FROM FAKI to DUKTOR: Changing attitudes towards tradition among Sudanese rural intellectuals
Albrecht Hofheinz البريشت هوفهاينز
تقديم: هذا هو الجزء الأول من ترجمة لبعض أجزاء ورقة قدمها الدكتور البريشت هوفهاينز إلى المؤتمر الدولي الثاني للدراسات السودانية تحت عنوان “السودان: البيئة والسكان” الذي عُقد في درم بين يومي 11 – 18 أبريل 1991م. ونُشِرَتْ هذه الورقة في الجزء الثالث من أوراق المؤتمر (صفحات 96 – 106).
يعمل الأكاديمي الألماني البريشت هوفهاينز (الذي سبق لنا ترجمة مقال له بعنوان “أبناء الإمام الغائب: نسب عائلة الميرغني” أستاذا مشاركا في قسم الدراسات الثقافية واللغات الشرقية بجامعة أوسلو بالنرويج. وكان قد حصل على درجة الدكتوراه عام 1996م بأطروحة عن المجاذيب عنوانها: “التاريخ الاجتماعي والديني لحركة إصلاحية إسلامية في مرحلة باكرة من تاريخ السودان الحديث”، وعمل بالسودان ودول نامية أخرى في خدمة “مؤسسة التنمية الألمانية” والصليب الأحمر ومفوضية حقوق الإنسان. أنظر https://shorturl.at/mrU49
المترجم
لخص الشيخ محمد مبارك المجذوب (ابن مجذوب جلال الدين) وإمام مسجد والده بالدامر تقييمه لعملية التغيير في التعليم التي أحدثها البريطانيون في عشرينيات القرن العشرين (1) في جملة واحدة هي: “لقد أَماتوا القرآن”. وكان البريطانيون قد أدخلوا “تنظيما” جديدا يقضي بإشراف ومراقبة الدولة للمدارس الدينية (الخلاوي). وفي بدايات الحكم الثنائي كانت السياسة البريطانية حيال الدين (الإسلامي) تسعى لخلق كيان قوامه “العلماء” من المسلمين الموالين يتركز في مدارس ومحاكم المناطق الحَضَرِية، ويكون مضاداً لأي أثر بَقيَ من ايدولوجية المهدية. غير أن خشيتهم من تأثير زيادة النفوذ المصري في السودان، وإدراكهم أن ليس لأولئك “العلماء” أي تأثير يذكر على السودانيين، قاد السلطات البريطانية للشروع في الاعتماد أكثر فأكثر على الزعماء الدينيين المحليين. وفي سياق تلك السياسة، كان يُعتقد بأن الخلاوي هي القاعدة المؤسسية الملائمة التي يمكن أن توفر تعليماً ابتدائياً كان لازماً لتكوين مجموعة من الأشخاص الذين تلقوا ما يكفي من التدريب الذي يمكن به توظيفهم كتبةً في أول السلم الوظيفي. غير أن شيوخ الخلاوي (الفُكيا fakis) قاوموا تلك التغييرات المطلوبة في المنهج. وبعد نقاشات وجدالات مطولة حول تلك السياسة التعليمية عُدت فكرة إنشاء خلاوي تشرف عليها الدولة وتنظمها فكرةً فاشلة. وبعد عام 1937م تم اعتماد المدارس العلمانية (غير الدينية) هي أساس السياسة التعليمية. ومع ازدياد أعداد تلك المدارس (الحديثة) في الأربعينيات بدأت أعداد التلاميذ في الخلاوي في التناقص.
