في عام 1973م ونحن ندخل مدرسة كادوقلي الثانوية “تلّو” ، التي افتتحت لتخفف الضغط الزائد على خورطقت بكردفان. وجدنا أمامُنا فصلين من الطلبة، قد تم قبولهما من دارفور في ذلك الزمن الجميل ، عندما كان التعليم قومياً ، ينظر إليه بوصفه ركيزة للتنمية والوحدة الوطنية وتوحيد ثقافات المجتمع، إذ تتم عملية الCross mobilization للطلاب والمعلمين فتجد في المدرسة الواحدة معظم ولايات السودان وعاداتها وثقافاتها، فعرفنا لأول مرة أكلة ما يسمى ب “خميس طويرة” زاد الطلبة والمسافرين، الذي يأتي به طلبة دارفور في شنط زوادة من الصفيح. فنأكله معهم فتنتفخ بطوننا شبعا ونفوسنا حمدا لله على هذا المنتج الدارفوري اللذيذ. وناس دارفور يقولون “شايب دار صباح تراه ولا شايب .. شغلوا جوع بس..” نعم كنا لا نعرف القبيلة التي أصبحت اليوم أول مداخل التعارف التي ينبني عليها تصنيفات أخرى غير حميدة. كان الزميل أحمد إسحق يعقوب الملقب بأحمد المدني ابن جنينة دار اندوكا ضمن تلك المجموعة القادمة من دار فور. تلك المجموعة التي احدثت حراكاً ثقافياً لم تشهده المدرسة من قبل ، وكان بينهم الحاج آدم يوسف نائب رئيس الجمهورية الأسبق، ومحمود أبو ككه ذلك الدبلوماسي السلوك والمنهج. ومحمود أبو ككه شخص يحب أن يعيش الحياة كاملة متي تيسر ذلك. فإذا امتلك المال رحل من مجمع العزابة في السجانة بالخرطوم، ليسكن في أرقى الفنادق. وإذا قابلته دعاك لشرب الشاي في أرقي قاعات الفنادق السياحية (ذلك عندما كنا نشرب كباية الشاي بقرش فقط )، كان يطلب لنا براد الشاي بطقوس اضافية تُكلف جنيهاً كاملاً اي والله.. فنستغرب ونستمتع بالجلسة. وإذا انتهت فلوسه رجع ليسكن مرة أخرى مع العزابة في السجانة. فهو رجل له علاقات واسعة. فتجده عند د.منصور وزير الخارجية الأسبق رحمه الله، ومرة عند دريج السياسي المخضرم ورجل الأعمال، فيغدقون عليه العطاء، ولا ندري أين هو الآن. فقد كانت آخر معلوماتنا عنه أنه درس العلاقات الدولية بجامعة سانديقو بامريكا وأصبح خواجه.
ومن كادوقلي جمعتني الظروف مرة أُخرى مع أحمد المدني في مصر /القاهرة. وعلاقة دارفور بمصرـ وخاصة الجنينة قديمة، ولها خصوصية حيث رواق دار فور/ السنارية العريقين وبجوارهما كان يقع رواق المغاربة. نعم علاقة دار فور بالأزهر الشريف قديمة. ففي الأزهر درس شيخ إسحق والد أحمد المدني فقيدنا الراحل. كذلك درس الأنصاري على حسن تاج الدين له الرحمة، ثم كمل الدراسة بجامعة القاهرة ثم السوربون بفرنسا لنيل الدكتوراه في العلوم الإدارية. كذلك درس بالأزهر دكتور أحمد البشير من ضواحي نيالا، ودكتور عبدالله بريمه فضل من الفاشر، تلميذ العقاد، وكان موضوع رسالته للدكتوراه (المذاهب الأدبية عند العقاد)، كذلك شيخ حسين هارون وعبدالعزيز الملقب بآل سعود من الجنينة. وكان هناك العديد من أولاد دارفور الذين يبدؤون في مصر مراحل التعليم الأولى ولا يتخرجون إلا وهم يحملون الدكتوراه، يا لحبهم للعلم ،ويا كرم الأزهر الشريف الذي كان يحسن وفادتهم، ويوفر لهم فرص التعليم والإعاشة التي لم توفرها لهم بلادهم. في القاهرة التقيت أحمد المدني مرة أُخرى، ومن أجمل الصدق، كان في ذات