لقد سطَّرت قبيلة دارحامد فزارة بطولات تاريخية وانتصارات عظيمة وفق مروياتها التي يتطابق بعضها مع وقائع تاريخية موثقة. وساهمت بالتالي بسهم في تشكيل خريطة الدولة السودانية الحديثة.
فمنذ فجر التاريخ كانت حاضرة، في السلطنات والممالك القديمة ولها سجالاتها خلال فترة الحكم الخديوي /العثماني سواء في مواجهة حملة محمد بك الدفتردار ضمن جيش المقدوم مسلم أبريل ١٨٢١م أو لاحقًا في القضاء على شاكر افندي باشا باستنساخ أسلوب المك نمر، عبر استدراج شاكر الى وادي لا يزال يحمل أسمه غرب قرية القاعة. ولهذه الجماعة دورها الأسبق في سلطنة الفور وتمردها على السلطنة والتحالف مع السلطنة السنارية فضلًا عن الدور البطولي المهم في الدولة المهدية. والذي بدء من قدير الى معركة أزحف الى حصار بارا وإلى الأبيض وشيكان والى تحرير الخرطوم ١٨٨٥م والى الاشتراك في معارك النخيلة ومعارك شرق السودان وتأديب القبائل التي تمردت في كردفان ودارفور وتاديب ملك الحبشة حين احتل القلابات.
وهذا المسدار للشاعر ابو سارة أقرب لصرخة مفجوع في واد الصي السوداني الدامي، ينفخ الروح في هذا التأريخ. فهو بقدرما يستنطق التاريخ ، يبكي مأساتنا السودانية ويبكي سفك دماء بعضنا البعض. انه يكتب مناحة في مأساة وطنه. وقد استخدم حادثة الفزع ليستعيد تاريخ فزارة وليستصرخه لاستنهاض الهمم في القبيلة التي ينتمي اليها وفي السودانيين وخصوصًا يستنهض عقلاء أهله ويدعوهم لاستنساخ جهاد الآباء وينادي في وادي التاريخ وينفخ فيه الروح من جديد ليكون ملهمًا وبوصلة للحاضر الدامي ! يقول في هذا السياق :
(ها دا التاريخ بِعِيدْ نفسه ومعارك بارا
دارحامد عزاز نسبة وجذورنا فزارة)
ولابد من بارا فهي لها رمزيتها التاريخية عند هذه الجماعة.
وكان الشاعر استهل القصيدة بأبيات داله على هذا البعد اي استلهام التاريخ وبطولاته ليلوح به في وجه المعتدي. ثم انتقل في صورة ميلودرامية يستعرض بطولات اهله فاشار الى إهتمام الاعلام بفزعة أهله التي بثتها(الجزيرة )فهي قناة فضائية كبيرة ولكنها ليست استثناء فقال:
نصرا مو جديد
في (الجزيرة) انذاع
ثلاث ساعات فقط
خمشو البقولو سباع
يقول النقاد روعة المطلع تنبيء عن روعة القصيدة. وقد سارت القصيدة من مطلعها تتغزل في البطولات وتستعرض التاريخ وتهز بالسيوف بالايدي التي حزت راس هكس وبمعركة شيكان وبتحرير الخرطوم وكيف أن الامير امبدا كان يسابق الزمن لكسر كبرياء غردون وتجبره:
(قبيل امبدا حاش غردون على الزردية عقبان حرر الخرطوم ضهر زندية).
ثم انتقل الشاعر لاستعراض دور دارحامد فزارة في سلطنة الفور فقال:
(التاريخ يسجل صيتنا في دارفور فرسان حوبا وكت الموت قلب بالدور نحنا قدحنا للضيفان قسم مشهور .. إلا شينين تباً للعادانا حور)
وفي ذات المقطع يلوح بدور حضاري لقبيلة فزارة في نشرها اللغة العربية وكتابة (اللوح ) الذي طالما تميزت به دارحامد رجالا ونساء وفي الحقيقة هذا دور لا تزال تنهض به خلاوي القرآن في المنطقة ويدل عليه عدد الحفظة أمثال المقرئ نورين رحمه الله واحسن اليه.
ولا يكف الشاعر يؤكد دور القبيلة القومي الذي يتخطى حدود الدار الى المساهمة في تأسيس دولة السودان التاريخية وهذا منحى جيد في زمن الكراهية والتعصب للقبيلة وللجهة . وفي هذا الجانب أكد الشاعر امتلاكه ناصية الكلمة على نحو امتلاكه لناصية الوعي والالمام بتاريخه وبعطاء أهله.
