شاهدت عدة فیدیوھات وصور تظھر الناس فى فارسكى فى فعالیات مختلفة جرت مؤخرا.فحن قلبى وغنى ونادى رغم اتساع الفضاء البعید.أغلب تلك الوجوه لعائدین فى موجة النزوح الأكبر الذى يتجاهله العالم .لقد ترك ھؤلاء كل ما یملكون خلفھم فى الخرطوم وفروا بسبب النزاع الذى أشعله الاخوانجیة الذین لا یرون اى قیمة فیھم ولا فى الشعب السودانى بأسره .لقد فشل العالم فى ترجمة تعاطفه مع السودانیین الى مساعدات تصلھم عن طریق أشخاص یخافون الله خلاف الكیزان الذین یتاجرون الیوم فى الاغاثة،الأمر الذى یفاقم مأساة أهل ھذه البلاد..رأيت الناس فى قریتنا فى حبور وكانى بھم یقولون أن عودتھم تأخرت كثیرا . ترى البشر فى وجوھھم وقد وجدوا أنفسهم بین یدى الحكمة المحلیة مجددا ینھلون من التراكم الحضارى الكثیف. عادوا الى البيئة المثالیة المریحة التى نشاوا فى رحابها .. حیث لا تنتابك ایة مشكلات متعلقة بالھویة ولا یفرض علیك احد ھویة مزدوجة ..عادوا للناس الودودین البشوشین المفیدین أھل الثقة الذین یكون واحدھم على استعداد لكى یقدم لك الخدمة فى حالة الطوارئ ،والجیران الطیبین الذین یبتسمون لك من خلف الاسوار وفى قارعة الطریق عدة مرات فى الیوم .وھم وإن لم یجدوا الحكیم صالح سروج والوجوه التى ترتاح لھا الروح یدركون لا محال أنه لا مناص من العودة لخبرة الأجداد الذین كانوا یطوعون الأرض القاحلة ويجعلونها تتنفس!!! عادوا فى ھذا الظرف البائس وباتوا أمام تحد الاتحاد مع اخوانھم لأخذ زمام المبادرة لایجاد حلول عملیة تعالج التحدیات شدیدة الوطأة التى تھدد حاضرھم ومستقبلھم .. اذ لیس أمامھم من حل سوى بناء أشكال جدیدة من التعاون بین الزراع والجھات الفاعلة من أجل احداث ثورة فى الزراعة بغیة تصدیر منتجاتھا لاسیما وان قرانا تقع فى منطقة یخترقھا خط المرور السریغ وھو امر مثالى لم یكن متوفرا عندنا عندما كانت السواقى ترسل أنينها فى اللیل والنھار.، أحصيت فبل نحو اسبوعين فى احد متاجر الحلال فى فرجينيا ثمانية أنواع من عسل التمر العراقى الذى يسمونه ( الدبس ) فى عبوات جميلة وقلت ماذا لو حول ناسنا عسل البلح الذى يصنعونه فى البيت الى استثمار تعاونى لتصديره إلى أمريكا ، ورأيت الناس يهرعون فى الصيف للسياحة عند شلالات نهر البوتوماك وتذكرت شلالات كجبار و تمبس ومناظرهما الخلابة . هل یا ترى وجد ھؤلاء العائدون الأشياء ھى نفسھا التى تركوھا قبل ٣٠ عاما وھل بنیت بیوت فسیحة جديدة تزينها النقوش التلیدة. ھل بنیت متاجر جدیدة أم أن الأشياء لم تتغیر كثیرا وھل منظر النساء فى الصباح الباكر وھن یكنسن محیط البیت فیما الجدات ینثرن ماء البلیلة على أركانه مازال مبھرا . ھل ما یزال شبح ستنا فضل قائما یھدد الأطفال من قطف النبق من شجرة السدر جوار بیتھا وھل مازال النیل الخالد یردد أصداء صخب المزارعین وھم عائدون فى المغیرب من جزیرة بجبوج. وھل مازال الجدول العتیق ملیئا تسیل منه المیاه . ؟؟؟ یا الھى .. كيف یتحمل ھؤلاء مشقة استعادة الذكریات فى كل ركن من القریة ؟! شيىء محزن رؤیة الماضى المتناقض كلیا مع الحاضر المریر .