يوم وصولي مطار القاهرة ، فأخذني إلى حيث سكنه في رواق دارفور / السنارية، وبقيت معه الى أن رتبتُ أُموري في مدينة الطلاب بجامعة القاهرة. كانت أياماً جميلة مليئة بالود والاحترام ،والبحث عن العلم في مختلف مظانه. وهكذا مصر، فدور التعليم العالي ومعاهدها كانت مفتوحة لمن يقصدها، وكانت تجمعني مع المدني فضيلة تصيد فرص التعليم الإضافي في مختلف الكليات والجامعات. فأحمد المدني كان في اللغات والترجمة بالأزهر، بينما أنا كنت في جامعة القاهرة بكلية الآثار وتاريخ الحضارات، لكن برنامجنا في الدراسات والعلوم الإضافية كان موحداً. فكثيراً ما كنا نلتقي في الجامعة الأمريكيةومكتباتها، وكم كنت أدعوه لحضور محاضرة لدكتور بطرس غالي أستاذ العلوم السياسية، وخاصة في مادة العلاقات الدولية، وذلك لمحاضراته الشيقة التي تجتذب اليه طلاباً من خارج كليته. ومثله دكتور خليل صابات عميد كلية الإعلام وخاصة في الإعلام الدولي. كان أحمد متعدد الاهتمامات. كان يشد الرحال لمشاركتنا محاضرات في اللغة الفارسية وآدابها، مفتوناً “بقصة هماي وهمايون” العاطفية. وكان يتذوق الأدب مطلقاً شديد الذكاء وقّاد الذهن. وأذكر مرة ونحن في محاضرة وهو حضور، ولخلفيته اللغوية الجيدة في ال Phonology& Phonetics ، فهو يتقدمنا بسنتين طالب لغات Linguistic ، فكان يناقش بروف أحمد الخولي أستاذ الادب الفارسي بطريقة لفتت انتباهه، وأُعجب بذكائه، فأستدعاه آخر المحاضرة يعرض عليه مساعدات إضافية لتطوير لغته الفارسية. بروف الخولي كان يأتينا من كلية دار العلوم / اللغات الشرقية ومحاضراته جاذبة، ولأول مرة أجد مصرياً بثقافة واسعة، يستدعيها أحياناً لكسر رتابة المحاضرات. ولأول مرة سمعت منه عن المفكر الايراني علي شريعتي ثنائي المذهب ( شيعي/ سني ) والذي تأسس فهمة على الربط بينهما عبر دراسات مقارنة و اُسس علمانية(فالشيعة يعتبرونه سنياً والسنه بحكم هويته يعتبرونه شيعياً بينما هو يأخذ من الاثنين حسب قناعته). وفهمنا من بروف الخولي أن معظم أفكار الخميني الثورية هي ذات أفكار الخميني علي شريعتي، الذي قتل بسببها في لندن من قبل متطرفين، قبل ثورة الخميني. فاخذنا نبحث عن كتبه في المكتبات، وفهمت لاحقاً أن أفكار الشيخ د. الترابي له الرحمة تلتقي مع على شريعتي في كثير من المناحي. كل ذلك أنشأ بيننا وهذا البروف صداقة خاصة ، لكون ذلك صادف ثورة الخميني وزخم حراكها من باريس إلى طهران. جامعة الازهر حيث مجمع مدينة البعوث الإسلامية الضخم كانت تمثل عدة شعوب. وفي محيطها، فإنك تشعر كأنك في غرب أفريقيا أو في شوارع أندونيسيا. فهناك الأفارقة يتحدثون بلكنتهم العربية الفصحي فنسمع صوتاً عالياً ” إلى أين أنت ذاهب يا صاحبي ؟” فتسمع آخر يرد، إلى العتبة لشراء بعض الحاجات من متجر صيدناوي؛ لأن فيه تخفيضات كبرى في الملابس”. يا لها من مشاهد رائعة حيث تجد المصريون ينظرون لبعضهم بدهشة، وهم يتسائلون فيما بينهم بصوت خافت. هم دول من الصودان؟ فيجاوب آخر لا يا عم دول بتوع أفريقيا!! هو أنت ما بتفرئّش بينهم و أخوانا الصودانيين ولا إيه!! وأحمد المدني كان يصر دائما على وحدة الأفارقة جميعاً ولا يحب تمييزنا عنهم.
