تجتر الكتابة التاريخية عن المهدية مؤلفات عنها بأقلام سلاطين وأوهروالدر وونجت. وهي كتب قال المؤرخون مثل بيتر هولت ويوسف فضل حسن وج ن ساندرسون أنها مما يؤخذ منه بحذر لصدورها بإشراف مخابرات الجيش المصري التي كان عليها ونجت باشا. وداخلها، كما هو متوقع، غل كثير. فكانت استراتيجية المخابرات في ذلك الوقت أن تغزو السودان. واحتاجت لتبشيع عهد الخليفة عبد الله لكي تستفز الرأي العام البريطاني فيأذن للبرلمان بتمويل الحملة على السودان. ولم يقتصر التبشيع على كتب التاريخ فتدلى للعامة في شكل مسرحيات تزري بالمهدية على مسارح لندن والقاهرة. ولي كتابات قصيرة عن حاضنة هذه الكتب عن المهدية أعيد نشرها لينمي كتابنا حذراً علمياً في ما يستعينون به منها على المهدية.
ونجت: شاتم الخليفة عبد الله
عبد الله علي إبراهيم
(16 سبتمبر 2018)
قلت لأصدقاء الفيس بوك إن السبيل لفهم تاريخي للمهدية أن نحسن نقد مصادر معرفتنا عنها. وفي المقال التالي وما بعده أكتب عن ملابسات صدور بعض الكتب عنها من مطبخ استخبارات الجيش المصري الذي كان يديره ونجت باشا ويعمل فيه نعوم شقير موظفاً صغيراً. ولقيت المادة في كتاب للمؤرخ الأمريكي مارتن دالي:
Martin W. Daly, The Sirdar: Sir Reginald Wingate and the British Empire in the Middle East (Philadelphia: American Philosophical Society, 1997). Pp. 360. $30.00 cloth.
فإلى كلمتي
راجت نظرية “موت المؤلف” لواضعها رونالد بارث الفرنسي في 1967. ومؤداها أن النقد لا يفيد في معرفة نوايا المؤلف من كتابه ولا من خلفيات حياته الفكرية والشخصية. فالمؤلف مات وشبع موت ولم يبق لنا إلا ان نتعامل مع نصه فقط لا غير. وكنت استحسنت الفكرة وقلت إنني ماركسي مات أو هلك ماركس بتاعي. بمعنى أنني غير معني به، اتسقط خبره أو تأويله. فما بقي منه يكفي لاجتهاد جريء لا نتكفف الرجل الاستشهادات ولا “نكسر تلجه” طلباً للصحة والأرثوذوكسية.
ولكني تراجعت عن تعلقي بنظرية موت المؤلف منذ قرأت عن السير ريقنلد ونجت (حاكم السودان (1899-1907) ومؤلف (المهدية والسودان المصري) ومحرر “عشر سنوات في أسر المتمهدي” للقس أوهرولدر عن تجربة الرجل في سجن الخليفة وأمدرمانه التي شرد منها بفضل ونجت. فونجت كان وقتها مسؤولاً عن استخبارات الجيش المصري العسكرية. وكان نعوم شقير، صاحب كتاب تاريخ وجغرافية السودان، كاتباً صغيراً بها. وكانت هذه الكتب جزء من آلة الاستخبارات الإعلامية لإقناع البريطانيين بوجوب غزو السودان وتخليصه من حكم الخليفة عبد الله. ونصح المؤرخ ساندرسون أن نأخذ هذه الكتب بكثير من الشك متى كتبنا عن عصر الخليفة لأنها دعاية.
بعد معرفتي ملابسات صدور الكتابين أعلاه من كتاب لمارتن دالي عن ونجت السردار صح عندي أننا لا ينبغي أن نقتل بعض المؤلفين لأنه لن يصح فهم نصوصهم بغير معرفة رزائلهم. فالخواجة ونجت رخيص بشكل. أقدم على تأليف كتابه وهو في محنة بلوغه الثلاثين من العمر ولم يلصف اسمه في أروقة العسكرية الإنجليزية. كان قد تزوج وله ولد والمعايش جبارة. فاتجه للكتابة عن موضوع السودان المثير (دائماً) وحملة الإنجليز عليه في 1844-1889 لزيادة الدخل. ولم يجد ناشراً. ولما عثرت مخابراته على أوراق عبد الرحمن النحومي بعد معركة توشكي أضاف لها روايات شهود العيان. وجدد العرض للناشرين يغريهم بهذا الفتح المعلوماتي. وترجم شقير رسائل النجومي. وسماها ونجت “رسائل المهدي” للإغراء
وقبل الحصول على رد من ناشر بدا ونجت تأليف الكتاب مع المفتش الإنجليزي للبريد المصري. فهو يزود المفتش بالمعلومات والمفتش يكتب. واختلافا وتناقرا. ولما قرأ رؤساء ونجت (لورد فرانسس قرانفل، سردار الجيش المصري ولورد كرومر قنصل بريطانيا في مصر) المخطوطة كان من رأي كرومر أن ينسحب ونجت من تأليفها لعلو نبرة السياسة وغلبة موضوعاتها فيها. ودافع ونجت عن “مؤلفيته”. فقال إن السياسة في الكتاب هي من شغل مفتش البريد الإنجليزي المار ذكره (يا قوويل!) وأنه سيزيل مادتها متى عاد لكتابته. واستغرب كرومر لكتاب عن الحرب مثله يؤلفه مفتش بريد. وقال ونجت لقرانفل أنه بالطبع لن يستطيع كتابة الكتاب الذي في ذهن كرومر وأن التاريخ حقائق لا مهرب منها. ويبدو أنه كان تعرض بالنقد لغردون باشا. ووعد بمراجعة المخطوطة بما يلقى القبول. وفعل. و”نظّف” الكتاب مما اعترض كرومر عليه وكان يرفعه فصلاً فصلاً لقادته.