ومع تضاؤل أهمية الخلاوي، تضاءلت كذلك أهمية شيوخها وتراجعت مكانتهم (في المجتمع). ويفسر تهميشهم النسبي سبب رؤيتهم للعالم الحديث وكأنه واقع تحت سيطرة قوى غريبة ودخيلة (alien forces). ويقيم هذا التصور تعارضاً ثنائياً بين الحاضر والماضي حيث “كان القرآن حياً”، إن جاز التعبير. ومن ناحية “موضوعية”، فإن مثل هذه الصورة مشكوك في صحتها. فربما كانت المهدية قد عطلت تعليم الخلاوي بأكثر مما فعله الحكم الثنائي، وكان الحكم التركي – المصري للسودان قد سبق البريطانيين في محاولة التأثير على التعليم الديني (2). غير أن الحكمين الاستعماريين قاما، إلى حد كبير، بالعمل في البلاد عبر شيوخ الخلاوي. ولكن كان البريطانيون قد قاموا، من ناحية أخرى، بإحلال طبقة جديدة من المثقفين “العلمانيين” محل شيوخ الخلاوي، وحملت تلك الطبقة الجديدة أفكاراً وطنية/ قومية جديدة. ومن أجل الحفاظ على بقائها، قامت العائلات الدينية في الأرياف بالتكيف مع تلك الظروف المتغيرة. وبتأمل وإعادة تفسير تراثهم وتقاليدهم عملت تلك العائلات على الاستمساك بهويتها والدفاع عنها.
وأقدم هنا أربعة أمثلة من قادة “المثقفين” من مجاذيب الدامر (3) من أجل توضيح التنوع الكبير والتعقّد الشديد في تلك الاستراتيجيات. وعلى الرغم من أنني أدرك أن هناك خطاً عاماً ناظماً لنشوء ونمو تلك الاستراتيجيات (المتعلقة بالتكامل المتزايد للتقاليد والتراث مع الأنماط والمؤسسات الحديثة)، إلا أنه من الأهمية بمكان أن ننتبه للتفاصيل وللاختلافات والتباينات الدقيقة في التوجهات الفردية. وسأقوم هنا بوصف بعضا من ذلك لأوضح الكيفية التي استجاب بها أولئك “المثقفين” لتحديات الدولة الوطنية /القومية الْمُتَعَدِّية المُتَجَاوِزة للحد.
- مجذوب جلال الدين
يُعْتَبَرُ مجذوب جلال الدين آخر الشخصيات الدينية الملهمة التي حظيت بالقبول من كل المجاذيب. وعقب وفاته، لم يستطع أحد أن يسير على نهجه أو أن يحذو حذوه. وُلِدَ مجذوب في عام 1887م، وتولى خاله الشيخ المغربي تربيته. وحفظ القرآن وهو في السابعة من العمر، وكان لاحقاً من أول جيل من السودانيين الذين تلقوا تعليما علمانيا. وذكر عبد الله الطيب في صفحتي 8 – 9 من كتابه “من حقيبة الذكريات” الطريقة التي التحق فيها مجذوب جلال الدين بكلية غوردون. فبعد افتتاح الكلية في عام 1902م حث المأمور المصري في الدامر سكان المدينة على إلحاق أولادهم بالكلية في الخرطوم من أجل الاستفادة من تعليمها الحديث الذي سيضمن لهم وظائف عليا ستحافظ لاحقاً على أوضاع عائلاتهم الرفيعة في مجتمعهم. غير أن المجاذيب تخوفوا من أن يعمل ذلك التعليم العلماني على الاضرار بإيمان أولادهم، وقد يفضي إلى تَنْصِيرهم، وذكروا للمأمور أنهم يؤثرون التمسك بالقرآن وبأورادهم. غير أن المأمور حذرهم من أن رفضهم للتعليم الحكومي سيفسر على أنه إصرار عنيد على التمسك بعقيدتهم المهدوية، وسيكون لذلك الرفض عواقب جد وخيمة عليهم. وأقترح عليهم إرسال على الأقل واحداً من أولادهم للكلية. وتشاور أفراد العائلة فيما بينهم حول اقتراح المأمور. ولما لم يكن واحد من كبراء العائلة يرضى بإرسال ولده للدراسة في الخرطوم، استقر رأيهم على إرسال الصبي اليتيم (مجذوب) للكلية. أغضب ذلك القرار خاله (زعيم فرع النقراب)، غير أنه وافق أخيرا، على أمل أن يكون في ذلك خيرا لهم. وأخبرت العائلة المأمور أنهم قد اختاروا ابن الشيخ نفسه ليذهب للكلية، وتم تغيير اسمه الكامل حتى يبدو أنه بالفعل هو ابن الشيخ!
