظمات الإسلاميين شبه العسكرية مثل الأمن الشعبي والطلابي والاستخبارات العسكرية وقوات هيئة العمليات. بل امتلكه حتى معتادي الإجرام الذين أطلقتهم السلطات من السجون كغطاء لفك أسر المعتقلين من الإسلاميين ومن هم أمام المحاكمة. فلبست مليشيات الإسلاميين زي الدعم السريع “وظلت ترتكب نفس جرائم النهب والسلب والاغتصاب لتنسبها للدعم السريع كسلاح في الحرب الإعلامية والنفسية وتعبئة الشعب ضده”. أما قول العفيف أن السلطات قد دلقت المساجين في الشارع كغطاء لخروج المعتقلين من الإسلاميين فإبعاد في النجعة. فمعلوم أن خدمات وزارة الداخلية في الشرطة ناهيك عن السجون قد انهارت للوهلة الأولى من الحرب. فلم تعد قادرة على التكفل بإيواء الألوف التي بعهدتها بما فيهم معتقلي الإسلاميين.
ليست مذبحة اعتصام القيادة أو انقلاب أكتوبر 2021 مما تأخذه على الإسلاميين. فلا بصمة مباشرة لهم على تلك الجرائم مع وجود القتلة والفعلة في قفص اتهام الحرية والتغيير لسنوات. ما صح مؤاخذته عليهم حقاً فهو أنهم أحسنوا لعب دورهم كثورة مضادة بخلق أحلاف وتحشيد وإشاعة ثقافة محافظة أربكت قيادة الحكومة الانتقالية ولجمت عملية التغيير. واصطنعت حاضنة سياسة في مواجهة الثورة مكنت للعسكريين المتربصين بالثورة منذ انقلاب 11 أبريل أن يعنفوا ضدها مسنودي الظهر. لقد نجحوا كثورة مضادة في مهمتهم نجاحاً ملحوظاً. ولا ينجح مثل النجاح.
كنت استعجب لاقتصار مثل العفيف من علم الحرب القائمة في البلاد ومآلاتها على جرجرة “ذنوب” الإنقاذ (حقيقية أو مؤولة) التاريخية مما هي معروفة بالضرورة. وعثرت خلال استعجابي على من وظف حالة “الجت لاق” (وهي ما يعاني منه المسافر الذي تحول من إقليم زماني إلى آخر بعيد) على أولئك الذين تحول برمجتهم على زمن لبلد المغادرة في التأقلم في نومهم ومأكلهم لبلد الوصول. والعفيف مصاب كبير بها.
من أهدى ما أهداه العفيف لنا في كلمته عبارة عن سيدنا علي بن أبي طالب. فقال بن أبي طالب: “ما غُزى قوم في عقر دارهم إلا ذُلوا” سوى أنه زاد المذلة بِلة بأنه ربما أخطأ تعيين هذا الغازي، أو أنه تستر عليه.
IbrahimA@missouri.edu