تسارعت وتلاحقت الأحداث في أعقاب خروج البرهان من حصاره لشهور في القيادة العامة بشكل دراماتيكي، وفي اتجاه غير مرغوب للشعب السوداني الصابر. ففي بداية خروجه كانت التكهنات والتحليلات ترجح أن ذلك قد تم باتفاق (Deal)؛ مما وسع أُفق ودائرة الأمل، بأن هناك سلاماً مقبلاً.
للأسف تصريحات البرهان، التي أخذ يطلقها؛ وفق مفهوم المصطلح السوداني “قدر ظروفك”، قد خيبت كل التوقعات. فهو له أمام جنوده في كرري وعطبرة خطاب، وفي بورتسودان خطاب ثانٍ، وعند جيراننا في الشمال خطاب ثالث.
إنَّه يتسوق سياسياً بطريقة مكلفة ومربكة (political shopping)، رغم أن فرضية الاتفاق السياسي(DEAL )لا تزال قائمة، وإن تمرد أو انقلب عليها البرهان، ومضى في اتجاه معاكس تماماً، بتجديد إعلان الحرب حتى آخر جندي!
هذا بالطبع استعدى عليه كثيرون، وخاصة الشعب المكتوي بنارها؛ لأنه لا يعكس إلا عدم المسؤولية تجاه وطن ومواطن تشرد وعانى كل إفرازات حرب، خُطط لها أن تكون سويعات أو أياماً، فإذا بها اليوم تدخل شهرها السادس؛ لذا كان الافضل أن تكون أولوية البرهان وقف الحرب، لا زيادة إشعالها.
كثيرُ منا عاصر الحرب العراقية الإيرانية في بداية ثمانينيات القرن الماضي وضراوتها، فتلك كانت بين دولتين تحملان على ظهورهما ثأرات تاريخية، تمتد الى الدولة الساسانية الضاربة بجذورها في العز والمجد الامبراطوري القديم، وفقدته مع الفتوحات الاسلامية. حيث تصور المخطوطات الإيرانية قائدها بهرام جور وهو يصطاد أسد، ويروضه من على ظهر حصانه بالسوط، فكان ذلك يمثله آية الله الخميني، وهو يقف في وجه القائد المهيب صدام حسين رمز العرب، سليل بطل فتوحات القادسية والمدائن، القعقاع بن عمرو التميمي، القادم من الصحراء بعقيدة التوحيد “لا إله ألا الله محمد رسول الله” وقلوب تمتلئ إيماناً وعزة لنصرة نبي الرحمة.
لقد دارت الحرب سجالاً بين إيران والعراق، إلى أن حسمها العراق، فدكت قذائفه الصاروخية معاقل الجيش الإيراني شبراً .. شبراً. وعندما أيقن أية الله الخميني هلاك جيشه ودمارالبلاد والعباد، ورغم ثوريته الطاغية التي أنطلقت من باريس لتوطين التحرير والتغيير في إيران، وربما المنطقة كلها، إلا أن ضميره الوطني قد استيقظ في تلك اللحظات الحرجة من سير هذه الحرب المدمرة لبلده. ورغم مرارة إعلان هزيمته والاستسلام، لكن حبه لوطنه أجبره على إنقاذ ما تبقى، فأعلن استسلام إيران في خطاب جاء في لغة فارسية حزينة، لكن في شجاعة “بهرام جور”، حيث قال عبارته المشهورة ” نوشيدن جام زهر ” لقد قبلت الاستسلام وتجرعته كالسم. إن الشجاعة في الاعتراف بالواقع فضيلة، فأين نحن من شعار “بل بس”، وهم المبلولون قال.. قال مفهوم خذلوهم عنا، إنها المكابرة.
نعم يختلف حال الحرب العراقية / الإيرانية وأسبابها، عما يجري في السودان، لكن الأمر في معناه واحد. وهي الحرب، هي الدماء والدموع والأحزان والشتات، ودمار كل شيء. ولابد من قرار شجاع لوقفها، حفاظاً على سلامة المواطن، ووحدة الوطن. فأين نحن من وطننا الذي يحترق ويتمزق أمام أعيننا. وما زال التحشيد يتم لدى الطرفين، بل تعدى ذلك العسكر إلى التحشيد الشعبي والمناطقي، لإعادة مُلك لم تُحسن هذه الفئة إدارته، فقامت ثورة ديسمبر المجيدة التي لسان حالها يقول “إن ربك أوحى لها” فأسقطته، وكان قوامها الشباب والكنداكات، وكان سلاحهم الكلمة، وشعارهم: سلمية سلمية ضد الحرامية.