وعقب تخرج مجذوب من كلية غوردون عمل بالتدريس في المدارس الأولية والوسطى قبل أن يغدو في عام 1921م مدرساً للدين (خاصة الفقه المالكي والتجويد) واللغة العربية (والخط العربي) في الكلية التي تخرج فيها. وعقب تقاعده عن العمل في عام 1944م بقي بالعاصمة للعمل في “معهد أم درمان العلمي”. غير أنه آب للدامر عقب توقف الحكومة عن إعانة خلوتها لصالح التعليم المدني (حوالي عامي 1948 – 1949م)، وتولى بنفسه أمر تلك الخلوة بصورة مستقلة عن الحكومة. غير أن خلافات عائلية حول إدارة تلك الخلوة وعلمائها دعته في عامي 1950 – 1951م لبناء مسجد ومعهد علمي اسماه “معهد الدامر العلمي”. ولما ضاقت مباني ذلك المعهد بطلابه الكُثْر، حصل الشيخ على إعانة من الحكومة لتشييد مَبانٍ أكبر، وضع حجر أساسها الفريق إبراهيم عبود (عام 1959 أو 1960م).
اِمْتَازَ الشيخ مجذوب بالقدرة على الاستفادة من مؤسسات الحكومة، وفي ذات الوقت، أفلح في النأي بنفسه عن سيطرتها. لقد كان يدرك جيداً أن أنظمة التعليم التقليدي، كما تُمَارَسُ في الخلاوي، قد تجاوزت أيام تفردها وعلو كعبها، وأيقن أنها لن تستطيع الصمود طويلا في منافسة مدارس الحكومة العلمانية. ويمكن لأي شخص يؤمن بقيم تراثه وتقاليده ويعتقد بضرورة نقلها إلى الأجيال القادمة أن يرى بسهولة المدارس التي أنشأها المستعمر الأجنبي بحسبانها تهديداً قوياً للهوية المحلية. ولمعرفة مجذوب بقوة الحكومة الاستعمارية وجاذبية نظامها للعديد من بني جلدته، شعر بالحاجة إلى العمل من أجل المحافظة على التراث الإسلامي في ظل الظروف الجديدة التي وجد نفسه في خضمها. وتبنى الرجل أشكال التعليم الحديث التي خبرها وهو يعمل مدرساً للدين واللغة العربية في كلية غوردون، وعميداً لمعهده العلمي الخاص، مثل التدريس في فصول منفصلة، والحصص، وطرق الامتحانات والتخريج الخ. ولكنه، مع ذلك، كان يسعي أيضا للتركيز على المواد الدينية أكثر من المواد غير الدينية الأخرى. وبذل جهودا كبيرة من أجل الحفاظ على استقلاليته، رغم أنه دمج معهده في نظام تعليمي رسمي أكبر يؤدي إلى معهد أم درمان العلمي، وإلى جامعة الأزهر في نهاية المطاف. لقد كان يستنكر السياسة التعليمية الحكومية التي بدأها بابكر بدري، ولكنه كان على استعداد لقبول مساعدة الحكومة في إقامة معهده الخاص. وفي سنوات حياة الشيخ الأخيرة تحول معهده، ربما في عام 1973م، إلى مدرسة أطلق عليها اسم “مدرسة الشيخ المجذوب الثانوية العامة للبنين”.
وليس في خلوة الدامر اليوم (أي في بدايات تسعينيات القرن الماضي. المترجم) سوى ثلاثين تلميذا، أتوا جميعاً للالتحاق بالخلوة من غرب السودان، وليس من بينهم تلميذ واحد من المدينة نفسها. وللمقارنة، كان بخلوة الدامر 130 تلميذا في عام 1937م، وكان بمدرسة الدامر الأولية 70 تلميذا في 1939م. غير أن تلك المدرسة لم تكن نسخة أخرى من نوع المدارس الإنجليزية النمط التي ظهرت في سودان القرن العشرين، بل كانت تجمع بين عناصر مختلفة من تراث وتقاليد القطرين، في الجوانب الرسمية وكذلك في الجوانب المادية (مثل المناهج الموحدة، والامتحانات المركزية، والتنظيم الهرمي، والتركيز على القيم الدينية، وحفظ النصوص).
