جوبا – 5 أكتوبر 2023م
أكثر من صديق عبروا لي عن فائق رضائهم عن مقابلاتي وتسجيلاتي، بل منهم من يزعم بتفوقها على كتاباتي المطولة والملتزمة لقواعد الكتابة الرصينة … إلخ. وقد اعتمدوا في حكمهم هذا على واقع الحال من حيث سهولة إيصال المفاهيم لعامة الناس عبر الوسائل السمعية والبصرية للسوشيال ميديا مقابل الكلمة المكتوبة.
مع شكري وتقديري لأصدقائي، تثور العديد من التساؤلات حول مدلول كلامهم الذي يتجاوز حد إبداء الإعجاب إلى حد التوصية بما يجب أن تكون عليه آليات تبادل المعرفة في هذا العصر. هذه التساؤلات من قبيل: هل الذين صنعوا تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والسوشيال ميديا استغنوا عن الكتابة؟ ثم هلا دلنا هؤلاء الأصدقاء على الكيفية التي يمكن أن يقوموا عبرها، بخلاف الكتابة، بتوثيق ما نقوله؟ وهكذا دواليك!
بمجرد اكتشاف يوحنا قوتنبيرق للطباعة في عام 1440م، أي قبل حوالي ستة قرون فقط، تم نشر مئات الآلاف من الكتب بمختلف الأحجام في أول عامين. هكذا تحققت النهضة في أوروبا وغابت شمسها في الشرق بسبب الطباعة في الغرب وانعدامها في الشرق إلى أن أدخلها نابليون في مصر قبل مائتي عام فقط.
ومن أكثر البلدان التي تُطبع فيها الكتب الآن هي الصين نفسها التي اكتشفت التيك توك.
إنه في رأيي، أن تسويق وسائل التواصل الاجتماعي، بين الشعوب المستضعفة، من قبل قوى الإمبريالية غربها وشرقها، حتى أصبحت وسيلة لا غنى عنها في الحصول على المعرفة عبر تجاوز المكتوب، أمر لا يخلو من نوايا مبيّتة من جانب هذه القوى، وهشاشة معرفية من جانب الشعوب المستضعفة. فالهدف منه يمكن أن يكون تكريس حالة الجهل بحبسهم واعتقالهم في التداول الشفاهي للمعلومات، وهو أمر مصيره الفشل ولا يمكن أن يتحقق نسبةً لكثافة تدفق المعلومات في هذا العصر. إذ لا يمكن أن نحتفظ في ذاكرتنا كل ما يمر علينا من مواد سمعية وبصرية.
الآن في مقدور أي شخص أن يحتفظ بالمقالات المكتوبة في ملف بجهاز الموبايل، مع القدرة على مراجعتها وتصنيفها، ثم الاقتباس منها والاستشهاد بأي جملة فيها بكل سهولة ويسر. فهلا شرح لنا المنادون بالانكفاء على الوسائل السمعية والبصرية كيف كان يمكن أن يفعلوا هذا مع التسجيلات والفيديوهات؟ نعم، هناك طرق ومناهج لعمل هذا، ودارسو العلوم الاجتماعية يعلمونها بحكم الضرورة فيما يجرونه من تسجيلات ميدانية لإفادات الإخباريين informants’ statements. لكنها أكثر تعقيدا بما لا يقاس عند مقارنتها بالإفادات المكتوبة وبالكتابة عموما.
وفي الحقِّ، لم ينجح الكيزان كما نجحوا في تكريس الجهل عبر النظام التعليمي، ذلك عندما لم يولوا أمر اللغة (عربية كان أم إنكليزية أو غيرهما) ومستويات تعلّمها أدنى اهتمام، فتدهورت لدرجة أن نرى طلبة دراسات عليا يُلحنون كتابةً وتحدثاً، ويرتكبون شنيعات الأخطاء النحوية في اللغة العربية بما لم يكن مقبولا قبل نصف قرن من خريجي الخلاوي. أما مستويات اللغة الإنكليزية فحدث ولا حرج، إذ لا يلحنون فيها فحسب، بل يعملون فيها معاول الهدم والتدمير بطلاقة يُحسدون عليها. وكذلك فعل الكيزان بالقيم الإسلامية والمسيحية وبكل مكارم الأخلاق، ذلك عندما تصدّر الساسةُ والمتمسحون بمُسوح الدين منهم مشهد الحياة العامة، فإذا بهم أكذبُ الناس وأكثرُهم إتياناً للباطل وأكلا لمال السحت، وارتكابا للمعصيات والمنكرات، حتى قتلوا النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، فأضعفوا البلاد والعباد، حتى غشيتنا بأُخرةٍ غاشيةُ الجنجويد، ولا غرو. فمن لا يؤمن بالدولة الوطنية ولا يؤمن بحق الشعب فيها، يدمرها ويُذيقُ الشعبَ فيها الأمرّين.