كان في رواق دارفور/ السنارية عدد من السودانيين ومنهم نذكر ود أم مريوم ( نسيت اسمه كاملاً) أظنه من الجزيرة. وهو يدرس بكلية القرآن الكريم بالأزهر، حيث الدراسة على نموذج المدارس القديمة وحلقات الدراسة على سجاد داخل المسجد الازهر. ود أم مريوم كان كثير التشكّي من صعوبة المواد الدراسية. عندما يخرج من الامتحانات يشاغله أخونا موسى بيرق من شرق السودان بقسم اللغات والترجمة، فيسأله كيف الامتحان اليوم؟ فيرد علية “اليوم كان نار الله الموقدة” فيقول له موسى هل كانت الماده عندكم اليوم فيزياء نووبة؟ فيثور وينتفض ودم ام مريوم من هذا التهكم. في الأزهر كثيراً ما كان يدعوني أحمد المدني لحضور مناقشات رسائل الدكتوراه، خاصة عندما تكون لسودانيين. أتذكر أنني قد حضرت أكثر من (12) رسالة دكتوراه منها رسالة دكتور صالح أدم بيلو من النهود، ود.عبدالله بريمه فضل من الفاشر تلميذ العقاد، وعبدالعزيز المقالح من اليمن، ومهدي رزق الله من الدامر أو بربر وكانت حول تاريخ طرق التجاره بين مصر وشمال المغرب العربي.
وأذكُر أن النقاش كان حاداً حول أصل كلمة أفريقيا وهل تُكتب إفريقيا أم إفريقية، وفي الرسم الاخير كانت تعني تونس. هكذا كانت مؤسسات مصر التعليمية مفتوحة، تأخذ منها ما تريد من علم بدون قيود. كانت تسوقنا متطلبات الدراسية الى مواقع نأخذ منها الكثير. ففي دار الكتب المصرية، كنا نتصيد وجود الشاعر أحمد رامي، شاعر الكثير من أغنيات أم كلثوم ومترجم رباعيات عمر الخيام الفارسية. فكنا عندما نقابله نسعد بلطفة ،ويغمرنا باهتمامه ويقول لنا أنتُم السودانيون محبون للعلم، دون أن ندخل معه في كلام أو نقاش. كنا فقط نعبر له عن إعجابنا به لكونه شاعراً متعدد اللغات ومتقناً للفارسية وآدابها. أحمد المدني كان شُعلة من النشاط يحب التواصل مع الآخر، ووفيُّ لمن يعاشرهُ. وكانت غرفته سكنه في رواق دارفور / السنارية قبل انتقاله لمجمع البحوث الإسلامية، صالوناً للمنتديات الادبية والثقافية. وكان الشاعر المبدع أبو آمنه حامد رحمه الله، له حضور راتب فكنا نجالسه هناك، مستمعين ومستمتعين بتألقه في الأدب والشعر. حيث كان يعمل ملحقاً صحفياً بسفارة السودان بالقاهرة وفي ذات الوقت طالباً بكلية الإعلام بجامعة القاهرة. ابو آمنه حامد رجل مثقف جداً رقيق المشاعر. إذا لم تكن تعرفه مسبقاً لن تصدق أنه ذلك الشاعر ذائع الصيت صاحب قصيدة “سال من شعرها الذهب” وكذلك قصيدة “جمال العربي ” التي قالها مدحاً لعبد الناصر المعجب به إلى الحد الذي دفعه لتسمية ابنه باسم عبدالناصر كاملاً ” جمال عبد الناصر”، حيث قال فيها: قم صلاح الدين وأشهد بعثنا .. في لقاء القائد المنتصر أنت في أرضي هنا ..لست بالضيف ولا المغترب ..مرحباً بالقائد المنتصر . أبو آمنه حامد متواضع في مظهره لدرجة الإهمال، إذ لا يهمه من هندام الملبس أو شعر الرأس شيئاً ،فهو أدروب بكامل تفاصيله، رغم موقعه كمسؤول كبير في الخارجية، مما أدخله في الحرج في كثير من المواقف، وهو الدبلوماسي الشاعر المثقف. في جلسة بصالون الإبداع عند الراحل أحمد المدني، حكى لنا طُرفة ملخصها، أنه كان يغسّل ملابسه لدى غسال. وذات مرة افتقد أحد قمصانه فاتهم الغسّال بسرقة القميص، ودار بينهم نقاش حاد في ذلك. وفي إحدى المرات أراد الاستحمام، فأخذ يخلع القمصان التي كان يرتديها ويردفها فوق بعض من البرد. فاكتشف