وكان مجذوب مهتما أيضا بتراث وتقاليد عائلته الصوفية. وساهم في تحويل التركيز من جَدٌّه الأعلى الفكي حمد إلى ممثلها الديني الأول الشيخ المجذوب. وحرص على إقامة حولية لشيخه، بدأت في عام 1915م، وتولى بنفسه كتابة “المولد” فيها. وحرص أيضاً على البحث عن كتابات الشيخ المجذوب وطباعتها، وعلى جمع أوراده وطباعتها وتوزيعها في كتاب صدر بُعَيْدَ عام 1962م. وبهذا وفر مجذوب لأتباع طريقته كتاب أذكار خاصاً بهم، مثل كل الطرق الصوفية الأخرى (خاصة تلك الطرق المنضوية تحت “المجلس الأعلى للطرق الصوفية” في مصر. وقد فارق مجذوب بنشره كتاب أوراد طريقته للعامة تقليدا كلاسيكياً عند الطرق الصوفية الأخرى التي كانت تحرص على عدم نشر أورادهم لغير من ينتسبون لطريقتهم إلا بعد أخذ الإذن من شيخ الطريقة.
وعلى الرغم من إخفاق مجذوب في خلق “طريقة مجذوبية” مركزية، إلا أنه أفلح في تحويل المركز الرمزي لمجتمع المجاذيب بالدامر من الفكي حمد إلى شيخ المجذوب، وصارت “دامر حمد” تعرف الآن بـ “دامر المجذوب”.
- محمد المهدي مجذوب
يُعَدُّ ابن مجذوب، محمد المهدي مجذوب (1919 – 1982م) واحداً من أهم الشعراء المشهورين في السودان الحديث. ولا أود هنا الدخول في نقاش أو نقد أدبي حول أعمال الرجل. بل أود هنا التطرق باختصار إلى التوتر والشَدّ المستمر الذي ظهر في أعماله بين الصورة الرومانسية لعالم طفولته ومشاعر الحنين إليها، وبين الحياة الصارمة والمضنية في المدن الجديدة. وبدت تلك الصورة واضحةً في العديد من أشعاره التي وصف فيها الحياة في الخلوة وحولها؛ تلك الأوصاف التي تتناقض بشكل مذهل مع تلك التي قدمها مفتشو التعليم البريطانيون، الذين دأبوا على الشكوى باستمرار من غياب ما اعتبروه تعليماً حقيقياً (أي معرفة القراءة والكتابة والحساب وغير ذلك من المواد)، ومن انخفاض المعايير الصحية:
كتب فرانسيس ونجت وهو يروي قصة إنشاء كلية غوردون ما يلي عن تعليم الأطفال في الخلوة:
“يتعلم أطفال القرى القليل من القراءة، وقدراً أقل من الكتابة، ويرددون ما يحفظونه لهم من القرآن وراتب المهدي، عن طريق معلمين أميين إلى حد ما، يجهلون أبجديات فن التدريس، ويفتقرون تماما للكفاءة، وتسيطر عليهم روح التعصب الشديد… أما المباني فهي مجرد أكواخ، يتلاصق فيها الأطفال تحت ظروف تعوزها أدنى شروط الصحة العامة. وتقدم الدروس وسط صخب وضجيج يصم الآذان”.
وكتب ج. اسكوت (4) في عام 1932م:
“يجلس الأطفال كل يوم لمدة طويلة (نحو 7 – 9 ساعات)، وبعض تلك الساعات في الليل، في أكواخ مظلمة وقذرة، والذباب يطن حول أجفانهم اللزجة، من أجل حفظ ما لا يفهمونه عن ظهر قلب، بينما يقوم مساعد غبي وكسول للفكي بجلدهم على فترات متقاربة – من العسير على طفل بين السادسة والعاشرة أن يحتمل كل ذلك، حتى وإن كان سودانياً”.