والحق ان الحاضر رغم مرارته یذكرنا بما كان يقوله الناس فى الماضى اذا اراد الشاب منا اكتشاف الحیاة فى الغربة : أنه من الأفضل لك أن تقتنع بالعیش ھنا وان نمط الحیاة فى القریة یستدعى التضحیة المالیة والمھنیة من فرط لذة الحياة فيها .وأظن أن لسان حال الكل یقول حصل خیر لقد دخنا فى الموانئ والعواصم وعدنا .. وقد يباغتونك ماذا عندكم تقدموه لنا؟ ولا شك ان الاجابة المثالية تتمثل فى دحر معضلة التشرذم المتفاقمة والتى تحول دون تفجير الطاقات ثم تداعى الجمیع لخلق فرص جدیدة واشاعة ثقافة جدیدة تدفع ھؤلاء العائدین للاستقرار الدائم فى مسقط الرأس واقناع كل واحد منھم بان استنفارھم للدفاع عن بيته ومنطقته ومسقط رأسه أولوية لأن من لایشعر بالانتماء للوطن الصغیر لن یشعر بالانتماء للوطن الكبير.لقدخرج معظم ھؤلاء فى سنوات الضیق عندما كانت سلطة الكیزان الغاشمة تطبق على البلاد والعباد بكلتا یدیھا .. الآن توفرت الكھرباء والمیاه والانترنت والھاتف وریحھم الله من النفایات وعوادم السیارات والعوائد والجبایات والصرف الصحى الذى یصدر روائح كریھة .. ھنا یمكنھم الخروج فى مشاویرھم طول الیوم دون تغطیة أنوفهم بالعمة كما كانوا یفعلون لمواجھة غبار الحاج یوسف المایقوما .. وبات بامكانھم الاستمتاع بنزھة ھادئة على شط النیل والتمتع بنوم عمیق بدون ضوضاء او خوف من زوار الليل،. لاشك ان العائدین سیلعبون دورا حاسما فى إبطاء عملیة فقدان السكان فى مجتعاتنا الریفیة وكذلك فى مسالة تجدید القاعدة السكانیة وتولید فرص عمل جدیدة وزیادة راس المال البشرى .وستؤدى عودتهم لزيادة الطلب على الخدمات المحلية وخفض تكاليف الخدمات العامة للفرد ، كما ان الحاق اولادهم بالمدارس سيحدث فرقا فى البرامج التعليمية يكبر معه النظام المدرسى فى الناحية علاوة على أنهم سيشجعون استخدام التقنية الرقمية واصلاح خدمة شبكة الهاتف والانترنت فى سبيل الاستفادة من افضل المعارف المتاحة ، إن العائدین من الأطباء والصیادلة والمھندسین والتربويين والتجار یجلبون معھم الى وطنھم الصغیر التعلیم والخبرات المھنیة والمھارات القیادیة التى يجب توظیفھا بطریقة صحیحة لكى تعطى نتائج ایجابیة. لكن شیئا من ذلك لن یحدث مالم یتحد الجمیع مقیمین وعائدین رجالا ونساء شیبا وشبابا من كل القرى لتكوین جبھة واسعة -دون إبطاء -تكون أولوياتها ابتكار وسائل جدیدة للتوعیة تقنع الجمیع بان تقدیم الدعم للمجتمع یبدأ من كل واحد فیھم .ما یستلزم انخراطھم ككتلة واحدة فى العمل الطوعى والخیرى التعاونى وجمعیات البزنیس والمشاریع التنمویة فى الزراعة والصناعة والتعلیم والصحة .المطلوب الآن بالحاح التفكیر فى استثمارات موجھة نحو الأسرة تعزیزا للامكانیات السكانیة ونمو الاقتصاد.لأن التحدیق قى الأفق بلا طائل وانتظار المستحیل یمكن أن یحدثا زیادة عكسیة فى مستوى الفقر الأمر الذى سیؤثر غلى العلاقات الشخصیة بین الناس ویعزز العزلة داخل مجتمعاتنا . ولتفادى كل تلك السلبیات یجب ان نستفید من الروابط الاجتماعیة القویة داخل كل قریة لأنها تساعد على حمایة الرفاھیة من خلال الشعور بالعمل الجماعى والتعاونى ورعایة المجتمع .