من رأي مارتن دالي أن ونجت أراد من كتابه الشهرة والمال. وخاض الوحل للغاية. فنشر الكتاب باسمه مسقطاً اسم مفتش البريد ذي اليد العليا تأليفاً زاعماً أنه، وهو المثقف، لن يرغب في أن يتصل اسمه بالكاتب “الأمي”. وقبل المفتش بذلك وطلب نسخة هدية. وشكره ونجت لعونه بصورة عامة. ومن بين النسخ الهدية كانت واحدة منها للملكة. ولم ينجح الكتاب سوى في إثارة اهتمام سياسي محدودة. ووصفوه بأنه سمج. ولم يوزع سوى 300 نسخة رفض بعدها الناشر أن يطبعه في طبعة رخيصة للعامة.
ولكن مالم يحققه ونجت من كتابه حققه بكتاب غيره وهو كتاب أوهرولدر. ونوالي.
ونجت باشا: سنة 1892 وخمشة
عبد الله علي ابراهيم
26 June, 2010
قلت في كلمتي السابقة أن ونجت، حاكم السودان العام بين 1899 و1907، خواجة رخيص جنس رخصة. حذرنا المؤرخون من كتابه “المهدية والسودان المصري” وكتاب القس أوهروالدر “10 سنوات أسير المتمهدي” بوصفها كتب دعاية نشرها ونجت، رئيس قلم استخبارات الجيش المصري، للترويج لفكرة غزو السودان وتخليصه من حكم الخليفة الباطش. ثم قرأت طرفاً من كتاب” السردار” لمؤرخ “عموم” الحقبة الاستعمارية الضليع مارتن دالي، فوجدت أن الخواجة بتاع رمرمة بشكل. وفي كلمة الاسبوع الماضي رأينا كيف أراد انتهاز مسألة السودان الشاغلة (دائماً متعودة!) لتسويق كتابه “المهدية” ليلقى قرشين تلاته. حد ماخد منها حاجة؟ ورأينا أن كتابه فشل وقالوا إنه سمج. وعاد ونجت منه بلا خفين. “يجرجر أذيال الخيبة” أوقع.
وما لم ينله ونجت بكتابه من المصاريف ناله يكتاب أوهروالدر. وجاءته فرصة الكتاب وهو في حال سأم. فشل كتابه. وكان ينوي الاستقالة من الجيش بعد تعيين كتشنر (الذي لم يتمتع بحب أحد) سرداراً للجيش المصري. وفهم الإنجليز ضيق ونجت بذلك ووعدوه بمنصب رفيع في تركيا. ولم يتحقق له ذلك حتى بعد أن اجتاز امتحاناً في اللغة التركية. وهرب في الأثناء أوهرولدر من “ساير-كوبر” المهدية في 1891. وأجرى معه ونجت عدداً من المقابلات ورأى في قصته عن أوضاع المهدية حكاية مثيرة رابحة تعود له بالشهرة والمال.
وسعى بين الناشرين يغريهم بالحكاية. فطلبت منه دار ماكميلان فصولاً من الكتاب للضوقة لأنها لن تطبعه لمجرد أنه عن السودان الذي باخ موضوعه. ورفضته ماكميلان. وخاف ونجت من أن يجرى استبعاده من الكتاب فأخذ ترجمة قام بها أحدهم لفصول الكتاب، التي وضعها أوهرولدر بالألمانية، وحررهها في لغة إنجليزية سليمة. وخشي أن يطبع اوهروالدر النسخة الألمانية فيكون من حق أي ناشر أخذ حق ترجمتها في الإنجليزية بعيداً عن ونجت. واسعفته دار سامسون فطبعت الكتاب في 1892. وظهر اسم وونجت كمؤلف بحجة أن النسخة الإنجليزية منه قائمة في ذاتها وليست ترجمة للألمانية. ووافت جملة الكتاب الأخيرة بغرض ونجت الاستعماري. ففيها يحث الكتاب أوربا وإنجلترا بالذات بعمل شيء لإنقاذ السودان. حتاما. نجح الكتاب بسرعة ووزع في شهرين ألفي نسخة وصدر في نسخة شعبية في 1893. وحصل ونجت على 323 جنيه استرليني أتعاب “خمش” هي نصف ماهيته السنوية (720 جنيه). ما بطال!
لم يأت ذكر كتاب سلاطين “السيف والنار” في ما قرأت عند مارتن. وهو كتاب صدر في نفس ملابسات التعبئة ضد حكم الخليفة.
ونجت مع الأمير الأسير محمود ود أحمد وجاء ذكر ذلك الموقف في “موسم الهجرة للشمال”
IbrahimA@missouri.edu