غير أن محمد المهدي مجذوب (مثله مثل عبد الله الطيب) ينقل صورة مغايرة، وجوا مختلفا للخلوة. فليس في وصفه للخلوة ذلك “الصخب والضجيج” الذي ذكر ونجت أن التلاميذ يدرسون في جوه. بل ذكر محمد المهدي مجذوب (5) جوانب أخرى مشرقة في الخلوة منها “الشرافة” (التي هي احتفال يشرف فيه التلميذ عندما يكمل التلميذ جزءاً معيَّناً من القرآن الكريم)، وجمع الحطب كل يوم أربعاء لإشعال نار “التقابة”، وصنع طعام “البليلة” (ترجم هنا الكاتب ما سطره محمد المهدي مجذوب عن ذكرياته في الخلوة في مقدمة ديوانه “نار المجاذيب” الصادر في بيروت عام 1982م، ص 11. وذكر أن عبد الله الطيب (صديق الشاعر) هو من اقترح عليه تسمية ديوانه بذلك العنوان. المترجم).
وكان محمد المهدي مجذوب يقول بأنه يرى طفولته على ضوء تلك النار المقدسة، وكان يتطلع لها ويستمع لحديثها، الذي انتشى به فشرع في الغناء. ومن “تلك الحياة البريئة النقية الخيرة” هاجر الطفل الصغير إلى الخرطوم “عاصمة الترك” ليدرس في “مدارس الترك” التي قال الناس عنها أنها تفسد طبائع وأخلاق تلاميذها، وتصرفهم عن مجتمعهم وتنفرهم منه. ولكن على الرغم من تلك التحذيرات تخرج محمد المهدي مجذوب في كلية غوردون وتعين موظفاً في الحكومة، أي غدا “أفندياً” ينعم بكل مزايا الحياة الحضرية. ولعل ما أحدث عنده باكراً توتراً وصراعاً (داخليا) بين الحنين إلى عاطِفِيّة وِوجْدَانِية أصوله الريفية التي أضفى عليها الكثير من الرومانسية كما هو موضح أعلاه، وبين عوامل الجذب للحداثة. وذهب الناقد المصري م. م. هدارة في كتابه “تيارات الشعر العربي المعاصر في السودان” إلى أن بعض قصائد محمد المهدي مجذوب تفصح عن سلوكه المتمرد على عالم والده الصارم التدين، إذ أن فيها ذكر لشرب الخمر والمتع الجنسية (6)، أو عندما يقلل من قدر “عروبته” ويشيد بالحياة الحرية الطليقة في جنوب السودان:
فليتِي في الزنوج ولـي ربـابٌ تميـلُ به خطاي وتستقيــمُ
أُجشِّمه فيجفلُ وهـــو يشكـو كما يشكو من الحُمَةِ السليـم
وفي حِقْـوَيَّ من خـرزٍ حـزامٌ وفي صَدُغَيّ من وَدَعٍ نظيـم
وأجتـرع المريسةَ فـي الحواني وأهْــذِرُ لا أُلام ولا ألــوم
طليـقٌ لا تقيـّدني قريـــشٌ بأحساب الكــرام ولا تميم
وأُصرعُ في الطريق وفي عيوني ضبابُ السُّكْرِ والطّربِ الغَشوم
وكان ينتقد المتنطعين والمتشددين في الدين ويصفهم بالنفاق، ويزعم بأنه خير منهم لأنه لا يحاول إخفاء خَطاياه. وكان يدين بمرارة خُبث وشرور أقربائه في الدامر، ويسمي نفسه “متمرد مدعوم بالقانون”. وكان في أحيان أخرى يندم على “خطاياه” ويشعر باليأس التام، على الرغم من أن توبته لم تكن قط مطلقة أو نهائية، ويعود بعدها إلى الملذات الحسية بحسبانها العزاء الوحيد في عالم عدواني ومدمر، حيث لم تعد التقاليد تساعد الفرد، بل غدت عبئا قمعيا شديد الوطأة عليه. وفي المدينة، كان يغني من أجل الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية (7)، ولكنه كان يعود للشكوى من متطلبات الحياة الحضرية، ويحن إلى الطبيعة، وبساطة أصوله الريفية التي يسود فيها السلم.