واضح أن العاصمة قد خرجت من سيطرة فلول قادة جيشنا المختطف، لكن التعبئة تواصلت في مدن أخرى تحت رايات عديدة كانت معلومة بوضوح لشعبنا الذي يقرأ ما بين السطور، ويقف جاهزاً، لردع عودة من أذاقوة الذل في بيوت الأشباح، وأشعلوا النيران في كل مكان. مع تأكيد أنَّ الرأي العام بعد 15 ابريل قد تحوّل وأستنار، ولم تعد تنطلي علية أُكذوبة “إنهم غزاة مرتزقة من خارج الحدود” إنه خطاب فقد مفعوله.
إنهم فتية من أبناء المزارعين والرعاة الذين عاشوا سنيناً في غابات الريف جهلاً وفقراً، واليوم آمنوا بقضيتهم، وشاءت الاقدار أن ينقلوها الى مركز القرار، وإن أخطؤوا في بعض التقديرات، لكن نقول إنها الحرب حيث تغيب فيها المثاليات. هذه المرة جاءت محاولة التغيير والتصحيح بعد أن أختلط فيها الدم مع شعار السلمية “حرية .. سلام .. عدالة ” الذي وأدتهُ انقلابات تكررت فنجحت. فحرب 15/ ابريل كانت متغيراتها كبيرة، تجاوزت رمزيتي البرهان / حميدتي الى أزمة وطن متطاولة، وأكدت ضرورة قيام سودان جديد.. سودان المستقبل، وتصحيح منهج موروث عن المستعمر أي كانت التسمية.
السؤال الحرج.. هل السودان فعلاً على أعتاب حرب أهلية شاملة؟ الإجابة .. نعم كل شيء وارد، إذا لم نجنح إلى الحكمة والتعقل.. وستتوسع دائرة الحرب الأهلية الشاملة لتشمل مدناً ما زالت آمنة، لم تشهد في تاريخها القريب مثل هذه الحروب المؤلمة. وسيحدث ذلك طالما أستوطنها أُمراء الحروب، وأخذوا يجيّشون منها حملات تُغذي نيران حروب دخلت كل بيت. فهل سيتركها الطرف الآخر ولا يستهدفها، لأجل تجفيف هذه المصادر، وفي ذلك يعني تمدد وانتشار الحرب الأهلية الشاملة في كل أضلاع الوطن، وسيكون ضحاياها من الأبرياء كُثُر.
هنا تستحضرني من التاريخ، الحرب الاهلية الأمريكية الشاملة (1861 -1865م) بين الشمال والجنوب الامريكي. والمفارقة فيها أن التصحيح والتغيير، قد جاء من المركز وليس الهامش. فقد بادر إبراهام لينكولن من الحزب الجمهوري، وكان له شرف سن تشريعات كانت من أبرز مقاصدها منع الرق وتحرير العبيد. في ذلك الوقت كانت أمريكا تجمعاً للمستعمرين من الإنجليز والفرنسيين والبرتغاليين والاسبان والهولنديين، تتقاطع مصالحهم لكن يجتمع أغلبهم على استمرارية الرق. هذا إضافة الى فئتين من المستضعفين من السكان الاصليين والزنوج المجلوبين من أفريقيا، للعمل عبيداً في مزارع البيض في الجنوب الامريكي. أثارت هذه التشريعات، موجة من غضب البيض في الجنوب؛ لأنها ستضر بمصالحهم التي تعتمد على العبيد. فأعلنت (11) ولاية الانفصال من الاتحاد الفدرالي. فوقعت الحرب بين الشمال الفدرالي والجنوب الكنفدرالي التي أزهقت نحو 750 ألفاً من الأنفس. ففرض إبراهام لينكولن الإصلاح بالقوة وغزا الولايات المنفصلة في عقر دارها، وأعاد توحيد أمريكا، ولكن كلّفه ذلك في نهاية الأمر حياته، حيث أغتاله متطرف أبيض في 15 ابريل 1865م (نعم تلتقي تواريخ الأحداث احياناً)، لكن بعد تحقيق هذا الهدف النبيل.
