في موازاة الحرب الشرسة الدائرة الآن في السودان، هناك حرب أخرى وسط ركامها، تأبى أيضا أن تضع أوارها، بل تزيد في تأجيج النيران. صحيح أن هناك عوامل داخلية وخارجية عديدة تسهم في إطالة أمد الحرب وتعقيد المشهد، لكن الانقسام العميق في الساحة السودانية والاستقطاب الحاد بين القوى المتصارعة، هما من أهمها في تقديري.
القوى السياسية، وبشكل خاص قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) من جهة، والإسلاميون من الجهة الأخرى، يخوضون معركة ضروسا يحاول كل طرف فيها إلقاء المسؤولية على الطرف الآخر، بدءا من مسألة من أشعل أوار حرب 15 أبريل (نيسان)، ومن المسؤول عن تعثر الفترة الانتقالية، مرورا بالجدل حول نشوء ونمو قوات الدعم السريع، ثم الجدل حول كيفية إنهاء الحرب.
الحقيقة أنه قبل أن تندلع هذه الحرب كانت نذرها لا تخفى على كل ذي عين بصيرة، بل تكررت التحذيرات من كثير من العقلاء من أن الصراعات المستعرة تقود البلد نحو حرب محتومة. الانقسامات كانت عميقة وسط المدنيين ووسط العسكريين وبين المدنيين والعسكريين. كل معسكر يحاول ويعمل لهزيمة المعسكر الآخر وإقصائه من المشهد السياسي، ما أدى إلى تصاعد حالة الاحتقان، وتزايد الاستقطابات السياسية والجهوية التي امتدت من المركز إلى الأطراف، وأججت التوترات. لم يؤد كل ذلك إلى تعثر الفترة الانتقالية وإسقاط حكومتها المدنية فحسب، بل أسهم في تراكم العوامل التي أفضت في النهاية إلى الحرب.
المصيبة أنه بدلا من أن توظف الأطراف الدرس القاسي، وتغير في نظرتها للأمور من أجل مصلحة البلد في هذا المنعطف الحرج، فإنها تواصل اليوم معاركها، وتتمترس في المواقف والرؤى ذاتها، بل أصبحت أشد حدة في بعضها. في صلب هذه الأزمة هناك البعض الذي لا يرى هذه الحرب من منظور الدمار الذي ألحقته بالبلد، والمعاناة غير المسبوقة التي سببتها للمواطن، بل يراها من منظور حسابات سياسية ضيقة فرصة لإقصاء خصمه وإبعاده عن المشهد، أو منصة للعودة إلى السلطة. يبدو هذا واضحا من الخطاب الطاغي على المشهد في الإعلام أو في منصات التواصل الاجتماعي بأنواعها، وهو خطاب تسيطر عليه مجادلات لا تنتهي، ولغة حادة تصل أحيانا إلى تخوين المواقف والأشخاص بسبب التباينات في الرأي.
فالإسلاميون الذين سيطر عليهم هاجس التهميش والإقصاء من المشهد السياسي بعد الثورة يرون في هذه الحرب فرصتهم للعودة إلى المشهد أو للسلطة، ويعدون اليسار وبعض الأحزاب الصغيرة الأخرى المعادية لهم، هي التي تتولى توجيه دفة الأمور في تحالف قوى الحرية والتغيير في ظل الضعف الذي اعترى الأحزاب الكبيرة (الأمة والاتحادي الديمقراطي)، وأنها تعمل على إبعادهم وإقصائهم، ولن يكون هناك مجال لتوافق بين الجانبين.
في الطرف الآخر يرى التيار الغالب في قوى الحرية والتغيير أن الإسلاميين بعد ثلاثين عاما في السلطة تغلغلوا في مختلف مفاصل الدولة، بما في ذلك الجيش وأن هذه الحرب فرصة لتحجيمهم، بعدما تعطلت الجهود السابقة في الفترة الانتقالية لتحقيق هذا الهدف بعد انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، وأنه من دون ذلك لن يكون هناك استقرار لأي مرحلة مقبلة بعد أن تنتهي الحرب.
السؤال هو: هل هذا ما يحتاج إليه السودان في هذا المنحنى الخطير؟
الحقيقة أن الإقصاء ظل مشكلة السودان لعقود وتسبب في زعزعة استقراره، وأسهم في حروبه، وفي سلسلة الانقلابات العسكرية التي عصفت بتجاربه الديمقراطية القصيرة. وليس صحيحا أن تسييس الجيش بدأ في عام 1989 مع انقلاب الإسلاميين (الكيزان) الذي كان واجهته العميد آنذاك عمر البشير. التسييس بدأ في وقت مبكر، وتورطت فيه أكثرية القوى السياسية، إن لم يكن كلها بدرجات متفاوتة.
أكثر من ذلك، فإن سياسات الإقصاء والتهميش التي شاركت فيها مختلف الأحزاب والقوى السياسية بدرجات متفاوتة وفي مراحل مختلفة عطلت الوصول إلى حلول لأزمة الحكم المزمنة، والتوافق حول كيف يحكم البلد وكيف نعالج قضايا الهوية والمواطنة والتأسيس لدولة مستقرة، ولنظام ديمقراطي قابل للحياة.
ما يحتاج إليه السودانيون اليوم للخروج من عنق الزجاجة هو التوافق بدلا من محاولات الإقصاء التي دفعت الأمور نحو هذه المهلكة الراهنة. البلد يواجه أولا تحدي إنهاء الحرب، وبعدها سيكون أمام جبل من المشكلات والتحديات لإعادة الإعمار واستعادة الدولة، وهو ما يتطلب توافقا عريضا يحقق نوعا من الاستقرار الذي من دونه لن تخطو الأمور نحو الأمام، ولن تنجز المهام الكبرى، بل قد يواجه البلد نكسات أخطر، ومهددات أكبر.
غالبية السودانيين همهم الأول الآن هو إنهاء الحرب وعودة الأمن والاستقرار الذي يسمح لهم باستئناف حياتهم. والسؤال الذي يردده كثيرون: ما الأولوية في هذه الفترة العصيبة، الخلاف مع الإسلاميين (الكيزان)، أم أزمة الوطن؟
الأولوية التي تسمعها من الكثيرين حتى الذين يختلفون بشدة مع الإسلاميين، هي مصلحة الوطن، وكيف نعبر به من نفق هذه الحرب التي استنزفته وأرهقت شعبه وتكاد تهدد وجوده.
الخلاف مع الكيزان خلاف سياسي قابل للتأجيل، لكن أزمة السودان الراهنة ليست قابلة للتسويف والمماطلة السياسية. أما الإقصاء فينبغي أن يكون أمره للشعب عبر صناديق الانتخاب متى ما وصلنا إليها.
عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.