لقد كان محمد المهدي المجذوب متمرداً رومانسيا ضد القيود التي فرضها عليه عالم والده المتدين المتزمت، وصادمت رغبته في الحرية الشخصية. واختار – عن وعي – حياة الأفندية في المناطق الحضرية، ولم يُدَنْها أو يشجبها، على الرغم من كل تعقيداتها المزعجة. وعلى الرغم من أنه كان يحافظ على حريته الشخصية، إلا أنه ظل في ذات الوقت يعاني طوال حياته من شعور بعدم الانتماء والانسلاخ عن أصوله ومجتمعه. وكتب أن صور طفولته تشكل جوهر قصائده. وتعطي قصائده انطباعا كلياً بأنه شخص طُرِدَ من الجنة، ويحاول عاطفياً الآن التصدي لتحديات الحداثة والتعامل معها بفاعلية. وتشير قصائده إلى أنه – على الرغم من هجرته للمدينة والعيش فيها – إلا أن عقله لا يزال مرتبطاً بصوره الذهنية المأخوذة من موطنه “التقليدي”، والتي صاغها شعراً مليئا بالكثير من الرومانسية.
وعلى كل، فالرومانسية ظاهرة حديثة.
إحالات مرجعية
(1) عقدت أول دورة لتدريب شيوخ الخلاوي في عام 1918م. وبُدِئَ في تقديم إعانات للخلاوي في منتصف عشرينيات القرن الماضي.
(2) أدخل حكمدار السودان جعفر مظهر (1866 – 1871م) نظام إعانات مالية للخلاوي. واضطرت حكومة الخديوي إسماعيل لاحقاً لتخفيض تلك الإعانات نسبة للمشاكل المالية التي واجهت الدولة، مما أضر بأحوال “العلماء” والمدرسين الحكوميين المالية، وقلل من أعداد المدارس والخلاوي التي تدعمها الحكومة.
(3) شملت أمثلة الكاتب مجذوب جلال الدين (1887 – 1976م)، ومحمد المهدي مجذوب (1919 – 1982م)، ومجذوب النقر (1933 – 1987م)، ودكتور عثمان عبد الله (1935 -؟).
(4) كان جورج ك. اسكوت (1898 – 1987م) أحد أوائل المؤسسين لمعهد بخت الرضا عام 1934م، وألف فيه كتابا مدرسياً للأطفال اِتَّبَعَ فيه الطريقة التحليلية في تعلم اللغة العربية، انتقده فيه عبد الله الطيب وآخرون. سبق لنا ترجمة مقال له عن “اختبارات الذكاء في السودان”. أنظر الرابط: https://rb.gy/y8war
(5) ترجم هنا الكاتب ما سطره محمد المهدي مجذوب في مقدمة ديوانه “نار المجاذيب” الصادر في بيروت عام 1982م، ص 11. المترجم). وجاء في موقع لقناة الجزيرة بعض ما ورد في مقدمة ذلك الديوان: “ومن ليل الدامر الساكن الهامس بالنجوم انتقلت بعد الخلوة القرآنية في الدامر إلى مدارس الحكومة في الخرطوم، وحتى تخرجت من كلية غوردون، ولم ألقِ بالا بوعي كامل إلى هذه المدارس، ولم أمنع نفسي من شرورها وقشورها”. أنظر الرابط: https://tinyurl.com/y3srjs58
(6) ذكر الكاتب في الحاشية أمثلة لبعض القصائد التي تؤيد ما ذهب إليه، مثل “امرأة العزيز” و”غمائم الطلح” و”المطر”.
(7) أشار الكاتب في الحاشية إلى أن للشاعر قصيدة بعنوان “المنتظر” وأخرى بعنوان “المجاهد”، نشرهما عامي 1946م و1947م، وأهداهما لصديقه محمود محمد طه، الذي كان مسجونا في ذلك الوقت. وله قصائد سياسية أخرى منها قصيدة مدح للمحاربين في قناة السويس، وهجاء فاروق عند تنازله عن العرش، وعن “المتعاونون” في ذم اتفاقية تقرير المصير، التي أبرمها البريطانيون مع المصريين، وقصيدة ضد الطائفية بعنوان “عتاب إلى الأنصار” صدرت عام 1964م.
alibadreldin@hotmail.com