صحيح الآخر ليس قدوتنا، لكن التاريخ ملئ بتجارب الشعوب التي يجب أن نتعلم منها. وفي إطارنا المحلي، فقد قامت قامت السلطنة الزرقاء بعد أن سالت دماء غزيرة، وقامت الثورة المهدية بعد تضحيات جسام، فحررت البلاد من المستعمر، وحددت الحدود تحت أسنة الرماح وحوافر الخيل. سلطنة آل فور القوية، التي امتد فضلها حتى أرض الحجاز وكسوة الكعبة، كانت إنجازاتها بقوة سلطانها، وحسم المعلق من الأمور لا التعايش معها. نعم لابد من السيف أحياناً لكن الأفضل ألا يخرج من غمده إلا للحسم القاطع والتصحيح.
نحن السودانيين دائماً تأتي حلولنا متأخرة بعد أن تتضاعف خسائرنا ومآسينا. حاربنا الجنوب أكثر من خمسين عاماً، حتى لا تكاد أسرة في الشمال والجنوب إلا ولها شهيد، ثم تراضينا بعد كل هذه الدماء على الانفصال الذي كان ينبغي أن يكون مبكراً أو لا يكون مطلقاً. قتل وأباد قادتنا مواطنيهم في دارفور وكردفان والنيل الأزرق؛ لأنهم طالبوا بحقوقهم في التنمية المتوازنة والمشاركة في السلطة والثروة. وكانت تكلفة هذه الحروب العالية في البشر والمال كفيلة ببناء هذه المناطق مرتين مع كامل الرفاهية. إنه سوء التقدير والتعالي والاستعلاء على بعضنا مع عدم التجاوب مع التغيير والفهم الحكيم.
التصحيح والتتغيير لابد له من ثمن وتضحيات، لكن: هل لنا في السودان أن نتجنب التجارب المكلفة، وصولاً إلى حلول نتراضى عليها مبكراً قبل فوات الأوان؟ ولأجل وضع شعار ثورة ديسمبر المجيدة “حرية .. سلام .. عدالة ” موضع التنفيذ، علينا أن نقبل التصحيح دون مكابرة أو مزايدة، ولا يقول بعضنا إننا خلقنا فقط لنحكم ونقود.. وهل سيقف الشعب السوداني مكتوف اليدين تجاه عبث إعلان حكومة في بورتسودان، ليتبعه قرار تشكيل حكومة في الخرطوم؟ والذي يعني عملياً تقسيم البلاد.. قطعاً هذا لن يقبله الشعب حتى لو أدَّى إلى حرب أهلية شاملة لتثبيت وحدة الأرض والتراب، وكفي حسرتنا على انفصال الجنوب الذي تم تجاهل نُذره منذ وقت طويل.
الشعب السوداني قد ضاق وملّ الصراعات الطويلة وأحتكار القرار، وشبابة قد تشرد، وجيرانه المخلصون قد عز عليهم إيجاد الحلول المستدامة، وهم يستضيفون المفاوضات، و يقدمون النصح ويشاركوننا في تحديد الأولويات، بينما قيادتنا تطوف العالم، إلا ذلك البلد الذي قدم كل شيء ولم يستبق شيئاً (عذراً للشاعر العظيم د.ابراهيم ناجي). والشعب السوداني اليوم يوجه رسالة لهذه القيادات الفاشلة اوقفوا هذه الحرب الآن وانسحبوا من المسرح، ولابد من جراحة عاجلة مهما كانت قسوتها. وأعيننا وكل تركيزنا يتجه نحو إخواننا في الحركة الشعبية شمال في الأحراش (الحلو) وحركة تحرير السودان (عبدالواحد) تعالوا إلى مائدة الحوار لسودان جديد.. سودان المستقبل، والشعب قد تفهم طرحكم، وكفى تباعداً..
مقال ممتاز جدا أخي الكريم أبو زهير ، لقد كفيت و أوفيت ونصحت و خير الكلام ما قل و دل و على الذين في سنام الأمر ، أخذ هذه النصائح مأخذ الجد ، كما يمكن الوعد بالصلح الشامل الذي لا يستثنى أحد بعد الاعتراف بالأخطاء
نسأل الله أن يجد هذا المكتوب اذن صاحية وان يتم السلام في الوطن الغالي وان يسدد خطاوى كل من سعا للسلام