وجود قميصه المفقود مردوفاً تحت عدة قمصان. فشعر بالخجل من اتهامه للمكوجي. الشاعر ابو آمنه حامد شاعر رقيق لطيف بينه وأحمد المدني ودُ وأعجاب متبادل. فهو معجب بوطنية المدني الدافقة، وحُبه للوطن، فكان يقول له إني احبك لأنك عاشق للسودان. وأرى فيك كل تفاصيل إنسان الريف السوداني الصادق. بينما المدني معجب به لأنه شاعر قادم من الشرق متعدد الثقافات. هكذا كان إنسان جنينة اندوكا منفتحاً. تلك المدينة التي خرًجت الفيتورى، شاعر وعاشق أفريقيا الذي تغنى بها في ديوانه أغاني أفريقيا ، ذلك الشاعر الصوفي بشعره التأملي. وصاحب كلمات نشيد أكتوبر ” اصبح الصبح” التى صدح بها العملاق محمد وردي. والفيتوري يثير فيّ شخصياً شجوناً وأحاسيس لشخصيته الممزوجة بالعروبة ، المعطونة في الأفريقية ودمها الثائر ضد ظلم الأبيض للأسود. فتجسد كل ذلك في شعره وأحاسيسه الممزقة، المنقسمة بين مختلف ألوان الإنسانية . فهو سوداني ـ ليبي التكوين ، مصري الثقافة، لبناني المزاج والذوق، مغربي الأحاسيس، ومات في المغرب وفي قبره كُتب: هنا يرقد شاعر و إنسان مُبدع. الدكتور أحمد المدني سيرته الذاتية، ملحمة طويلة وتاريخ فهو أنصاري ابن أنصار وإن ابتعد قليلاً في الأيام الاخيرة ثم عاد. فهو ذو مواهب عديدة، اجتماعي عابر للقبليات، محب لجميع اللغات حتى الرطانات. يتحدث الفرنسية وبعض من الألمانية والتاريخ محب للأدب. تخرج الحبيب أحمد المدني في كلية اللغات والترجمة 1982م وبدأ حياته العملية أستاذاً للثقافة الأسلامية بنيجيريا ، ثم انتقل للعمل موظفاً في الأُمم المتحدة، حيث عمل بتشاد والسودان والكويت ثم وزيراً للصحة وكذلك للتربية والتعليم بولاية غرب دارفور. ثم تركها في استراحة محارب ، لإكمال دراسة الماجستير والدكتوراه في العلوم السياسية بجامعة بحري. عمل الراحل المقيم مستشاراً لوالي غرب كردفان المستشار محمد عبدالله الدومة. فكان يده اليمنى في إدارة شؤون تلك الولاية التي كانت تئن من أمراض القبلية، كذلك رافق المستشار الدومة في رحلة طويلة استمرت لشهرين طاف بها تجمعات السودانيين في أمريكا. لقد كنت على تواصل مع الراحل المدني حتى خروجه بعد الحرب إلى مدني. ثم انقطع التواصل بيننا وأنا بالسعودية لسوء الشبكة. وفي يوم وفاته26 سبتمبر 2023م، أرسلت له رسالة على الواتساب أسأل عن حاله. فاذا بي صُدمت في المساء بخبر وفاته، لعلة لم تمهله طويلاً. رحم الله الراحل المقيم أخي وصديقي الدكتور أحمد المدني الذي رحل وهو يؤدي واجبه الوطني وسط أهلُهُ النازحين بمدينة أدري على الحدود السودانية التشادية، متعايشاً وسطهم، يتحسس حاجاتهم وحوائجهم ويمسح دموع الأطفال اليتامى، وأُمهاتهم الثكالى ضحايا صراع الجنينة المحروقة، بعد أن كانت جنة خضراء أسسها وعمّرها سلطان دار اندوكا بالتعايش السلمي والتواصل والمقاربة بين قبائلها تحت سلطته، في ود ووئام لقرون. ذلك البناء الاجتماعي الذين دمره متطرفون سيطرت عليهم نعرة ” أنا وبس” فتصاعد خطاب العنصرية، فاشتعلت نار الكراهية لتكون دماراً على الجميع. تعازينا لأسرته الصغيرة والممتدة. لقد كان المدني سودانياً يفيض حباً لوطنه وبخاصة جنينة دار اندوكا ، بل كان حزمة من الفضائل تمشي على الأرض. فارقد في قبرك بسلام وإلى جنات النعيم بلطفك ورحمتك يا رب العالمين. Alalim_ahmed@hotmail.com
روح وريحان وجنة نعيم يا بابا