وما يؤسف له أن قادة الكيزان فعلوا هذا وهم يعلمون علم اليقين ما كانوا يفعلون. لقد كانوا يعلمون، فيما رفدت به التجربة البشرية، أن اللغة والدين هما بوابة الاستنارة والنهضة، ذلك ريثما يتم تجاوزها استقلالا، لا استغناءً، ذلك متى استقاما في الناس، واستقام الناسُ بهما.
للحيلولة دون هذا عمد مؤسسو دولة الكيزان على اتباع سياسة تجهيل الأجيال الجديدة، ثم تكريس هذا الجهل فيهم. وقد دشن كبيرهم الترابي سياسة ما عُرفت بثورة التعليم العالي بمقولة شهيرة له، وهي أنه قد آن أوان تدمير الصنم! وعندما سُئل عن هذا الصنم، قال إنه “جامعة الخرطوم”! وكنا عذرناه لو أنه قصد من ذلك تدميرها من حيث وظيفتها غير الأكاديمية، كونها مصنع طبقة الأفندية مقطوعي الطاري، ذلك بأن يؤسس لجامعات أخرى لا تقل قدرةً عنها، من قبيل جامعتي الجزيرة وجوبا في السبعينات. لكن الترابي، هذا الرجل الإيديولوق Ideologue، كان ينوي عمل شيء مختلف تماما: فهو كمن قام بتفكيك طوب وحجارة جامعة الخرطوم ليبني منها في المقابل أكشاكا صغيرة ومن ثم قام بتسمية كل كشك باسم جامعة كيفما اتفق. قاموا بهذا بعد أن عبثت أيديهم بالتعليم دون الجامعي، فعاثوا فسادا وإفسادا في مناهجه، ثم أسقطوا عاما كاملا منه، استجابةً لتوصية وزير التربية الذي كان ولا يزال يمتهن المحاماة، ولا علاقة له بعلم التربية. ثم زادوا الطين بلة، ذلك عندما أنقصوا أسبوع العمل من ستة أيام إلى خمسة أيام، دونما أي اعتبار لأي عملية إنتاجية تستلزم ذلك ودون أن يكون هناك إنتاج أصلا لتدميرهم جميييييع المشاريع الإنتاجية في البلاد. فماذا كانت النتيجة؟ ازدحم اليوم الدراسي للتلاميذ، وانتفخت حقائبهم المدرسية حتى ناءت بها ظهورُهم اللينة تحت كلكلها. ولم يعد في مقدور التلاميذ فهم ما يدرسونه إلا باستظهاره، فغلب التلقين على الفهم وعلى كل العملية التعليمية. ولا غرو! فقد صدر الكيزان من معرفة تلقينية، يقينية، غير نقدية، تجاه مجمل التراث العربي والإسلامي، فأضاعوه إلا من خطب جوفاء ومظاهر تديّنية منافقة. وفاقد الشيء لا يعطيه.
وبعد؛
إن عملية النهضة هي عملية خلق وإبداع، وبالتالي هي عملية مخاض. ولن تجد في باب الخلق والإبداع بين الناس ما هو أكثرُ مشقةً وإيلاما من عملية المخاض. وإنما هكذا يُصنعُ المجدُ! وقديما قال الشاعر:
لا تحسَبِ المجدَ تمراَ أنت آكلُه ** لن تبلُغِ المجدَ حتى تلعَقِ الصّبَرا
وعليه، إن الذين يرومون المجد من أيسر وأسهل أبوابه، إنما هم في حقيقتهم يضلون عن مَحجّتِه الغرّاء، ويلجون عبر أبوابٍ يمكن أن تبلغ بهم أي شيء إلا المجد. وما المجدُ الحقُّ إلا مجدُ الشعوب، وما مجدُ الشعوب إلا نهضتُها.
ويدوم الود والتقدير والاحترام للجميع؛؛؛
MJH
جوبا – 5 أكتوبر 2023م