وهنا لم يغفل الشاعر اصاله دار حامد فزارة وعروبتها وفضائلها في استيعاب مكونات سودانية او في التصاهر والاندماج مع المكونات العرقية بالمنطقة وقدم دليل إثباته باحتضان كل انسان في ارضهم التي بين كيفية امتلاك دارحامد لها فهي حسب الشاعر دفعت (ابل وناقة) . ربما دفع ثمن الأرض للسلطنات القائمة يومها بإسم المسبعات او لعله يقصد فترة المقدوم مسلم الذي خاضت قبائل دارحامد معركة القيقر التي توقف فيها الشاعر وأسماها معركة بارا. وذكر الشاعر المقدوم مسلم قائد منازلة حملة الدفتردار وعندما هُزم المقدوم فرش فروته ليقابل الله شهيدًا ففرشت فرسان دارحامد فزارة الفروة ولكنها قبل فرش الفروة ارسلت دارحامد فرسان انتحارين لوضع (الوسم ) على مدفع الدفتردار كشاهد على البسالة والرجالة وعلى المجابهة الغير متكافئة.وللتأكيد بان وقفة القيقر في بارا تساوى وقفات جميع مناطق السودان من الدويم الى المتمه التي خربها السفّاح الدفتردار وعاث فيها فسادًا.
وفي معركة بارا الثانية في الفترة المهدية أسهمت قبائل دارحامد فزارة بسهم كبير في تحرير بارا مرة اخرى بعد محاصرة جيش الأتراك لفترة طويلة ثم كسرها جردة بقيادة أبو كوكا التي حاولت كسر الحصار ولكن فرسان دارحامد فزارة والجوامعه قضوا على جردة ابو كوكا في منطقة (كو ود جفون) إلى الشرق من بارا ومعركة كو ود جفون كانت في أواخر نوفمبر ١٨٨٢ م ولم يوثق لها الا باشارة سريعة من نعوم شقير. ولكن من شراستها لم يسلم من أفراد الجردة إلا قلة وعندما وصلوا الى بارا ، دفع حالهم النور عنقرة الى الاستسلام والتفاوض مع سيماوي ود امبدا وعبد الرحمن النجومي، وفيما بعد ارسل النور عنقرة الى معسكر الإمام المهدي في الجنزارة ، في يناير ١٨٨٣م وبتحرير بارا صار الطريق سهلًا لتحرير الأبيض.
اخيراً وقفتان توقعتهما في القصيدة كتلة شاكر وكانت تحتاج لإطلالة افضل وأطول لأنها في عبقريتها حاكت اسلوب المك نمر في قضائه على اسماعيل باشا وتميزت كتلة شاكر بأنها منازلة حربية حقيقية قضى فيها فرسان دارحامد فزارة على أورطة بقيادة شاكر افندي مأمور الأبيض وغنموا سلاحه. ولذلك وددت لو وقف الشاعر على المرخ ورمال الوادي وعطر قصيدته برائحة السدر والنوار وتوقعته ان يطيل الوقفة للتغزل في رمال أزحف ليمجد واقعة بطولية أخرى لاسلافه، فقد شهدت أزحف أول تحالف (وطني) لتحقيق هدف قومي وديني وضم التحالف يومها دارحامد فزارة والكواهلة ودارحمر والجوامعه وبني جرّار. وفي الحقيقة كان تحرير أزحف ملحمة وكان كلمة السر لتحرير بارا التي أيقنت بعد هروب قائد أزحف محمد أفندي الكردي إليها ان تطهير بارا من الاستعمار صار أقرب من حبل الوريد.
هذه الإشارات لا تقلل من القيمة الأدبية الكبيرة للقصيدة وللشاعر ولصرخته الداوية ولمحاولته إحياء التراث بإحياء فضائل الفزع والعمل الجماعي والنجدة والتكاتف.
والقصيده تدافع عن نفسها بقوة عبارتها. فلطالما حرك الشعر الموتى وأثار الحمية والحماسة. ولمثل هذه القصيدة دور وظيفي في إبراز التراث الشعبي وتأكيد أهمية العمل الجماعي في السلم وفي الحرب لتحقيق اهداف سامية كحماية الأهل والدفاع عن الأموال والأعراض.
تحياتي
د الطيب حاج مكي
٢٨-٩-٢٠٢٣