ان التزام الناس تجاه المجتمع ھو الذى یجعل الحیاة رائعة. المھم أن یحعل الناس مسالة خلق فرص عمل جدیدة ھدفا لخطة استراتیجیة .. لدينا القدرة على خلق مجتمع اكثر عدلا وحرية ورفاهية اذا تمسكنا بالتكاتف الذى هو أساس التغيير . منذ اندلاع الحرب ونزوح الناس للبلد بح صوتنا ونحن نطالب الفاعلین فى المنطقة بترك الانطواء والانكفاء والانتشار فى القرى والنجوع لاستغلال مشاعر الانتماء والروابط الاجتماعیة التى تعزز مشاركة المجتمع وتحفز العائدین على التماھى معھم من اجل خلق ابتكارات اجتماعیة فى مجالات الحیاة بالذات فى مسالة الخدمات والتعلیم والتدریب لمواجھة تحدیات القرن.. ما طالبنا به شیئ متواضع للغاية متمثلا فى استنساخ رياديين وقیادیین فى ھمة محمد أحمد ابراھیم فى اتحاد المحس التعاونى وعبد العزیز حسن على فى اتحاد السكوت التعاونى.وكنت قد سألت فیلد كبير المزارعين فى المحس الراحل ابراھیم شالى لماذا صوت لمحمد احمد ابراھیم فى انتخابات ١٩٨٦ رغم ضالة فرصته فى الفوز فقال لى : واحد بیجى ینزل لى الجازولین فوق المشروع كیف لا اصوت له !! لو كان فى الامكان أن أهمس فى أذن كل شخص من فارسكى الى حلفا الى دنقلا لقلت له كلمة واحدة وھى أنه یجب أن یدرك أنه لیس مطلوبا منه أن یكون مسئولا فى الحكومة أو فى المحلیة لاحداث تغییرات فى قريته وأن الأمر فى یده اذا تعاون مع ناسه من خلال التفكیر محلیا لاتخاذ اجراءات فوریة تعود بالنفع علیھم وعلى الناس من حولھم. الأمر الآخر أننا قبل الحرب كنا نتفاكر حول كیفیة توفیر اسباب العودة الطوعیة الى قرانا ومن خلال متابعة ھذه الأمور على مدى شھور وصلت لقناعة بأنه لن یتسنى لنا تحقیق الغایات مالم یحدث تغییر ایجابى فى رؤيتنا وتفكیرنا وسلوكنا .كثیرون بیننا یظنون خطأ ان دفع ناسنا لعرض قضیتھم على العالم وطلب المساعدة لایجاد حلول لھا عيب وعدم وطنیة .بینما الأصل فى مثل ھذه الامور ھو ان صمتك وغفلتك وتركك انسانك وارضك أمام خطر الھلاك هى الجريمة الكبرى التى ترقى للخيانة العظمى.بخاصة وأنك لا تملك دولة قادرة على إعادة توطین المحتمعات الریقیة لا فى السلم ولا فى الحرب .كان عندنا دولة فاشلة تختبئ وراء مركز ظالم كان یحیك المؤامرات ضد شعوب السودان وقد سلط الله علیھما ملیشیا دمرتھما شر تدمیر ووضعت الكرة فى ملعب شعوب السودان . وفى ظل استطالة هذه الحرب المجنونة واحتمالية توسعها لن يوفر لكم أحد الحماية ، وقد كان الامين العام للامم المتحدة أنطونيو غوتيريش واضحا بخصوص صعوبة قيام مجلس ألأمن بواجبه المتعلق ب ( الاستجابة الجماعية الحاسمة وفي الوقت المناسب إذا فشلت أية دولة بشكل واضح في مسؤولياتها المتعلقة بالحماية) بالنسبة للسودانيين ، لقد جاء أوان تمييز الخيط الأبيض من الخيط الأسود .. فبأي العدسات تنظرون الى الطوفان القادم ؟
مقال ممتاز وموجه لمن يسمع من أبناء تلك المناطق ليخلق من الأزمة فرصة فالمنايا في طى البلايا والمنن في طى المحن